النتائج الانتخابية والتوجهات الاستراتيجية الثابتة الراسخة في كوردستان
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
قبيل أيام، تمّ الإعلان عن النتائج الانتخابية لبرلمان كوردستان. وجاءت النتائج لتقول لنا بالأرقام رأي شعب كوردستان وتوكيده خياره الثابت لقيادته التاريخية مجدِّداً عهد مسيرة البناء والتقدم. وطبعاً ليؤكد خيار بناء الدولة المدنية ورفض خيار التراجع والوقوع في أحابيل الدعاية لبعض الأصوات المضللة المحدودة. فبرهنت النتيجة على وعيٍّ عميقٍ لشعب كوردستان؛ وعلى تلاحمٍ وطيد بينه وبين قيادته التنويرية المدنية. وبالمقابل فإنّ صوتَ قوى الإسلام السياسي بدت بحجمها الصغير على الرغم من حجم الدعاية التي تمّ ضخها وطبيعتها ومن وقف وراءها بشكل مباشر و\أو غير مباشر؛ بخاصة في ظل الظروف المحلية والإقليمية المحيطة بكوردستان. حيث تعلو قرقعة أسلحة التشدد والتطرف الإسلاموي، حتى أنّ هذه القوى وأصابعَها المرضية لم يرُقْ لها أنْ تشاهد احتفالات الانتصار بنجاح الانتخابات وبنجاح الخيار التاريخي، خيار بناء الدولة المدنية، فعمدت لجريمتها الإرهابية النكراء وسط أربيل...
وبدءا، نتوقف عند ما سبق أنْ أكدناه من أنَّ شعب كوردستان يمتلك الوعي الكافي والحصانة الفكرية الثقافية لتوكيد خياره وتجديد العهد مع قيادته. وهو الأمر الذي تجسَّد بوضوح في الأرقام التي حصدتها القوى المدنية الديموقراطية، قوى حركة التحرر القومي الكوردية وعلى رأسها الحزب الديموقراطي الكوردستاني. ومن الطبيعي أنْ تجري دراسة تلك النتائج بالتفاصيل في جغرافيا كوردستان، لتلمس مواضع القوة وبعض مواضع أخرى والتوجه إليها لمعالجة ظروفها المخصوصة. إنّ حجمَّ المشاركة العامة من جهة ونسبة ما حصدته قوى السلام والتقدم والديموقراطية هو مؤشر الوعي الذي نفخر به؛ ولكنّ هذا يجدد التوكيد مرة أخرى على واجب اهتمام مضاعف للمرحلة التالية بتعزيز أولوية الثقافة عبر منافذها المتنوعة ومنها التعليم والإعلام ومنتديات الخطاب الثقافي بتعددية المسارات والأدوات...
بالمقابل ينبغي أنْ نقرأ عددَ المقاعد ونسبة من اتجه إلى أحزاب الإسلام السياسي، حيث تعادل وتكشف هذه النسبة ما (ربما) يقابلها من نسبة الفقر المتواضعة ولكنها التي تبقى بحاجة لمعالجة جذرية نهائية.. كما تقابل النسبة حال بطالة محدودة و\أو اشتغال (بعضهم) في مجالات أدخل بما يسمونه العمل ((الدعوي الديني)) وهو المجال الذي يجد أرضا خصبة لتلك الحركات والأحزاب الإسلاموية، بفكرها الذي يتعارض ومصالح الشعب الحقيقية ويتناقض وتطلعات الشعب لبناء مؤسسات دولته المدنية.. حيث أولوية قوى الإسلام السياسي تقع في مناطق أخروية غيبية غير عالمنا الواقعي وغير مطالب الحياة الحرة الكريمة للمواطن الكوردستاني.. إنها تعِدُه بالجنة في (الآخرة) مقابل أن يقبل المواطن المبتلى بالخنوع والخضوع لأوامر تلك الحركات في ((الدنيا))!!
وعلى الرغم من النسبة المحدودة الصغيرة لهذه القوى (المتأسلمة) إلا أنَّنا ينبغي أنْ نصلَ إليهم وألا نتركهم فريسة قوى التشدد وعناصرها وقياداتها، فـنقرّبها من مسيرة التقدم وندمجها بمنطق التنمية والتحديث ولا نسمح بظهور شَلَل أو تبطل بسبب هذا الانتماء المعاكس في اتجاهه لحركة التطور العام واتجاهه في كوردستان. ومن الطبيعي أن نستعيد هذا الجمهور من وقوعه في ظل أسر بعض عناصر ظلامية من جهة ومن استسلامه للاحباط والانتكاس لسبب أو آخر، مما يتطلب تدخلنا لمعالجة تلك الأسباب والانتهاء منها منعا لتفريخ قوى التضليل والظلام واتساعه على حساب فئات هشة اقصاديا اجتماعيا، ضعيفة بقدراتها وبوعيها..
إنّ نتائج الانتخابات منحت تفويضا مكينا لمعنى جوهريٍّ واحد، هو اتفاق حاسم وكبير يفوق كل التوقعات، هو خيار شعب كوردستان لتوجهه نحو البناء والتقدم والانتماء لعصرنا ولقيم المدنية والحداثة. ووضع خياره في حركة تحرره القومي التي قادت المراحل السابقة. وهذا يعني اختياره برامج البناء والتقدم ووضعها بأيدي يعرفها وخبرها طويلا. بمعنى أنْ تفرض نتائج الانتخابات قبولا بمعانيها وبتوجهات الرأي العام والقبول باستفتائه الذي أشارت إليه الانتخابات كونه يجدد خياره وتوكيده الثابت المكين على استراتيجيات العمل.
فأولا هناك ما يخص حركة الإصلاح الاقتصادي، وثانيا هناك عملية تثبيت أدوات العمل والبناء من مؤسسات وآليات اشتغال فيها ونظامها. وربما سيكون من الأجدى بدل الانشغال باشتراطات مسبقة بشأن تغيير النظام العام الثبات في تحالفات القوى التحررية التقدمية على ذات نظام العمل السياسي العام مع إمكان إدراج حوار الانتقال الموضوعي الهادئ من نظام لآخر في مرحلة لاحقة. فالمرحلة الحالية تكتنفها ظروف معقدة بخاصة من جهة المحيط الإقليمي وتهديداته، الأمر الذي تَجسَّد بإنذار عابث مثَّله الهجوم الإرهابي الرخيص على مقر للأسايش.. ولعله جرس إنذار ينبه على أهمية تعزيز التحالفات بين القوى المدنية وسرعة مباشرة تشكيل المؤسسات القيادية الجديدة بأسس تُجسِّد ما أعلنه شعب كوردستان من اتجاه بنائي تنموي واضعا ثقته بأيدٍ أمينة خبيرة.
إنّ هذا الاتجاه وحقيقته أو جوهره لا تعكسه نسبة الاتجاه الإسلاموي ممن حصد أصوات فئات هشة مجتمعيا سهلة الخضوع للتضليل بوجود حال انكسار أو أحباط بل تعكسه أيضا نسبة ما حصدته قوى اليسار التقليدية [الشيوعي والاشتراكي وحركات اليسار الديموقراطي].. وبدل أنْ تصل تلك القوى لعتبة جديدة، راوحت عند مساحات محدودة. ولعل هذا أمر يأتي لأسباب كثيرة، نركز هنا على أحدها ممثلا في خيار الشعب المعمّد بالوطني الديموقراطي وبالارتباط بالتحولات البنيوية (الإصلاحية) أكثر منه القبول بالوعود (الحالمة) والبرامج التي لا تستطيع كسب التفاف الجماهير؛ من مثل تلك البرامج التي قد تتحدث عن القفز بطريقة حرق المراحل. وهذا الاعتقاد يأتي بالاستناد إلى وجود بنية مجتمعية أوسع للطبقة الوسطى من جهة ولفئات مازالت تنتمي بقوة والتحام مكين مع الذاكرة الجمعية لشعب كوردستان وموقفه الراسخ مع قيادته، قيادة حركة التحرر القومي الكوردية.
وجملة ما ذكرنا من ملاحظات، يعود ليلتقي باستراتيجية تفرض اتجاها ومنطق عمل ونظامه، مثلما تفرض أدواته في تحالفات منتظرة مؤملة. ويقينا فإن القوى التي تستجيب لخيار شعب كوردستان ستقبل بالنتيجة ليس من جهة الإقرار بالأرقام فقط ولكن من جهة إدراك معانيها ودلالاتها والاعتراف بصحيح الأداء وبرمجته بموضوعية وسلامة تفاعل مع الآخر.
فاتجاهات النتائج الانتخابية تقدمت بتأكيداتها الثابتة وبالمقابل ينبغي أن تتقدم الخطوات نحو رسوخ التوجه بأسرع ما يمكن نحو تشكيل حكومة ببرنامج عمل يعتمد ورقة الإصلاح وأية مستجدات برامجية مع توكيد على أولوية التعليم ونظم التحديث فيه والثقافة وأدوات تفعيل خطابها وأنشطتها إلى جانب معالجة ما تبقى من هامش بعض زوايا تتطلب حلولا مباشرة تخص نسبة متواضعة للفقر ولكنها تبقى بدائرة اهتمام حكومي رئيسة وتفاصيل تنموية في مجالات الصناعة والزراعة وارتقاء آخر بعلاقات خارجية مميزة وهي باتجاه تنام وتطور ثابت.
ومن الطبيعي، أن ننظر إلى الاستراتيجيات من منظور خيار التحالفات التي تظل بحاجة للثبات مع الانفتاح على مستجدات الواقع، ولا يتردد طرف يؤمن ببناء كوردستان الديموقراطية والتقدم عن الالتحاق بتشكيل سياسي يضم أعرض المكونات الحركية والحزبية بما يركز على برامج العمل والبناء والتنمية بوضوح. كما يمكن لهذا التحالف السياسي العريض أنْ ينهض بمهمة تشكيل الحكومة على أساس بنية تكنوقراطية في مفاصلها الأدائية الأوسع وإدارة المسؤوليات السيادية من قوى التحالف في ضوء النسب والنتائج التي قدمتها الانتخابات... إنّ اعتماد الدمج بين التمثيل الحزبي والبنية التكنوقراطية في تشكيل الحكومة سيحل مقدما أية احتمالات لتمدد الحوار مثلما يجسد رسوخا وتقدما نحو روح عملي للتعاطي مع التخصص ومع مهام البناء ومعالجة مطالب الواقع بعقل علمي معاصر.
إذن، الأول هو خيار التحالفات السياسية التي لا تستثني ولا تقصي؛ والثاني خيار حكومة التكنوقراط ببنيتها الأدائية مع توجيه ببرامج التحديث والتنمية ومعالجة محاور الإصلاح الاقتصادي والتغييرات في نظم العمل على مدى بعيد لا يستعجل نقلات تحرق المراحل وتكون نتيجتها تحولات شكلية بعقد مضمونية النتائج مما يعرقل المسيرة إذا ما أصر هذا الطرف أو ذاك على مطلب أو آخر كما هو الحال بشأن إعادة الدستور للبرلمان وخيار التغيير في النظام الانتخابي في مرحلة تحيطها ظروف قلقة ومعقدة.. وهي خيارات حزبية الهدف والأداء فيما نتائجها ليست مضمونة ولا محصنة ضد ما قد تحدثه من زلازل مجتمعية غير محسوبة.. وهذا هو ما يدفعنا للتوكيد على ثبات الاستراتيجيات في العمل وهو ليس خيارنا حسب بل خيار شعب كوردستان الذي أكدته الانتخابات الأخيرة...
أما ثالثا وليس أخيرا، فمن المؤمل أن تنعكس الوعود الانتخابية في البرامج العملية للأداء الحكومي مع وضع خطوات تنفيذ لتلبيتها بطريقة تبرهن على صدقية العلاقة ومتانتها في ضوء صواب المشروع الإصلاحي الشامل. وهنا بالتحديد سيكون مزيد من الاستقلالية الفديرالية ووضوح الرؤية في العلاقة مع الآخر مع تشجيع الفرص الاستثمارية المبرمجة في ضوء اتجاهات بنيوية صناعية زراعية واهتمام بقضايا مجتمعية من نمط الفقر، البطالة، الفساد، طابع النظام الاقتصا اجتماعي، ودور العقل العلمي والتعليم ونظمه ومهام التحديث فضلا عن رقي القضاء وانفتاحات أبعد وأعمق في الإعلام وبناء جسور العلاقات الأكثر متانة واتساعا بمختلف الاتجاهات المحلية والفديرالية والإقليمية والدولية...
تلكم هي زاوية من صورة ما أكدته نتائج الانتخابات من ثبات وتجديد عهد لمواصلة مشوار البناء والتقدم بقيادة كوردستانية تعي بدقة وموضوعية ما يجري حول كوردستان وما ينتظرها من مهام وواجبات جسام... فهنئيا لشعب كوردستان وقيادته هذا المنجز ومباركة نتائجه المشرقة خيرا...