فعاليات افتتاح معرض الفنان التشكيلي العراقي
الراحل زياد حيدر
متابعة: ألواح سومرية معاصرة
تمَّ افتتاح المحترف والمعرض التشكيلي الذي كافح الفنان التشكيلي العراقي الراحل من أجل أن يكون أكثر من محترف ومرسم ومعرض أن يكون بيته وعالمه الذي يحياه في منفاه الإنساني الحياتي والفني؛ وكان للافتتاح سطو على أجوائه حضور الغائب الراحل جسدا، الحاضر بتلك اللوحات شديدة التأثير في ملئها فضاء المرسم حتى أنها بحرفيتها الفنية العالية كانت تصل أذهان الحضور من بوابة الحسّ الشخصي بوجود وحضور وملامسة الراحل.. وهو ما ظهر في نشيج عديد من الأصدقاء الذين لم يتمالكوا ذواتهم فانطلقت حشرجات الحناجر مرددة مع الموسيقا الحزينة لآلة القانون بأنامل الفنان جميل الأسدي مقاما كان يردده الراحل بصوت تهدج وبكاء مكتوم الصوت وأحيانا تفجر منطلق الصرخات وآهات الوداع وآلامه!!
كانت الكلمة الأولى لصديقة رافقت الراحل حتى لحظاته الأخيرة تكلمت قليلا ولكن بعيدا في الغور الذي يسبر أوصاب فرقة إجبارية عن حبيب الحياة والعشق والإبداع.. كانت الكلمات موجوعة على لسان باولا فرمولن.. تلاها جريح ألم الفرقة الصديق والزميل التشكيلي المبدع قاسم الساعدي وكأنَّه يتمسك بأهداب من بقايا وجود ليقول لصاحبه ما زلت تسكن بين الجوانح والأضلع يا زياد..
وبعد هنيهة صمت افترش المساحة الصغيرة الكبيرة الفنان العراقي المسرحي صالح حسن فارس في عرض ممسرح لقصيدة أو سردية مشخصة على الركح بصحبة عازف الناي ستار الساعدي. وفي هذه المسرحية القصيدة التي دامت حوالي الربع ساعة ابتدأ الفعل فيها بالسكون الذي ران على صديق الراحل متقمصا كينونته يتمدد على كرسيين فكأنه وضع الجسد ليمثل الجسر بين عالمين كرسي لعالم حيواتنا وآخر لعالم صار يسكنه الراحل.. لهنيهة يعزف الناي لحن الخلود وسر الوجود فيتحرك الجسد الجسر حركة بلاستيكية آلية في البدء ولكنه سرعان ما يتقمص جناحي طائر ليمثل الرحيل إلى عالم الأبدية.. فالفنان الممثل يرى الذات ترتدي ملابس امرأة مغربية أي الكفن الأبيض محركا جسده بطريقة يبدو فيها معلقا في فضاء المكان كالشخص الذي يُعدَم ليغادر ميتا بسكون حركته..
يقول الفنان صالح حسن فارس مخاطبا الراحل بقصيدته:
"يا زميل الحرمان والتسكع
حزني طويل كشجر الحور
لأنني لستُ ممداً إلى جوارك
ولكنني قد أحل عليك
في أية لحظة
موشحاً بكفني الأبيض كالنساء المغربيات
لاتضع سراجا على قلبك
سأهتدي إليه
كما يهتدي السكيرُ إلى زجاجته
والرضيع إلى ثدي أُمه"
ولأن صالح حسن يعرف صديقه متمردا يؤدي معه تبادل الدور بين نصيحة وتقمص فينتفض على جمود آخر حركة للجسد ويبدأ استخدام كرسي العالم الآخر مصارعا إياه وهو يصرخ في نفسه أو في صديقه الراحل:
" تشبث بموتك أُيها المغفل
دافع عنه بالحجارة والأسنان والمخالب
فما الذي تُريد أن تراه؟
كُتبك تباع على الأرصفة
وعكازك أصبح بيد الوطن"
ولكن الكرسي يطوق رقبة الممثل الصديق ويغطي رأسه ويخفي الجسد فلا تبقى سوى الروح البائسة في رحيلها المفجع كما حياتها القاسية وأوصابها.. يقول صالح حسن لصديقه الراحل:
"أيها التعس في حياته وفي موته
قبرك البطئ كالسلحفاة
لن يبلغ الجنة أبداً
فالجنةُ للعدائين وراكبي الدرجات
لوحاتك معلقة على الجدران
الجنةُ للفنانين
للتشكيليين
للمسرحيين
للشعراء
ومحبي الحياة"
إذن القصد مما قاله صالح للراحل أنْ لا تبتئس تشبث بموتك كأنَّه حياتك فالجنة للفنانين، للتشكيليين، للمسرحيين للشعراء ومحبي الحياة... ثم يلعب صالح بالكلمات بقصد التذكير بكلمات على لسان الراحل وأجواء من يومياته العادية وتفاصيلها.. إنه يصرخ بها مذكرا السامع بحنجرة الراحل كونها لم تسكن بعد فهي طرية في آذانكم أيها الصحب:
"روزن خرات
لاوزن ولا خرات
بنات، أمهات، لوحات،
مات، مات،
لا ما مات"
ويبدأ مداخلة الركح مع القاعة فكل حجم القاعة هو حجم المرسم المحترَف مكانا، الكبير بالتأكيد في فضائه الإبداعي وما شكَّلَه مراكمة اللوحات وهو ما اتسع لأصدقاء وضيوف الراحل اليوم.. يسأل صالح قل لي يا شعلان هل مات زياد قل لي يا صلاح يا قاسم أنتم قولوا هل مات زياد؟ ويكرر مداخِلا بين اللفظ وضده مات لا ما مات ...
"مات لا ما مات
زياد مات ليكتشف الموت
(فضل الموت بلا كشف)
وبقينا نحن بلا زياد
نتأمل لوحاته
(وموسيقى الصلوات)"
ويبقى السؤال يلحّ بين الواقعية ورمزية الوقائع والإشارات مستندة إلى دلالات رموز الحركة وتجسيدها فضاء وجسدا:
"زياد مات
لا ما مات
مات....... مات......؟؟؟"
ثم يترك صالح حسن الحركة للموسيقا فيما يعود الجسد للسكون ولكن الموسيقا وعزفها الحزين تغني الخلود والبقاء.. بلى غادر الجسد وها هو جسد الممثل يسكن ويستقر ويتجمد ولكن سر الوجود بقاء الإنسان في تناسله وتوارثه الجيل بعد الجيل..وفي الصديق راحلا جسدا إلى الصديق باق جسدا بروح الراحل الباقية في تطلعاته يحملها أصدقاؤه.. فيجهش الأصدقاء في تلك اللحظة بالبكاء وتحشرج الكلمات... بخاصة والصديق صالح حسن يحمل كرسي الرمز للعالم الآخر، كرسي الوداع تابوت الحزن والألم والفراق ويغادر خارج المرسم ليترك الكرسي هناك في الخارج..
وحين يعود تعود معه أغنية الهدهدة التي خرج بها ومعها "دللول ياالولد ياابني دللول عدوك بعيد وساكن الجول".. كأنَّه يهدهد الراحل في مثواه ويعلن الوداع وهو ما زاد نشيج القاعة منفعلة ومتفاعلة مع الأداء الرائع لمبدع المسرح الفنان صالح ولمعايشته اللحظة بتلك القصيدة وفعلها... لقد جمع العمل الممسرح بتعبيريته حركة الجسد التي يتخصص بها الفنان صالح باقتدار وحرفية وميزانسين الحركة وتوزعها في المكان إلى جانب الرقص والشعر والموسيقا... ويبدو لي أنَّه من المهم توكيد نجاح الفنان ستار الساعدي في سلطنة موسيقاه واختياراته منها ليخلق التوليف الخاص بأجواء الإلقاء وتعزيز إيقاعات الحركة والسكون وإيقاعات الكلمات ودلالتها والتحامها مع إيقاعات أنّات القاعة ونشيجها..
ثم تلا العمل الممسرح الذي حاكى إبداع الراحل وجاء في أجوائه وأجواء أعماله التشكيلية، عرض لقصيدة شعبية أدَّاه الفنان رسول الصغير مع عازف القانون الفنان جميل الأسدي. وقد كان إيقاع صوت المسرحي رسول مميزا في تلويناته الأدائية بين الصعود حد تقمص صرخات عزاءات عراقية والهمس حد السكون واللاسماع فكأنه يأخذ متلقيه إلى عالم السكون الذي رحل إليه زياد.. كما يذكرنا أداء رسول الصغير بتقمص أجواء وطقوس التعزية والقراءات منذ سومر ومرورا بالمقتل الحسيني وآلام المظلومين اليوم؛ صرخات تستفز القبر الذي آوى جسد الراحل باحثا عن إيصال الصوت الجمعي بأدائه الملتاع.. وقد نجح في منح المكان أداء مسرحيا على أنه ترك الحركة في المكان وأعلا دور صوته وحركة إيقاعاته وأدائها الفعل وسط السكون..
ثم يقرأ في احتفالية افتتاح المرسم المعرض الشاعر شعلان شريف مقطعا من مرثية الخلود من ملحمة كلكامش ( مرثية أنكيدو) باللغة الهولندية وهو الآخر يبدع في القراءة كما لو أنَّ ما قرأه هو من كلماته التي يكتبها في لوعة شعره وعميق معانيه، ولأنه كان يقرأ في نشيد الراحل الذي رافقه منفاه وغربته وكما قال صالح جولات الشوارع الأمستردامية!
ولا يقبل المشاكس الشاعر أو الشاعر المشاكس ناجي رحيم إلا أن يغني صديق تسكعه وترحله، أفراحه وأتراحه وينشد بحشرجة الحزن والبكاء قصيدة بعنوان زياد حيدر... فقرأ مع الموسيقا أحزان الوداع وآهات الفراق مسجلا علامته الفارقة في قصيدة تختص به هو ناجي رحيم في ثنائيات التناقض وقلب الواقعة بقصد تصحيح المسار المعنى ولا تستثنِ هنا دموعا وآلاما وأصوات آهات وصراخ مكتوم للشاعر مع أدائه القصيدة التي قال فيها:
"زياد حيدر
لا رتوش على جبين الليل
لا نجوم تُوقد حطب الأحلام
لا امرأة تقف عند النافذة
لا تلويحة دافئة كفراش المتعب
أعمار يأكلها السوس
(ولكني من الأحزان تعبت)
لا أرثيك بل أرثي الشوارع والساحات التي غادرتك
أرثي العابرين على الأرصفة بوجوه مجعدة
أرثي المأخوذين بأرباح اليوم،
المتورمين في أحشاء الحانات
أرثي الأطياف التي تتقافز في مخيلتي
أرثي قطتك الصغيرة
نسَت طعامها ونامت تحت كرسي في سواد المرسم
أرثي باولا* المشدوهة وهي تحدق في ساعة على الجدار
تبتسم وهي تسافر في الوجوه تبحر في العيون ولا ترى شيئا
وحدك إلى ركن لا يطرقه الناس
قبل أسبوعين
في ليلة عراقية منزوعة عن العراق
في أمستردام في حفل توقيع الكتاب عانقتني ولم يدر في بالي
لم يدر في بال مهدي النفري وعلي البزاز وصالح حسن وشعلان شريف
وصالح بستان وصلاح حسن ومحمد محسن – أنك مهموم بالسفر إلى أقصى الأرض
وحدك إلى ركن لا يطرقه الناس ولا حتى قطتك الصغيرة
الآن وعند الباب على الشارع
حيث مسافة بحجم الكون تفصلنا
أراك واقفا في معطفك السود مطرقا وأنت تنظر إلى أسفل
آه لو غرفت فيم كنت تفكر
* باولا رفيقة حياة الفنان زياد حيدر في هولندا وهي تحترف التشكيل أيضا"
ومن الشعر والموسيقا ومسرحتهما كانت استراحة لحناجر تتكتم على استحياء أن تعلن نشيجها ولينتقلوا جميعا إلى كلمات مباشرة في الذكرى وليتفحصوا الأماكن بالسنتيمترات كما كان يطوف فيها زياد حيدر قبيل أيام معدودات.. بعدها تمَّ تقديم حكاية باللغة الهولندية للفنانة الهولندية خيردا نوردام حيث واءمت بين معاني الحكاية ومعطيات اللحظة عبر أداء ممسرح للحكاية المقدمة سابقا في التلفزة والإذاعة الهولنديتين.. يعقبها قصيدة للشاعر موفق السواد بالهولندية سريعة ولكنها غنية في ترسمها مفارقة الرحيل والمغادرة إلى الأبدية.. وينصت الحضور بعدها لقصيدة باللغة الهولندية تمثل ترجمة لقصيدة رثاء من الشاعر صلاح حسن للفقيد وبقراءة الباحثة الهولندية دنيكا هوزنخا...
أما الختام فيأتي بطقوس الحزن السومرية حيث تعتلي المويسقا منصة السماع وركح الأرواح المنشدة تراتيل الفرقة ولوعتها وأحزان وداع أخير للراحل الفقيد زياد حيدر وبعزف منفرد على آلة القانون للفنان جميل الاسدي رافق الحضور العراقي بحناجره ترتيلا لمقامية مغناة للوداع ولا عزاء في الخلود إلا حيث يسكن الجسد ويبقى الروح محلقا منشدا مع الأوفياء سرّ الوجود...