التنمية البشرية قضية استراتيجية تتأسس على أولوية التعليم العالي والبحث العلمي
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان
الكابينة الجديدة المنتظرة ليست كابينة تسويات وتوازنات حزبية ضيقة. وهي ليست جمعا كمياً بسيطا لبرامج الأحزاب والقوى أو ما يستجيب للحوارات المهمة الجارية اليوم بين مجموع القوى الكوردستانية. لكنها كابينة يُنتظر من تشكيلها أن يكون مؤشرا نوعيا جديدا في الحياة الكوردستانية المجتمعية بالمعنى الأشمل اقتصاديا سياسيا. وربما تلمسنا كثيرا من التصريحات والتوجهات التي أشرت مثل هذا الاتجاه الإيجابي المؤمل. كما أنّ الجهد السياسي العام ينبغي له أن يقرأ الأمر من هذا المنطلق تأمينا لولادة موضوعية تطلق صافرة الشروع بالحراك الفعلي فور الإعلان عنها، حيث ينبغي تجنب الحديث عن مقاييس ومعايير سبق العمل بها من قبل لظروف تاريخية معروفة.
أما الجديد في الكابينة الحكومية المنتظرة فسيكمن في كونها حكومة برنامج العمل النوعي لا حكومة التوافقات المضغوطة بتفاعلات حزبية. وجديد هذا البرنامج أو عمقه النوعي يكمن في تبني منطلقات بنيوية نضجت المقدمات الأولى لانطلاقته. ولعل أبرز تلك المحاور الرئيسة لمهمة الحكومة، كونها معنية ببنية مجتمعية أغنى معرفيا وأبعد تقدما بخطى الحراك والبناء. وهذا ما يعني أولوية لمفهوم التنمية البشرية، لمطاردة هذا الحراك وتسريعه وإنضاجه.
أما التنمية فتتركز هنا باعتمادها على القدرة البشرية التي تُعدّ الثروة الأساس في المجتمع. وبناء عليه فإنّ فرص التنمية والتقدم [بأيّ بلد] ترتبط بحجم قدراته البشرية ومستوى تأهيلها وتدريبها وإمكانات معايشتها المتغيرات ومجابهة تحدياتها والإجابة عن أسئلتها والتفاعل إيجابا بنيويا مع كل جديد بتوظيف الكفاءة والمهارة المتناسبة معها. وعلى وفق البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، يمكننا الحديث عن مقياس كميّ لمستويات التنمية البشرية في ضوء نجاح البلد في تلبية الحاجات والمطالب الإنسانية ومستوى العيش اللائق في ضوء توزيع عادل للموارد المادية مع مستوى ملائم في كل من الصحة العامة والتعليم إلى جانب درجة ملموسة في تلبية الحقوق والحريات، وهو ما ينغي ملاحظته كوردستانيا بنجاحات ملموسة هنا.
إنّ تجاريب كثير من البلدان النامية ركزت في خطط التنمية ومشروعاتها، على قضايا الرعاية الصحية، والتعليم بقسميه الأساس والعالي، مع إطلاق دعم مميز للبحث العلمي ولدعم المشروعات الصغيرة من جهة ومشروعات البنى التحتية والركائزالبنيوية الأساس. أما سبب هذا الاتجاه فيعود إلى أنّ التحدي الأهم بمجابهة مهام التنمية يكمن في التحسين النوعي للحياة الإنسانية من بوابة رفع المدخولات حيث تحسين مستويات التغذية والصحة العامة وتقليل نسب الفقر ومعالجة البطالة وتوفير بيئة صحية هذا من جهة ومن جهة أخرى رفع مستوى التعليم والحصول على درجاته الأكثر جودة وطبعا سيكون لزاما أيضا تحقيق المساواة والإنصاف والعدل في الفرص مع حريات أكبر وحياة ثقافية غنية تحترم التنوع البشري ومرجعياته وهوياته المتعددة معرفيا إنسانيا.
لقد جسدت تجاريب النمور الآسيوية حالا مميزة عندما تجاوزت الأزمة المالية باسترداد عافيتها سريعا بسبب من طابع (الثروة البشرية) وغناها المعرفي الثقافي. بالإشارة هنا ليس إلى أمور وظيفية آلية مجردة بل حتى إلى أمور مثل التمتع بوقت الفراغ أو تحقيق التوازن والرضى تجاه موضوع احترام الذات؛ وقضايا من مثل ضمان حقوق الإنسان وحرياته أو طابع مساهمته الإيجابية في الأنشطة الاقتصادية، السياسية، الروحية الثقافية والاجتماعية..
ولمزيد من توضيح مرامينا بالتركيز على موضوعة التنمية البشرية نؤكد هنا على أنها ليست عملية استثمار في الموارد البشرية بآلية اقتصادية محسوبة بقدر ما هي أبعد وأعمق وأشمل حيث تجسد قضايا قيمية روحية ترتبط عميقا بالاستجابة للحاجات الروحية وفلسفتها.. ذلك أنّ القضية لا تقف عند التعليم واكتساب المعارف والمهارات ولا في الكم الخاص بالدخل محسوبا ماليا فهذه نظرة مسطحة للأمور.
هنا سنتحدث عن السلامة في الصحة النفسية والبدنية للأفراد وهي قضية ذات عمق خطير عندما نتناولها من الوقائع المعاصرة الماثلة في ذهنية الكوردستاني وما اُرتُكِب بحقه من جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية وما يضغط عليه اليوم بالتهديدات الجارية بسبب من عدم الاستقرار الذي يشمل محيطه المباشر. وفي شأن آخر فإنّ نسبة أمية البالغين ومستوى شمول التعليم الأساس الحالي ودرجة سلامته ونضجه وتطوره واستيعابه حجم التطور السكاني يظل بحاجة لقراءة موضوعية متأنية.. فعلى سبيل المثال يمكننا الحديث عن حجم المباني وقدراتها الاستيعابية إجمالا وحجم كل مبنى نسبة إلى أعداد طلبته ومستوى التدريس وكفاءته، هذه كلها مؤشرات تنتظر المعالجة وخطط الكابينة الجديدة وأولوياتها.
إنّ القضية الخاصة بالتنمية البشرية كونها مهمة استراتيجية تتطلب فعليا ميدانيا خططا استراتيجية على مستوى الخدمات العامة والصحة والبيئة ولكن الأهم والأقرب بأولويته سيكون في موضوع بناء العقل البشري وبناء القيم الروحية الثقافية وإشاعتها بمستويات أفضل و أنجع.
ومعروف أن هذا يرتبط باستثمار التقدم التكنولوجي في الشؤون المعلوماتية والاتصالية وفي أساليب الإنتاج المتطورة الحديثة ما سيرفع الأعباء كثيرةً عن كاهل الاقتصاد الكوردستاني ويعدّه بطريقة مميزة وبعيدة المدى. وهذه الإشكالية في قضية تكنولوجيا التقدم ومسيرته هي ما تضع استراتيجيات التعليم العالي والبحث العلمي بمقدم الاهتمامات والأولويات حيث التنمية البشرية بأفضل سياقاتها وإلا فإن البلاد ستقع أسيرة الفجوة بين تكنولوجيا الحداثة والتقدم ومستويات الموارد البشرية ما يخلق البطالة الفنية، ويخلق تعقيدات مركبة أخرى...
فنحن هنا لا نشير إلى موضوع البطالة من جهة حسابها رياضيا بل من كون رأس المال البشري هو الأساس الأمثل لدعم الأمن الاقتصادي وترشيد استثمار المصادر الطبيعية وغيرها، وهذا ما يتطلب تأهيلا نوعيا يقوم على توفير الرعاية الصحية وتعزيز احترام الحقوق ومصالح المجتمع المدني مع أفضل مستويات التعليم الأساس والعالي.
إنَّ الجهل والبطالة والفقر هي أبرز أعداء التنمية البشرية. ونظرا لما للمعارف والعلوم من دور في الارتقاء بالصحة وفي مشاركة الفرد في الشان العام بوعي فإن التعليم يبقى المحور الرئيس ذا الأولوية في خطط التنمية وآفاق تقدمها إلى أمام.
إن خطورة العقل ومستوى التنمية البشرية ودور راس المال البشري هو ما يدفعنا لتكرار التوكيد على موضوع التعليم وتلك الخطورة تأتي كما تورد الدراسات ومنطق العقل من دور العامل البشري ليس في توظيف التكنولوجيا المعاصرة ولكن في إدارتها وإعادة إنتاجها وتوجيهها بما يعمق التنمية بعامة ويجدد ويضيف في راس المال المالي وفي ترشيد استثمار الثروات الطبيعية والاعتناء بالبيئة ومواردها.
وسيكون للعمل المؤسسي الأهمية القصوى في رعاية التعليم وتحديثه وإحداث ثورة نوعية في أدائه. طبعا بما يستند إلى تعزيز الديموقراطية ومؤسساتها ومعالجة أي شكل للفساد المالي والإداري وتعزيز سيادة القانون وسلطته مع استقلالية تامة للمؤسسات ذات الأولوية في الاهتمام والرعاية كما القضاء والتعليم وهنا بالتأكيد الإشارة تتضاعف مع استقلالية المؤسسة الجامعية إلى جانب عوامل أخرى كما التقدم النوعي لوسائل الإعلام وسيكون توفير البنية الأساس المناسبة للتنمية البشرية والتنمية الشاملة قائما على ترسيخ قيم جديدة في المجتمع تدعم تلك المهمة أي التنمية، كما سبق أن أكدنا، لا كونها عملية اقتصادية بحتة ولكن أيضا بوصفها عملية اجتماعية جوهرها الإنسان وحياته وعلاقاته.
وما سيمنح هذا الإنسان [المواطن الكوردستاني هنا] الثقة بالنفس وقدرة المبادرة والفعل والإقدام على التغيير والمشاركة في الشان العام بإيجابية وبولاء للوطن والمجتمع هو التعليم ودرجة المعرفة التي يكتسبها ونوعها. وطبعا آليات اكتساب تلك العلوم مثلما يحصل مع توظيف نسبة مميزة ينبغي أن تصل إلى الـ50% من نظام التعليم بالتكنولوجيا الجديدة أو ما نسميه التعليم الألكتروني E-Learning وهو النظام الذي يلزم إدخاله بوجه عاجل لإغناء نظام التعليم ومراجعة أساليبه نوعيا وكميا.
إنّ الحديث عن مهام الحكومة الجديدة ينبغي أن ينطلق من هذه الأرضية؛ أرضية الاهتمام بالعنصر البشري بوصفه راس المال الأغنى والأهم وبوصف التعليم هو المقدمة التأسيسية ذات الأولوية في بنائه آنيا عاجلا واستراتيجيا للمديات البعيدة.
بمعنى أن تكون الرسالة الأبرز للكابينة هي إعلانها خطة استراتيجية للتنمية البشرية تشرع بها من بوابة التعليم العالي والبحث العلمي. وأول الأمور في تطوير التعليم وتنميته هي مراجعة قوانينه وتعديلها بما يتلاءم والعصر من جهة وبما يُدخِل نظم التعليم الأحدث ويشيعها في كوردستان بطريقة مدروسة ومستقلة تحمل هوية كوردستان وما ينتظرها من مهام..
إنّ تشكيل مجلس أعلى للتعليم واستقطاب مستشارين على درجة من الكفاءة والخبرة أمر عاجل منتظر كما سيكون للتفكير بتغيير تركيبة وزارة التعليم ومنحها فرص الاتساع وإضافة دائرة التعليم الألكتروني مع إصدار التعديلات القانونية المخصوصة بهذا الشان قضية ستُحدث ثورة معرفية تكنولوجية عميقة في آليات العمل ونوعيته.
ومن الطبيعي في هذا الإطار منح الصلاحيات التي تتجاوز الروتين والتعقيدات البيرواقراطية من جهة وتمنحه رأس المال المناسب وتستقطب الاستثمارات كيما ترقى بالعمل الجامعي على أن تبقى الأولوية للمشروعات التي تضع بحسابها نظرة مستقبلية لتوطين أي استثمار وفرض قوانين كوردستانية ومستهدفات محلية تنموية بهذا الإطار.
إن انطلاقة الكابينة وخطابها المؤمل ووضعه هذه الأولوية على رأس القائمة هي قضية حاسمة وحيوية تنتظرها كوردستان التقدم والازدهار وشعب كوردستان يستحق هذا بما وصل إليه اليوم وحكومته قادرة على الإنجاز بعد أن وضع الشعب ثقته فيها عبر صندوق الاقتراع واختار الشخصيات الأكفأ والأكثر حيوية ومبادرة وتجديدا في سدة المسؤولية.. فبالموفقية والنجاح وآمل أن تكون هذه الرسالة الموجزة مؤشرا مساعدا بالقدر الذي تجد فيه القيادات النوعية الجديدة صواب الخيار.