مخاطر مشروع قانون للأحوال الشخصية يكرّس اتجاها ثيوقراطيا طائفيا بوزارة العدل
رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
صاغت وزارة العدل في الحكومة الاتحادية ببغداد قانون الأحوال الشخصية (الجعفري)، الأمر الذي أثار استياء جمهور الشعب العراقي بخاصة من النساء وتشكلت حملات شعبية احتجاجية واسعة ترفض مشروع القانون وجوهره.. كما تنادت القوى الديموقراطية لكشف أبعاد ما جرى ويجري بالخصوص. يُذكر أنَّ قانون الأحوال الشخصية ذي الرقم 188 لسنة 1959 ظل ساري المفعول منذ تشريعه حتى اليوم؛ وقد عبَّر ذلك القانون عن موقف أكثر نضجا وتطورا كونه استوعب أغلب شرائح المجتمع العراقي و وفَّر استجابة تامة للتوجهات الفقهية المتعددة في إطار التنوع العراقي الديني والمذهبي.
وكانت النسوة العراقيات والمتنورون كافة يسعون من أجل تطوير مفردات القانون والتقدم به إلى أمام ولكن بالمقابل جرت مساع أخرى من قوى محافظة وأخرى ذات مآرب ومصالح مباشرة في تعطيل دور المرأة العراقية ومصادرة ما تحقق لها من مكاسب بفضل نضالاتها، نقول: لكن تلك القوى حاولت إلغاء القانون أو التراجع عنه بشتى الوسائل.. وكان من آخر تلك المحاولات إصدار قرار 137 الذي تمّ وقفه بنضالات وحوارات شعبية واسعة في العام 2004.
إنّ معاودة التفكير بإصدار قانون الأحوال الشخصية بصيغ تعتمد الخلفية الفقهية المذهبية (الأحادية) هو تراجع خطير يحمل في طياته تهديدات جدية للمجتمع العراقي، المنخور اليوم بفلسفة طائفية مرضية مقيتة. والكارثة أنَّ القانون يصدر عن وزارة العدل.. وهي وزارة اتحادية يُفترض أنها تعبر عن وجود (وطني) يشمل البلاد برمتها، والكارثة تتعاظم مخاطرها عندما ندرك أنَّ التداعيات في الغد القريب ستؤدي إلى فرض قانون الأحوال الشخصية الجعفري على أطياف عراقية دينية ومذهبية مختلفة، كما ستفرض القانون على فديرالية كوردستان التي تمضي بروح بناء الدولة المدنية بأسسها الديموقراطية المعاصرة التي تنتسب للعصر وقيم التمدن والتحضر فيه مستجيبة لتطلعات النساء فيه ولاحترام التعددية، الأمر الذي سيخلق مشاكل قانونية ومجتمعية جمة بسبب مثل هذا التعارض! طبعا هنا يتطلب الأمر موقفا واضحا وحاسما وحازما من كوردستان ضد اتجاه فرض ثيوقراطية الدولة والطابع الديني الطائفي على أنشطتها لأنّ الأمر بات يتعدى ممارسة أنشطة طقسية إلى قنونة وشرعنة (اتحادية) ستمتد مهددة كوردستان بمخاطر هذا الاتجاه، بعد أن تتعرض لبنية المجتمع العراقي....
إنّ الإصرار على متابعة إجراءات مشروع قانون الأحوال الشخصية (الجعفري) لا يمثل بالضرورة حرصا على تلبية مطالب أتباع هذا المذهب في هذا المحور أو المجال فربما يجسد القانون أمورا فقهية مختلف عليها حتى في الإطار التشريعي الديني داخل المذهب نفسه.. ومن هنا فإنَّ طرح المشروع لا يعد تمثيلا ولا تجسيدا بالحتم والضرورة للتفسير المذهبي المبيَّن بالتسمية بل يعبر عمن صاغه ويحاول سنه وتشريعه ومقاصده الحقيقية... فالقدسية الدينية الإلهية وقدسية النص الديني الأول لا يمكن استبدالها بخطاب آخر ويقال عنه إنه خطاب ديني مقدس مثيل أو مجسد للنص الديني أو بديلا عنه. ومع ذلك فقضية طرح هذا المشروع ستثير في إطارات أخرى جملة من الاعتراضات التي يجب التوقف عندها باهتمام خاص.
وأول هذه الاعتراضات يتمثل في الإجابة عن سؤال: هل يحق لوزارة عراقية أن تتبنى صياغة تشريعات تستند لفقه ديني ومن ثمّ مذهبي أحادي؟ ومن هي الجهة التي يمكنها أن تعبر عن هذا الفقه الديني المذهبي؟ هل هي الحكومة العراقية الاتحادية والحكومات المحلية أم جهات (مدنية) أخرى؟
إن مسؤولية الحكومة، على وفق الدستور، تكمن من هذه الناحية في صياغة مشروعات قوانين وطنية عراقية تستند إلى الدستور نفسه وتتقدم باستكمال مسار بناء الدولة (المدنية) العراقية في حين يُلزِم الدستورُ الحكومةَ ألا تتعارض أنشطتها وأداءاتها مع محدداته ومنها رفض أيّ أمر يتعارض والثوابت الوطنية. فما بالنا والوزارة هنا تعدّ قانونا يُدخِلُها في فلك (طائفي) التوجه، بشكل صارخ سافر. إذ لا توجد وزارة في حكومة بدولة مدنية الاتجاه تتبنى توجها ثيوقراطيا دينيا، لتعارض الاتجاهين بصورة بدهية.. وكل ما نراه اليوم في وزارات الحكومة ببغداد يعج بمثل هذه الأنشطة الطقسية الدينية منها والقانونية وبالممارسات والأنشطة العملية التي لا تخرج عن الروح الثيوقراطي؛ وذلكم مؤشر خطير يؤكد طابع الاتجاه لا الديني بل الطائفي لإدارة الحكومة وينسف كل أساس لمدنية الدولة.
بمعنى أنّ انشغال وزارة العدل والحكومة (الاتحادية) ببغداد بموضوع إعداد واقتراح مشروعات قوانين طائفية الخلفية هو تأسيس يخالف القواعد القانونية والقوانين الدستورية وروح الدستور ونصوصه بخاصة منه توكيده على مدنية الدولة وديموقراطية التوجه ووحدة الدولة ونظامها الاتحادي ووجودها الوطني. والتعارض مع الوجود الوطني ومع الدستور أمران خطيران يكفيان سبباً لسحب الثقة من الحكومة وإقالتها ومحاسبتها للإخلال بالدستور ولممارستها أنشطة تضر بالمجتمع العراقي وبحاضر الوجود الوطني ومستقبله وتعرض وحدة البلاد لمخاطر التقسيم...
من جهة أخرى سيشكل وجود قانون (جعفري) فرضا لثنائية في القانون ويمهد لتعددية (طائفية) للقانون العراقي وهو تكريس آخر للانقسام الطائفي وتعميد للتعارضات بين أتباع المذاهب الذين عاشوا سويا في إطار دين واحد وكانوا على الدوام عائلة موحدة تزاوجت وارتبطت مجتمعيا من دون عقبات استغلاق حلقات التعددية المذهبية وتحولها لعمق طائفي سياسي يتمترس خلف الادعاء الديني المذهبي المتوهم أو التضليلي. ويمكننا أن نتأكد بحسبة بسيطة من طابع التعددية المذهبية في العائلة العراقية بروح السماحة الدينية والتفتح الذي رفض على الدوام الانغلاق والانقسام والتمترس خلف فروض تقسيمية تصطنع التعارض والتناقض كما تريد الطائفية السياسية تنفيذه لتلبية مآربها...
الجانب الآخر أنّ هذا الاتجاه سيفرض ادخال عناصر غير قضائية وفي الغالب غير مؤهلة قانونيا على القضاء، الأمر الذي يطعن في أهم مؤسسة قانونية تتركب منها الدولة؛ ألا وهي السلطة القضائية ومؤسستها! ففي وقت كان إعداد القضاة يجري على وفق أسس دراسة علمية رصينة واعتماد قانوني مكين، سيكون مدخل وجود ((قانون جعفري)) فرصة التفاف وثغرة في جدار القضاء العراقي لمصلحة تعددية قانونية بأسس طائفية سياسية لا دينية وثنائية في سلطة القاضي حيث يدخل رجل الدين ذو الإعداد المختلف أو حتى عناصر غير معدّة لتشترك في أداء مهام قضائية قانونية!!
ولطالما تصدى المجتمع العراقي وقواه الحية لفكرة ادخال عناصر يُسقَط عليها تسمية (فقهية بمسمى رجال دين) إلى المحكمة الاتحادية وغيرها من أجهزة القضاء.. ويأتي هذا التصدي لتعارض الفكرة والبنية القانونية للدولة المدنية من جهة ولسبب آخر فربما بعض هذه العناصر لا تتجاوز معرفته أمورا لا ترقى لمستوى إدراك علاقة تلك الأمور مع القوانين الدستورية الأمر الذي يوقعنا بمآزق ليس لها لا أول ولا آخر..
إنّ فكرة نسف الأسس المدنية للدولة يعني مزيدا من التراجع بمجتمعنا نحو تقاليد ماضوية سلبية عفا عليها الزمن ولفظتها البشرية منذ قرون. ويعني هذا الاتجاه تكبيل المجتمع برمته بطقسيات ظلامية لا تقف عند حدود معطيات الدولة الثيوقراطية الدينية وعمقها الطائفي السياسي بل تستلب الإنسان أرادته الحرة وإمكانات التفكير السليم وتجعله وحشا غابويا يتقاتل من أجل لقمة عيشه، فيما التمييز بين المرأة والرجل سيكون في أسوأ تمظهراته عندما تطغى أساليب ماضوية للتفكير تتعارض حتى مع صحيح الدين وإنْ حاولت الادعاء التضليلي بكونها تعبر عن الدين بخطاب فقهي لمذهب أو آخر..
وبدلا من تقريب الاجتهاد المذهبي ووضع الحلول الفقهية بخدمة المجتمع ستوضع بقوالب تضر بالمجتمع وتقطع الطريق على التعايش في ظلال التسامح المدني الذي يغتني بالتعددية واحترام التنوع ليدخل المجتمع عبر هذه البوابة لاجترار الخلافات الدينية ووضعها على سكك التناقض والاحتراب بذريعة تلبية إصدار قانون يخدم أتباع دين أو مذهب أو (طائفة) وهي ذريعة لا تقوم على الإيهام حسب بل هي تضليلية القصد منها تمكين إرادة (سياسية) بحتة لفكر طائفي مرضي يدعي بعض من ساهم بإصدار مشروع القانون الجعفري رفضه! للطائفية! بتصريحات للاستهلاك الإعلامي فيما يمارس تمكين الطائفية من السلطة السياسية يوميا وبكل أنشطته العملية!!
إنّ سياسات الحكومة (الاتحادية)، تحديدا من يدير دفة الحكومة ويتحكم بها ويحصر بيده الصلاحيات، تتعمد وضع البلاد في مآزق مختلفة ربما لمشاغلة المجتمع ولكن الأخطر أنها تعرضنا جميعا لمخاطر الاحتراب والتقسيم ونُذُرُه المخيمة على أفق يومنا.. وتلك السياسات الطائفية لا يمكن السكوت أو الصمت عليها لأنها تخلق تراكما يؤسس لدولة ثيوقراطية للاستبداد المقنَّع بمسمى الدين والمتستر بمصالح طائفة ولكنه بتضليله يستهدف ضرب أية إمكانية لبناء الدولة المدنية أو التقدم لاستكمال المؤسسات الدستورية لدولة ديموقراطية طبعا النتيجة مزيدا من تمكين نظام استبدادي كليبتوقراطي بكل معنى المصطلح من تحالف الفساد والإرهاب بمظلة الطائفية للتحكم بمجموع فئات الشعب...
من هنا وجب أن تتوقف الأقلام عند معالجة قضية إصدار قانون أحوال شخصية بصيغة طائفية التخفي ولكنها بمعاني خطيرة النتائج قانونيا دستوريا وسياسيا في مجتمع بحاجة لكثير من الجهود المضنية لمعالجة جراحاته التي خلفتها عقود الطحن السابقة.. فالقضية لا تقف عند مصالح نصف المجتمع وتكبيل النساء بقيود ماضوية ولكن القضية قضية خيار بين الدولة المدنية والدولة الدينية، بين دولة قانون موحد ومؤسسات دستورية سليمة ودولة قوانين طائفية سياسية تتلفع تضليلا بتسميات دينية فقهيا.. الخيار بين أن نمضي إلى التحرر والانعتاق من الماضويات من التقاليد محافظين على صحيح المعتقد وحريات الناس جميعا بمختلف الانتماءات والاعتقادات والديانات والمذاهب وبين أن نخلط الدين بالسياسة بقصد التلاعب الذي تتحكم به قوى الفساد الطائفية السياسية...
إن توحيد الحملات الناشطة اليوم ضد هذا الاتجاه، والنزول إلى الشارع في اعتصامات وتظاهرات احتجاجية وتوكيد دعم جميع القوى الحية الديموقراطيية لرابطة المرأة في قيادتها لنضال النساء العراقيات مع وقفة مجتمعية واسعة لرفض هذا التوجه هو أساس الانتصار للخيار الشعبي الوطني للدولة المدنية ولحاضر طيب ومستقبل زاهر.. وطبعا يُنتظر من القوى السليمة في إطار الدولة ومؤسساتها أن تقف أيضا بحزم لحال التجاهل الذي يجري في ممارسات ما يسمى شكليا وزارة اتحادية عندما لا يؤخذ بصوت فديرالية كوردستان ذات الاتجاه المدني بوضع القوانين وهو الأمر الذي يجب حسمه نهائيا اليوم قبل الغد قبل أن تصحو البلاد على دكتاتورية طغيان واستبداد جديد.. وهنا لابد من تحالف عريض يعلن اليوم بيني منظمات النساء والقوى الديموقراطية والمدنية الوطنية للتصدي لهذا الانحدار المتسارع متعاظم الأهوال والمخاطر والتنبه إلى ما يحاك في كواليس البلاء الطائفي، الذي استفحل حتى وصلت به الأمور للإسفار بلا خشية ولا تردد عن ممارسات بمستوى التشريع المتعارض مع الدستور ومع الاتجاه المدني ومع سلامة الوطن ووحدة المجتمع!!