لقاء صحفي بمناسبة يوم المسرح العالمي
الأكاديمي المسرحي العراقي تيسير الألوسي: المسرح العراقي في وضع مزر بسبب الوضع المأساوي المحبط
لقاء مع: الدكتور تيسير الآلوسي أستاذ الأدب المسرحي*
أجرى اللقاء: محمد إبراهيم شريف\ جريدة القدس العربي يوم 3 نيسان 2007
* لماذا اختير يوم 27 آذار يوما للمسرح العالمي؟ وفي أيّ سنة؟
لقد جابه المسرح الحديث كثيرا من العقبات التي وضعته في مقدمة الصراعات الدائرة في مختلف البلدان وعلى الصعيد الإنساني العالمي أيضا. ولقد حاول المسرحيون الارتقاء بمهماتهم وتطويرها نوعيا عبر الانتظام في تشكيلات مسرحية من نمط الفرق التي مثلت مدارس مسرحية بعبنها واتحادات الجمهور المسرحي والروابط والنقابات التي نهضت بمهام متنوعة ثقافيا ومهنيا وكذلك على المستوى الاجتماعي السياسي العام.
وكان من ذلك ظهور منجزات بسكاتور وبريخت ومدرسة الأوتشرك أو التحقيق الصحفي في صياغة العمل المسرحي والمسرح التسجيلي بما يشرك المسرح في تنوعات المسيرة الإنسانية بعامة.. حتى إذا خرجت البشرية من الحرب الكونية الثانية كان للمسرحيين أنْ يؤسسوا الهيأة العالمية للمسرح ITI في العام 1948 وهي الهيأة أو المركز الشريك مع اليونسكو في مجال فنون العرض الحية؛ وتركزت الأهداف على تنشيط تبادل المعارف والممارسات المسرحية عالميا، وتعزيز التعاون بين فناني المسرح، وتعميق التفاهم لمزيد من ترسيخ قيم التفاعل والصداقة بين الشعوب عبرمحاربة أشكال التمييز العنصري والسياسي والاجتماعي.
وللهيأة العالمية للمسرح عدة لجان تخصصية مثل المسرح الموسيقي، والكتابة المسرحية، والشؤون الثقافية والتنمية، إلأى جانب عدة مكاتب إقليمية في بلدان مثل بوركينافاسو وفيها المركز الإقليمي الإفريقي.. وتونس وفيها مكتب اتصال ومقر لجامعة مسرح الأمم. وللمركز مؤتمرات وورش عمل واحتفاليات فضلا عن إصدارات مطبوعة تتناول الحركة المسرحية العالمية بالرصد والتحليل ويقوم المركز حاليا بإعداد قائمة كاملة للمسرحيات العربية ضمن كتابه "قائمة المسرحيات الجديدة".
كل ذلك جرى بجهود موحدة منظمة ومستهدفات ميدانية تلمست طريقها عبر المصاعب المتنوعة.. وقد جرت محاولات عديدة لرسم مشروعات وآليات للاهتمام بالمسرح وتنشيط دوره في الحياة وخلق الصورة الجمالية الصحيحة لها، ومن ذلك تحديدا نشير هنا التزاما بتوجه سؤالكم إلى موضوع اختيار يوم عالمي للمسرح يُعنى بإبراز كل تلك الأمور التي مرت مع المركز العالمي للمسرح وتبلورت الفكرة في العام 1961 بإجراء احتفالية متنوعة تبعث برسالتها إلى كل الشعوب بمختلف ثقافاتها وأطيافها الحضارية.
وكان المكلف الأول بكتابة رسالة المسرح هو الفنان المسرحي الفرنسي المعروف (جان كوكتو) وذلك في باريس في العام 1962 وتطورت الفكرة لاحتفالية سنوية وتمَّ تحويلها إلى يوم عالمي يجري احتفلت به معظم الدول الأوروبية والآسيوية وأرجاء العالم بأسره... ولعل مثل هذا التطور يدعونا لاستذكار الجهود الأولى التي انطلقت تبحث عن آليات تفعيل دور المسرح إنسانيا في عالمنا المعاصر وهو ما ينبغي أن نراه في اختيار كلمة المسرح لهذا العام 2007 في شخصية مركبة غنية بلغتي الخطابين المسرحي الثقافي والسياسي السيد القاسمي من دولة الإمارات...
* كيف ساهم المسرح في تغير سياسات الشعوب؟
قيل أعطني مسرحا أعطك شعبا مثقفا.. وكانت هذه العبارة السامية خير معبر عن حقيقة العلاقة الكبيرة بين المسرح من جهة وجموع الشعب من جهة أخرى.. ومن الطبيعي أن يكون الخطاب المسرحي بمكانة أبعد من حدود معطياته الفنية الجمالية عندما يدخل في مناقشة أعمق الصراعات وابعدها خطورة في الحياة البشرية وعندما – تحديدا – بدأنا نسمع هدير أقدام بُناة الحياة الحقيقيين على الركح من خلال أعمال مسرحية معاصرة وعبر مدارس فنية سبق أن أشرنا إليها في إجابتنا عن السؤال السابق.
وصرنا نجد مساهمة حية فاعلة للمسرح في الارتقاء بالفكر الإنساني الحديث وتطويره ودفعه بعيدا إلى أمام. كما وجدنا لدى جمهور المسرح الردود القوية الناشطة من مثل الخروج بمظاهرات سياسية كما كان يحصل على سبيل المثال في خمسينات القرن المنصرم في المسرح العراقي تحديدا.. وصار المسرحي الذي كان يُستهان به ويُزدرى يتبوأ مكانات مهمة وانتخب رئيسا لبلاد ووزراء ونواب في مجالس تشريعية وزعماء حركات سياسية فضلا عن مكانتهم الخاصة من مواقعهم في ريادة المسرح وخطابه الجمالي الثقافي الخالق للحياة المؤملة المرتجاة..
إنَّ قراءة ثقافة شعب وصورة مدنيته وحضارته تتوقف بفقرات واسعة مهمة منها عند قراءة الخطاب المسرحي وآلياته ونحيل هنا إلى قراءة الحضارة الأغريقية المستمة بطابعها العقلي في ضوء قراءة فلسفتها وطبعا وبالتأكيد في ضوء قراءة الأعمال الدرامية الأغريقية التي نقرأها وندرّسها هنا في مختلف تخصصات العلوم الإنسانية. ومثل هذا يجري في قراءة النص الدرامي في حضارات وادي الرافدين ووادي النيل وغيرهما... وإذا ما اتجهنا بسرعة سنلاحظ أن عصر النهضة عكس بتغيراته العاصفة وتحرره من اللاهوت الكنسي الذي تحكَّم بالقرون الوسطى مزيدا من التفاعل مع ثقافة المسرح الشكسبيري صاحب التأثير والفعل في الحياة الإنسانية مذ ذاك ومرورا بعضر التنوير والعصر الحديث.. وهكذا فالمسرح له باعه ودوره المميز في مسيرة الشعوب ومنجزها الحضاري، ما كان له أثره في الاحتراب والتناقض الدائم بين الظلاميين وقوى التخلف من جهة وبين المسرح والمسرحيين وقوى التنوير من جهة أخرى..
إنَّ المسرح يدخل في ثقافة الطفل والنشئ ويدخل في بناء الأرضية الجمالية للتطلع لبناء المجتمع بناء نوعيا إنسانيا صحيحا صائبا.. ويمكننا رصد الأمر في أيّ بلد يفتقر للمسرح أو يغتني فيه المسرح حيث سنلاحظ مقدار الجدب والفقر في احترام الإنسان وقيمه حيثما افتقر مجتمع للمسرح وبخلافه مقدار التقدم والتنوير والتفتح في مجتمع يُعنى بالمسرح ويزدهر فيه النشاط المسرحي ليمثل ميدان الانعتاق الفكري والبيئة الحرة للحوار والسجالات السلمية البناءة للحياة...
* من أين كانت بدايات المسرح عالميا وعربيا ومن هم أشهر كتّابه؟
ينبغي لنا هنا أن نتوخى الدقة والموضوعية في الإشارة إلى بدايات المسرح عالميا.. إذ الدراما إبداع قرين للتطور البشري وهو فن يعبر عن مجتمع دولة المدينة وحضارتها حيث يصيب الانقسام المجتمع بعد مسيرة تقسيم العمل.. وهكذا نتابع الصراع بوصفه جوهرا تأسيسيا للدراما.. ولأنَّ أول المدن وحضارتها كانت في بلاد سومر فقد رافق فن الدراما تلك الولادة وقد أتاحت الكشوف الأخيرة توكيد هذه الرؤية على الرغم من كل الاندثارات وأعمال تخريب التي أعدمت النتاج العقلي الثرّ لحضارات وادي الرافدين ومعروفة وقائه المكتبة الرافدينية منذ مكتبات مدن سومر وآشور ومرورا ببغداد العلوم والفنون وحتى حرائق المكتبات ومؤسسات التوثيق الحديثة التي ما زالت مشتعلة بأيدي الإرهاب حتى يومنا. لكن أبرز الأعمال التي وصلتنا وصادفت الدراسات النقدية والتنظيرية هي أعمال الثلاثي المسرحي الأغريقي أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس وهي النماذج التي ظلت معيارا للدراما الأولى الأنضج بعد مسيرة تاريخية لتحولات في ولادة هذا النوع الجمالي للإبداع.. مرورا بأعمال عصر النهضة والتنوير حيث أعمال شكسبير ثم راسين وكورنييه فأعمال العصر الحديث سواء لدى كتاب الدراما أم مخرجيه المعروفين..
وعربيا وبعيدا عن الظواهر المسرحية تبدأ المسرحية فنا مستقلا مكتملا بمارون النقاش ومسرحية البخيل في العام 1847 فيما تمثل لطيف وخوشابا لنعوم فتح الله السحار أول المسرحيات العراقية في العام 1892 ويقدم للمسرح العربي أبو خليل قباني بدمشق أبرز أعمال التأسيس على الرغم من الظروف القاسية المحيطة اجتماعيا وسياسيا.. ويكون لشعراء العربية محاولاتهم في الولوج لميدان الدراما كما لدى أحمد شوقي فيما يبدع كتّابنا كما يفعل الفنان يوسف العاني عندما يقدم أول مسرحية في مسرح العبث العام 1949 ويُعد العاني واحدا من أبرز المجددين في المسرح العربي على صُعُد التأليف أم التمثيل وإبداع الدراما بهوية إنسانية متفتحة.. وهكذا تجدون المسرح العربي قد بدأ حوالي منتصف القرن التاسع عشر ونهايته في كل من مصر والشام والعراق فيما تأخر في البلدان العربية الأخرى حتى مطلع القرن الماضي..
* لماذا لم يخرج المسرح العربي من حدوده الإقليمية؟ أو أن المسرح العربي ظل حبيسا داخل إقليمه المحدد؟
هل حقا ظل المسرح العربي حبيس حدوده الإقليمية؟ لا أعتقد ذلك صائبا بصفة مطلقة وإذا صحَّ الأمر فهو بحدود نسبية تتعلق بدوامة الصراعات التي خاضها المسرح العربي والمسرحيون الناشطون فيه.. ومعروفة مجابهة أوضاع الجهل والتخلف الاجتماعي الثقافي منذ يعقوب صنوع فجورج أبيض ونعوم فتح السحار وأبو خليل قباني ومرورا بفناني المسرح الذين كانوا غالبا ما يقرنون بفناني الملاهي الليلية بخاصة النموذج السلبي المرضي حتى أن أغلب الدول العربية ما زالت حتى يومنا تفرض ضريبة الملاهي على من يدخل إليها بجواز فنان مسرحي..
ومارس الحصار الإهمال الخطير من الجكومات العربية للمسرح بل محاربته لكونه أداة تنويرية تشيع ثقافة العصرنة والتحديث ما يتعارض مع أشكال الحكم المتقادمة العتيقة والظروف المادية الفقيرة للمسرحيين ومسارحهم الملتزمة بالتحديد. لكن صعود نجم المسرحية العربية جاء عبر البعثات واللقاءات مع التجاريب الدولية المتنوعة الثرّة والقدرات الإبداعية المميزة التي بحث في دائرة الموروث العربي من حكايات سردية وظواهر مسرحية فكانت لدينا أعمال مميزة من الحكواتي والمقهى ومجالس التراث ومدارس مسرحية أخرى.. جميعها صار لها قدرة الانتقال والتفاعل مع المسرح العالمي وإن جاء ذلك متأخرا وعلى استحياء من جهة الدعم المادي المحسوس للمسرح بخلاف قدراته الإبداعية المميزة والكبيرة...
* ما هو الاختلاف في المسرح العربي بين الأمس واليوم؟
المسرح العربي بدأ تقليديا يحاول نقل التجاريب المسرحية من المشهد الأوروبي في فرنسا وإيطاليا وأنجلترا إلى القاهرة وبغداد ودمشق.. ولكنه مع ذلك سرعان ما التفت إلى عمق تاريخ المشهد المسرحي سواء في حضارته العربية القريبة أم في حضارة وادي الرافدين ووادي النيل. واستوعب المسرحيون أهمية النظر بالاتجاهين بقراءة التراث والجذور وبتعميد الحاضر والتطلع لمستقبل يحمل خصوصية الهوية الإنسانية لكي يكون بالفعل مسرحا ينتمي لوجوده الإنساني ومحيطه وجمهوره إذ لا مسرح بلا جمهور...
ويمكن للمتتبع أن يرى الفروق بين مراحل النشأة في المسرح العربي وهي مراحل كثيرا ما اعتمدت الاقتباس من المسرح العالمي وإن بإبداع مستقل أو ناقشت أمورا تُعنى بالعائلة والفرد في دائرة علاقاته الشخصية بالتحديد برؤى رومانسية ولسيادة هذا التيار جماليا كان له أثره في سيادته في معالجاته ما جعلنا نجد المسرحية التي تُعنى بالبطولات الوطنية والقومية التاريخية وهذا موجود على حد سواء في المسرحين المصري والعراقي وهما المسرحين الأبرز عربيا...
فيما ارتقت المسرحية العربية مذ التزمت الواقعية في منتصف القرن المنصرم وصعد نجم الخطاب السياسي في المسرحية العربية ما جعل تطورها يتعمد بالموضوعات الاجتماعية الغنية التي ناقشت الصراعات الطبقية وتطور المجتمع وتناقضاته ومسيرته في مختلف البلدان العربية ليسجل المسرح العربي معالجاته ورؤاه الفكرية جماليا مسرحيا تجاه قضايا الديموقراطية والتقدم الاجتماعي والتنمية بشكل يظاهي تأثير جهود الشعر والرواية العربيين ويتجاوزهما أحيانا..
ونجم عن ذلك تأكد هوية مسرحية عربية عبر نماذج مجالس التراث والحكواتي وتجاريب وطنية محلية أخرى في المغرب وفي الخليج العربي إلى جانب العراق ومصر.. ووجدنا بنى درامية محدثة في المسرح العراقي ترتقي لمستويات جمالية فنية مميزة كما في أعمال مسرح يوسف العاني وأعمال أخرى كثيرة...
* ما الفرق بين المسرحين العربي والأوروبي؟
سؤال المقارنة بين نمطين أو هويتين عادة ما يحتاج للتوقف عند شواهد تلك الخصوصية ومعالمها النوعية. فالمسرح الأوروبي مدارس غنية عريقة متصلة المسيرة في تطورها عبر قرون بعيدة خلت.. ولدينا فيه سليل العصر الأليزابثي المسرح الشكسبيري وسيأتي برنارد شو برؤيته ولدينا سليل عصر التنوير الفرنسي وستظهر مدارس حديثة في المسرح الفرنسي من نمط ما ينسجم والواقعية والوجودية والعبثية وغيرها ولدينا مسارح عديدة تسلسلت حتى صرنا مع مدارس متنوعة غنية كما في مسرح بريخت... وبين تلك المدارس الغنية جماليا وفكريا والتجاريب الجديدة بخصوص مسمى المسرح التجاري المأخوذ عن برودواي نيويورك بون واضح ولكن تقنية الإبهار تظل ذات شأن وخصوصية لا يمكن إلغاؤها...
ومسرحنا العربي مذ ولادته جاء أخلاقيا ملتزما بأجوائه المحيطة وتطور بمنطق الواقعية في جمالياته، إلا أنه لم يخلُ من أمور منها تقليد التجاريب الأوروبية أو استعادتها مع التجديد وتبادل التأثير والتأثر كما لم يخلُ من التأثر بإدخال عوامل الإبهار والتوجه لنمط المسرح التجاري بتفاصيله ومواءمته لمجتمع الانفتاح الاقتصا اجتماعي والسياسي الليبرالي المعروف بُعيد ستينات القرن المنصرم..
إن مسايرة المسرح للتطورات المجتمعية يجعله في حال من مواضع اللقاء والقواسم المشتركة فنيا وإن وُجِدت فروق فهي تعود لعوامل اللغة وطبيعة الخطاب الجمالي والفكري ورؤى المعالجة فيهما وإلى العامل القومي المخصوص في كل بلد وما ينعكس في الموضوعات المتناولة وفي النتائج التي تنعكس على جماليات العرض وأوالياته وتأسيساته الفنية... ولهذا السبب يمكننا الحديث على سبيل المثال عن عوامل لقاء بين الراوي في المسرح التغريبي الأوروبي ومسرح مجالس التراث العربي مثلما نتحدث عن خصوصية لكل منهما ولجذورهما التاريخية والراهنة..
* دراما مقارنة بين مسرح شكسبير والمسرح الحديث \المسرح التجاري الآن؟
كأني أجد في محاولة تساؤلك هنا التوكيد على الغنى الجمالي الفكري الموضوعي لمسرح شكسبير بما فيه من ثراء في المشهد الإنساني وقيمه الأخلاقية الواقعية والحكمة المستقاة من وراء معالجاته وسمة الخلود الإبداعي فيه.. بمقابل سمة البهرجة الجمالية المؤقتة المشحونة بالراهني الذي سرعان ما ينتهي بعجالة وتنقضي حدود مؤثراته ومعالجاته كما لو أنها أنموذج لواحدة من فارصات FARCE أيام زمان السطحية السريعة في تناولها مادتها..
إنَّ ولادة مسرح شكسبير جاءت على أساس دواعي تطورات عصر النهضة الأوروبي فضلا عن هوية مبدعه وخلفية رؤاه الجمالية الفلسفية ومنطقه العقلي المكين ومن الطبيعي أن يشهد مثل ذلك تحولا نوعيا عاصفا وعمقا لا يُدانى فيما جاء المسرح التجاري استجابة لرغبات حسية بعيدة أنسنة الحياة البشرية وجمالياته وبعيدا عن أيّ عمق مستجيبة لسطحية التفكير لدى الجمهور المفترض لهذا اللون المسرحي وما يحتاجه من مدابعبات رغباته المرضية الدفينة في المتاجرة بأحط الانفعالات وتسطيح القيم الإنسانية وجعلها محصورة بقيمة أحادية مجردة لا تتشرب أيّ عمق وجداني أو عقلي منتظر من وجودنا بقدر ما تستجيب لطبيعة جمهور بعينه وتؤكد مستهدفاته الشكلانية المفرّغة من المحتوى الإنساني..
ومن الطبيعي ألا يكون بين بنيتي المسرحيتين الشكسبيرية والبرودوايوية علاقة تقابل كبيرة فالأولى تنتمي لجنس درامي بشخصية مدورة مركبة وببنية عميقة غنية موضوعيا وفلسفيا جماليا فيما مسرحية برودواي سطحية بكل مفرداتها الشكلانية الخارجية في بخرجتها وإبهارها... وما يتبع كلا المسرحيتين من نتائج في العلاقة مع التاريخ المسرحي ومعطياته ودلالاته سيكون بالضرورة مختلفا تماما...
* من الذي أثر على المسرح العربي؟
بالعودة لأسئلتك بشأن المسرح العربي أرجو أن يكون واضحا أن البداية كانت مع كل من مارون النقاش وأبو خليل قباني ويعقوب صنوع وسلامة حجازي ويوسف وهبي ونعوم فتح السحار وسليم بطي وسليمان صايغ وسليم البصري وشهاب القصي ويوسف العاني وقاسم محمد وبدري حسون فريد وعادل كاظم وسامي عبدالحميد ومحي الدين زنكنة وجليل القيسي ويمكننا أن نعدد عربيا وعراقيا أسماء بالعشرات من تلك التي ناضلت وكافحت طويلا من أجل إعلاء شأن المسرح وتعميد مسيرته بالنجاحات والإبداعات المميزة... ولكن العودة إلى قوائم المدونات على الأنترنت وفي الصحف والدوريات والمؤلفات ما عادت أمرا معقدا ويمكن من خلالها الاطلاع على تلك الأسماء النجوم اللوامع في مسرحنا.. وهي نجوم تلألأت بفضل إبداعها وبفضل تضحياتها في ظروف بيئية عادة ما كانت محبطة ولكنها لم تمنعهم من مواصلة الحفر في الصخر..
* كيف تنظرون إلى المسرح العراقي الآن؟ وهل ترون أنه دخل مرحلة مختلفة عن تاريخ المسرح العربي والعالمي؟
المسرح العراقي اليوم بالمعنى الحرفي للحدث في وضع مزرِ ِ بسبب من الواقع المأساوي المحيط. فواقعنا مليء بواقع من الجريمة ولغة العنف والإرهاب بخاصة تجاه ممثلي العلوم والفنون والآداب وبالنتيجة فقد تمَّ اغتيال ومصادرة المنجز الثقافي عامة والمسرحي منه بوجه الخصوص.. أما جوهر الوضع المسرحي فقد ارتقى مسرحنا وتقدم في مستويات بنيته الدرامية ومؤلفة النص المسرحي وفي مستويات العرض ومفرداته من ديكور وسنوغرافيا وإضاءة ومؤثرات أخرى ومن جملة ماسترو العرض من فعالية الإخراج المسرحي حيث أعلام من مثل إبراهيم جلال وجاسم العبودي ومن مثل سامي عبدالحميد وقاسم محمد وعميد المسرح العراقي يوسف العاني وعمدته عربيا... والمسرح العراقي ثري بتنوعه غني بتعدديته في انتماءات للطيف العراقي المتنوع الغني الثرّ. وهو المعبر عن هوية جمالية مميزة تدخله في المسرحين العربي والإقليمي والعالمي بخصوصية ملموسة.. لكنه يجابه اليوم طعنات قد تودي بمنجزه وتوقف مسيرته ولو إلى حين ولكنها عرقلة جدية خطيرة شواء كان هذا في داخل الوطن أم في المهاجر القصية له...
* كيف تقارن قضايا المسرح وقضايا المجتمع؟
لا أريد اختتام كلمتي ومداخلتي السريعة هذه بوقفة عند قضايا سبق أن أشرت لتداخلها وتفاعلها بنائيا أو إتلافيا بين المسرح والحياة... إذ تنبعُ أهمية هذه الحقيقة من طبيعةِ الارتباطِ الجدلي بين الآدابِ والفنونِ من جهة والحياةِ وقوانين تطورِها من جهة أخرى. وتقف الدراما في هذا المجال في مقدمة تلك الأنواع الأدبية والفنية.. حيث تنبثق ـ الدراما ـ من الحياة بعد أنْ تكون قد احتوت بشكلها الخاص القوانين الموضوعية التي تتحكم في وجودها وتقدمها. وهي تعبر من خلال خصائصها النوعية والصنفية عن مستوى متطور في فهم العالم والوعي بقوانينه فهي ليست مجرد تصوير للصراع الدائر في الحياة بل تجسيد له وكشف عن جوهره مع الإضافات الجديدة التي تقدمها من خلال حلولها ومعالجاتها. ومن هنا تأتي الأهمية المتزايدة لدراسة الدراما دراسة تفصيلية متعمقة لا تقف عند مهمة الدراسات الأكاديمية المحضة بل لتكون إجابة منهجية واعية تعبر عن مدى إمكانية تصوير عالمنا المعاصر بوسائل المسرح. ومعيار هذه الإمكانية هو مقدار تجسيد هذه الدراما للقيم والظواهر الحضارية التي يخلقها الناس بفعل تجاريبهم وقوة عملهم.
ولكنني خلف ذلك أريد أن أحيي بهذه المناسبة هدير حناجر المسرحيين وسلطان أقلامهم ورسائل خطاباتهم التي تعيد لحياتنا جمالياتها الحقة مؤكدا على أنَّ انتصار الجمال على القبح لا يأتي إلا بأدوات خلق الجمال متفاعلا مع الحياة الحرة للبشرية ووقع مسيرتها المعاصرة صوب انعتاقها النهائي مهما ادلهمت خطوب الزمن العاتية واشتدت عواصفها كما هو حال الواقع العراقي وما يحيط بمسرحيينا في الوطن والشتات...وتحية محبة وإجلال وبورك في جيلي الرواد والمجددين ولتسلم إبداعاتهم أداة مشرقة لشمس الحرية والحياة الكريمة....