كوردستان والدور التنويري في العراق الفديرالي: بين تفعيل هذا الدور بخطى نوعية جديدة أو الوقوع ضحايا ما يُخطَّط في ليل!!
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
صوَّتَ الشعبُ العراقي على دستورِهِ بوعدِ التعديل فيه بشأن النقاط الخلافية؛ مما مرّ في ظروف معروفة وفسح المجال لثغرات أو مواضع، أمكن تأويلها والتعكز عليها من قوى بعينها لتبرير أفعالها وممارساتها التي ما كانت بمصلحة الشعب العراقي، ولا بما يمنح العراق الفديرالي مسار البناء والتقدم. ومن هنا وُلِد صراعٌ بين قوى اخترقت الأوضاع في انتهازٍ لفرصٍ وثغراتٍ من جهة وبين قوى التنوير التي أرادت التصدي لمهام وطنية من قبيل إزالة أنقاض الحروب ومخلفات الجرائم والمآسي وإعادة الإعمار في إطار مسيرة تحديث وتطور لبناء العراق الفديرالي ومجتمع التعددية والتنوع في إطار دولة المواطنة ومبادئ التوجهات المدنية التي تنتمي لعصر الحداثة..
ومن الطبيعي أن نلاحظ في العقد الماضي في لحظة الانتقال من عهد الطغيان والاستبداد إلى عهد جديد، تعقيدات كثيرة بوجه قوى البناء والتحديث. أولها تلك التعقيدات الخاصة بالوضع البنيوي الداخلي من حيث التشتت والتمزق وضعف الأدوات المتاحة والعراقيل بمجابهة ظروف عامة غير قليلة المخاطر والتحديات. ويمكن رصد الأمر بالنظر إلى حجم التيار الديموقراطي المدني تنظيميا أو في الحضور الرسمي على مستوى مؤسسات الدولة. وأول هذه المؤشرات سطوة قوى الطائفية السياسية التي دخلت محمَّلة بعون مصالح إقليمية ودولية فضلا عن استغلالها الظرف الانتقالي وقبولها ركوب موجة الفساد مبررة الأمر بتمكين قواها من شراء الصوت الانتخابي والتمكن من أجهزة السلطة بوصفها غنيمة أخذوها وعلى حد قول أحد زعاماتهم "ما ينطوها أبدا وقطعا"...
غير أن الأوضاع ما كانت بذات الترتيب في كوردستان. إذ أنها كانت انعتقت من نظام الدكتاتورية منذ حوالي العقدين بانتصار الانتفاضة وطرد سلطة التخريب التي أشاعت التخريب حيثما كانت تحكم وشجعت بأفاعيلها وجرائمها فرص تسرب قوى الظلام من فساد وإرهاب. ومن هنا فإن وجود قيادة حركة التحرر الكوردية على رأس السلطة في كوردستان بقي صمام أمان ليس للشعب الكوردي حسب بل وللعراق بعامة. إذ تبقى كوردستان مصدر بناء نموذج الدولة المدنية بأسسها المعاصرة القائمة على الحداثة وخطى التنوير والتقدم...
ربما توجد ظروف ومحددات لطبيعة العلاقة مع الحكومة الاتحادية من جهة سطوة جهات وحركات سياسة اتسمت بخطاب (الطائفية السياسية) ومن ثمّ تمظهر قوى الطائفية بخطاب والحديث الإعلامي التسويقي الذي يدعي الدفاع عن مظلومية طائفة أو فئة؛ بلى ربما توجد تلك المحددات التي فرضت اشتراطاتها إلا أن الحقيقة التي عاشها الشعب العراقي لم تكن مخفية مستترة على الرغم من كل محاولات التضليل. فالعراقي بقي مأسورا بنير قوى الفساد والإرهاب بوصفهما أدوات خطاب الطائفية السياسية التضليلي الظلامي...
ويمكن الاستنتاج بأن هذا كان يمضي بعكس إرادة الشعب ومطالبه، حتى أن المواطن العراقي خضع طوال العشر العجاف لأسوأ ظروف العيش الإنساني من جهة حاجاته الحياتية فلا تعليم ولا صحة ولا خدمات وهو يحيا في ظروف البطالة والفقر وحتى عند تشغيله فإن الواقع يؤشر بطالة مقنَّعة بمعنى وجوده الاسمي محسوبا على وظيفة ما، فيما لا يعمل شيئا أو لا ينتج شيئا ولكنه يتسلم بضع قروش يحاولون بها إغلاق أفواه الاحتجاج ولو حتى حين!
وطبعا يمكننا القول: إنّ قوى التنوير المتشظية المنهكة تنظيميا بين محاصرة ومصادرة ومقموعة ظلت تعمل على الانتصار على ظرفها المصطنع مستندة إلى أن المطالب الإنسانية الجوهرية عالية الصوت في ضمير المواطن الحر ومستندة إلى أنها ليس بعيدا تلملم الجراحات وتعالجها لتنتصر لهذا المواطن ومطالبه باستعادة المبادرة. ولعل من أبرز أنصار هذه المثابرة الإيمان العميق بحق الشعب في فرض مطالبه وحاجاته إلى جانب أشكال التضامن الأممي؛ إنما الأقرب والأوضح هنا يكمن بوجود النموذج الساطع لكوردستان ومسيرة التقدم فيها وإلى قيادتها الحداثوية وطابع خطى التقدم والبناء..
هنا تدرك قوى الديموقراطية وبناء الدولة المدنية واجبات وجود ممثلي كوردستان في الحكومة الاتحادية وما تفرضه من محددات في أسس العمل وفي الوقت ذاته تدرك هذه القوى أن سبل التحالف السياسي بسبب من مستويات تركيبية لا يمكن أن تبقى بذات الأسس التي سبق أن وُجِدت قبل عقود. بمعنى أن كوردستان من جهة وجودها بنيويا في إطار دولة فديرالية تظل مشروطة بالعمل القانوني الدستوري في بنية اتحادية على الرغم مما تحمله من اشتراطات وربما ثغرات تستغلها قوى الطائفية وهو أمر يمكن تفهمه وينبغي ذلك.. ولكنها بالمحصلة وبالمعنى الجوهري تبقى [أي كوردستان] قوة لمصلحة مسار الدولة المدنية من جهة ولجم قوى الظلام ومنعها من تجيير الأمور بالمطلق لمآرب تتستر عليها بخطابها...
وبمستوى الشعب والحراك السياسي الحزبي تبقى قوى الحركة الكوردستانية ممثلة بقيادة حركة التحرر الكوردي حليفا استراتيجيا وإن كانت الظروف التاريخية تفرض محددات مختلفة في هذا اللقاء وأشكال وجوده.. وعليه فإن جدلا موضوعيا منتظرا بقوة وهمة في تحديد أشكال تلك العلاقات وتمظهراتها وسبل تمكينها من منح ثمارها لمصلحة حركة التنوير وطنيا، في إطار مسيرة الحركة الوطنية الديموقراطية.
ومن الطبيعي أن يكون تبني استراتيجية خطاب ثقافي وحراك سياسي يفضح أشكال الطائفية السياسية بمستويات تنظيرية من جهة حيث الخطاب الفكري الفلسفي المنتظر عبر أدوات هذه الرؤية الفلسفية السياسية من إعلام وأنشطة مجتمع مدني تمتد نحو الأفق الوطني العراقي. ولعل أبرز مشهدين بهذا الخصوص هو حال استقبال كوردستان مؤتمرات مؤسسات المجتمع المدني الحقوقية وغيرها بروح ديموقراطي عميق ومتفتح أما الآخر فإنه مشهد إعلام تنويري ومؤسسات ثقافة الحداثة والتقدم فضلا عن حراك بمؤسسات التعليم ومراكز البحث والدراسات..
وعليه فربما بات عاجلا ضرورة ولادة فضائيات ناطقة باللغات المحلية المحكية العراقية كالعربية والسريانية والتركمانية بدعم جدي فاعل من الجانب الكوردستاني إلى جانب الصحافة والدوريات والمطبوعات فهي قضية إشكالية منتظر ألا تتلكأ أو تتأخر وهي من مستويات الفعل لتعزيز حراك قوى التنوير لقطع الطريق على الخطاب التضليلي لقوى الظلام والتخلف قوى الطائفية السياسية التي لا تهدد المنطقة العربية في العراق بل تهدد أيضا كوردستان بكل مفردات منجزها...
إن المدخل الانتخابي لا يمكن أن يكون صاحب الكلمة العليا التي تفرض قسرا صيغة للتحالف والعلاقة ولكنه المدخل الذي لا يقبل تأجيلا لصيغ العلاقات بين القوى الحية التنويرية في العراق الفديرالي. ومن حق كوردستان التعبير عن مصالح شعبها باستقلالية وبالتعامل مع الآخر على وفق مقتضيات تفرضها أولوية مطالب شعب كوردستان ولكن مما سيعزز النتائج الإيجابية في ظروف الوجود الفديرالي النظر في الصيغ التفاعلية مع قوى الحراك الوطني الديموقراطي التي تشكل العماد الجوهري للمسيرة نحو أفق الديموقراطية في العراق وبناء مؤسسات الدولة المدنية..
ومن دون النظر بجدية لهذه المهمة النوعية؛ سيعني منح فرص مضافة لقوى الطائفية السياسية كيما تتقدم خطوات في استباحتها حقوق العراقيين بكل أطيافهم وإذا كانت العشر العجاف قد مضت بمشكلات للمواطن العراقي خارج كوردستان فإنها في الدورة الانتخابية الجديدة إذا ما عادت منتصرة ستهدد ما تبقى من العراق الفديرالي بل ستنفذ التهديدات التي أقدمت عليها بتشكيلاتها العسكرية والميليشياوية والمخابراتية المستندة إلى قوى إقليمية وستسفر عنها بمفاجأة قد تكون غير محسوبة العواقب.. والحذر مطلوب وضروري لشعب كوردستان الذي ذاق نتائج الكوارث التراجيدية الدموية لجرائم النظم الشبيهة أي النظم المستبدة وليس بعيدا عن الأمر ما جرى ويجري من انفراد بالسلطة وإدارتها من بغداد حيث التبرير دائما يجري إسقاطه على حساب كوردستان وشعبها وقيادتها...!!
وبالمجمل يمكن القول إن المنتظر اليوم استمرار مسيرة كوردستان في تمتين وجودها وخطى البناء والعلاقات الداخلية والخارجية مع تقدم نحو مد جسور نوعية جديدة بمستوييها الحكومي الرسمي المحدد باشتراطات تستند إلى الدستور وإلى القراءات القانونية الأنضج والشعبي السياسي في رسم أدوات العلاقة مع قوى التنوير الوطنية والديموقراطية حيث مشتركات بناء الدولة المدنية وإعلاء طابع التحديث والعصرنة لمسيرة عراق فديرالي يحترم التعددية وينجز ما تم تثبيته دستوريا من هياكل تشريعية تحمي كوردستان الفديرالية بانتصار الديموقراطية عراقيا وبالتمسك بالوطنية والمواطنة بدولة مدنية لا ثيوقراطية ولا طائفية سياسية....
ولعل حوارا مباشرا بين قوى التيار الوطني الديموقراطي المدنية والقوى الكوردستانية بمشروع محدد ولكنه جديد نوعيا هو ما سيعلو بحصانة العلاقات وطنيا بين كوردستان وامتداداتها الوطنية التي ستبقى الأغنى والأسمى في العراق الفديرالي الجديد، طبعا ليس المحكوم بقوى الطائفية ومآربها وسياساتها التي قادت إلى مشهد غرق المدن العراقية والعامة بالمياه الآسنة للطائفية السياسية...
فهلا التقطنا الإشارة؟؟؟