كوردستان بيئةٌ تنمويةٌ بنَّاءةٌ لتحديثِ التعليم والجامعات
شرعنة التعليم الألكتروني أداة للتحديث
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
ما جرى طوال عقدين من الزمن في كوردستان الجديدة، يجسِّدُ مسيرة بناء جدية باتجاه تطمين الأمن والأمان في المدن والقرى الكوردستانية، و رفع مخلفات الجرائم التي مورست بحق الشعب من نظام الطغيان وحروبه العبثية وجرائم الإبادة الهمجية التي أوقعها بمئات آلاف الكورد. وهي مسيرةُ بناءٍ جديةٍ لتغييرِ وجه كوردستان الحزين من أمراض أصابت المجتمع الكوردستاني برمته؛ وهي مسيرة لتحريره من الخراب والدمار بجهود تأسيسية لركائز اقتصادية مكينة يمكنها أنْ تكونَ أرضية انطلاقٍ تنمويةٍ في مجالات صناعية، زراعية وغيرها؛ إلى جانب فتح آفاق كبيرة لمجتمع مدني جرى ويجري تلبية اهتمام استثنائي بقطاعاته ومكوناته المتنوعة...
إنّ انطلاق عمليات البناء والتنمية، وتراكم الخبرات، مع تعزز خطى التطور و وضوح الصورة في بنية المؤسسة الاقتصا سياسية شكَّلَ فرصة رئيسة لإطلاق مطلب حيوي للاتساع بالتعليم بكل مراحله وأقسامه وأنماطه. وباتت عمليات البناء من جهة واعتمادها على أسس الحداثة ووسائل العصر بيئة نموذجية لإطلاق مشروعات التعليم وتحديثه. وأوجدت تلك البيئة حاجات متنامية لقوى عمل متطورة تستطيع التعامل مع أدوات العمل ومناهج التنمية الأحدث؛ الأمر الذي عزز العلاقة البنيوية بين واقع التنمية الشاملة في كوردستان ومطالب التحديث في التعليم.
لقد كان التعليم في كوردستان قبل أكثر من عقدين بحالٍ مزرٍ، شأنه شأن كلّ مرافقها الأخرى.. فلقد خرَّبت النظم السابقة التعليمَ مثلما كلَّ مفاصل الحياة الكوردستانية، إذ كانت تلك النظم الفاشية الشوفينية تتعمد الإهمال المقصود لمزيد من إشاعة الأمية والجهل والتخلف حتى جاء انتصار ثورة التحرر القومي الكوردية والانعتاق من سطوة تلك النظم الدكتاتورية وطغيانها.
ومع الانعتاق والتحرر شرعت حكومة كوردستان برعاية طيبة للتعليم.. واليوم أصبح الاهتمام بالتعليم، بمراحله وأنماطه كافة، قضيةً استثنائيةً ورئيسة تستجيبُ لمسيرة التحديث والتنمية الشاملة. فمن دون مخرجات مؤهلة للتعليم يبقى سوق العمل والبناء مقيَّدة مشدودة إلى أنماط فرضتها النظم السابقة أو بدائية بعيدة عن ملاحقة تطورات عصرنا وأدوات الإنتاج فيه.
لكن كوردستان الجديدة بات لها من المدارس أكثر من 12ألف مع استشراف بناء المئات الجديدة منها، ومعها افتُتِحت حوالي 20جامعة ومعهدا، فضلا عن مؤسسات التعليم الأخرى المهنية والتدريبية من معاهد إعداد أو مراكز تطوير وتنمية بشرية متقدمة. ومن الطبيعي أنْ يكون لجهود التحديث ما يشمل مفاصل كثيرة ليس آخرها المناهج والبرامج العلمية وهيأة التدريس ووسائل العمل وأساليب التدريس ونظم التعليم.
واليوم تحديدا مع بروز خطة الإصلاح والتنمية ومع ترسّخ مسيرة ديموقراطية فاعلة وتراكم خبرة إجراء الانتخابات ونتائج خياراتها لقيادتها التاريخية، أي لبناة مسيرة التطور والتنمية، تعود بتجدد فرص الارتقاء بخطط التنمية وصنع التقدم في المجتمع الكوردستاني. إنَّ عامل الإرادة السياسية سليمة الاتجاه، صحيحة الاستراتيجيات مع صحة التطلعات المجتمعية وصواب توجهاتها، يفرض مطالب متجددة على نظم التعليم ومستويات الأداء فيها.
فقضية بناء مؤسسات مجتمع ديموقراطي، لا يمكنها إلا أنْ تستندَ لأغنى قدراتٍ معرفيةٍ وإلا فإنّ نقصاً أو شرخاً سيصيب مسيرة بناء الديموقراطية إذا لم تتوافر المعرفة وتقدم العقل العلمي ونضجه في الوسط المجتمعي.. وسيكون من الصعب والمعقد أنْ نلبي الخطوات البنيوية التالية إذا ما راوحنا في أماكننا من دون مطاردة خطى التقدم الأحدث في العالم المتطور اليوم... ومن هنا جاءت أهمية العناية الاستثنائية بتحديث التعليم ونظمه الأمر الذي نحن بصدد الإشارة إليه والتوكيد عليه باستمرار.
إنَّ النجاحات على الصُعُد الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية بكل تفاصيلها: من التحول من نسبة فقر لأكثر من نصف المجتمع والوصول بها إلى أدنى من نسبة الـ5% ومن الارتقاء بالوضع الصحي وتراجع نسبة وفيات الأطفال التي فاقت ثلث أطفال كوردستان بالأمس غير البعيد، أي قبل انتصار ثورة التحرر القومي الكوردية.. ومن إطلاق فعاليات البناء الشاملة، كلّ ذلك وغيره من منجزات أدى إلى محو شبه شامل للأمية وإلى نشر التعليم وبناء مؤسساته بانفتاح على تجاريب عالمية مكينة.
وكان لاستقطاب الطاقات الكوردستانية المهاجرة، وللتفاعل مع التجاريب العالمية الأوروبية والأمريكية المتقدمة، الأدوار المثالية في المساهمة بعملية التحديث والتقدم. ومن الطبيعي أن تشهد المسيرة مواصلة واستمرارا لتلك العمليات التنموية؛ استجابة للحاجات المتعاظمة والمستجدات التي تظهر باستمرار في إطار خطى التطور والتنمية.
وإذا كان صحيحا أنّ تلك الخطى التنموية تأتي أولا من التعليم الأساس التخصصي المهني ومن اتساع الثقافة العامة وعمقها المعرفي وما تمتلكه هذه الأرضية من زخم مميز في إطار مسيرة البناء والتقدم، فإنَّه من الصحيح أيضاً أنْ نقولَ: إنَّ هذا ليس كافيا وافيا، ما لم يُرفد بنظم التعليم العالي التخصصي الذي يقرأُ حاجاتِ السوقِ بدقةٍ ويستجيبُ لها بخططٍ مخصوصة.
إنّ دافعنا الرئيس هنا، وراء هذه القراءة وديباجتها، يكمنُ في محاولة المساهمة والارتقاء بمسيرة التحديث والتطور الشاملة وضمنا في العامل الرئيس والعمود الفقري لها أيّ الارتقاء بالتعليم ومقدار المنجز في تحديثه وتطوره. الأمر الذي لا يأتي إلا من توظيف تجاريب وخبرات عريقة من جهة وفي اعتماد توازنات جدية مهمة تخص أولويات مفردات التخطيط باعتماده التكنوقراط والعقل العلمي الكوردستاني.. ولعل من بين أبرز النجاح هو ذياك الاهتمام والأولوية التي ينبغي أن تُمنح للتعليم بخاصة منه (التعليم العالي ومراكز البحث العلمي والجامعات)... مع متابعة هذا الأمر بالعمل على استثمار دراسات لأدوات التغيير والتطوير واستخدام نظم الحداثة في الجهود العامة وتحديدا هنا في مجال التعليم العالي...
إن مواصلة الاطلاع على التجاريب الموجودة في الدول المتقدمة ودراسة وسائل توظيفها كوردستانيا يبقى معلما مهما.. فتلك التجاريب تتعامل مع واقع السوق المعاصر وما ينتظره من مخرجات التعليم العالي الأحدث في ضوء مستويات التطور في البنى الاقتصا – اجتماعية ونقاط السبق والتقدم وما تتطلبه محاولة اللحاق بأماكن التقدم والتطور من مشروعات وآليات بناء.. بخاصة في ظرف تحوّل كوردستان الجديدة نحو نظم اقتصاد جديد يتطلع لمتغيرات تعالج الفضايا الجوهرية التي تجابهه ويمكنها أن تلبي حاجات المجتمع وما ينقله باتجاه عالمنا المعاصر... ومن الطبيعي فإنَّ مثل هذا الهدف الكبير يتطلب قوى إنتاجية مختلفة نوعيا؛ بخاصة منها عنصر القوى البشرية وبنية العقل المجتمعي وما يُفترض توافره فيه من تنمية عميقة...
ولأسباب كثيرة ومتنوعة فإن التحديث في التعليم العالي وفي مستويات الجامعات العاملة يتطلب تحديثنا بنيويا من جهة مستويات الاعتماد الأكاديمي، وتحقيق تغيير جوهري في مسارات الجامعات وخططها واستراتيجياتها.. ولربما بدأنا بالقول: إنّ نظام التعليم برمته بحاجة إلى (مجلس أعلى للتعليم) يمتلك الصلاحيات في الأداء والحركة وإلى (مؤتمر دوري الانعقاد) بشأن رسم خطى التغيير ينعقد بمستويين سنوي ونصف سنوي لمتابعة مفردات عمله.. ويكون من بين أعضاء المجلس الأعلى للتعليم والمؤتمر خبراء دوليين ومنهم من الأصول الكوردستانية والعراقية لقربهم من الواقع الكوردستاني وطبيعته وحاجاته...
ومن المهم والمفيد أنْ يكون اتخاذ نظم التعليم الجديدة وسيلة للتقليل من الكلف المادية والبشرية؛ الأمر الذي سيساعد على حل إشكالات التغيير المتسارع والمحتاج للعامل الزمني وأسقفه المتاحة لمطاردة سوق العمل.. وهنا سيكون ((التعليم الألكتروني)) النظام التعليمي ذو الأفضلية في تلبية حاجات السوق ومطالب التطور والتغيير لأسباب موضوعية تجسدها طبيعة هذا النظام التعليمي وآليات اشتغاله وخصوصية نتائجه ومخرجاته...
ولدى الإدارة الكوردستانية عوامل داعمة بهذا الشأن بوجود مؤسسات صديقة وجامعات عاملة تمتلك بالملموس خبرة تبني ((التعليم الألكتروني)) وتوظيفه بمسيرة التحديث والتقدم في التعليم الكوردستاني العالي من أجل تلبية مطالب الواقع المتعاظمة... وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنَّ نموذج (جامعة ابن رشد في هولندا) مثَّلَ تجربةً رائدةً في التعليم الألكتروني بمراكزها البحثية وبما لديها من خطط ومشروعات تتابع الحوار بشأنها اليوم لوضع نتائجها في خدمة دراسة الواقع الكوردستاني والعمل على تلبية مطالبه علميا أكاديميا في مخرجات البحث العلمي والدراسة في هذه المؤسسة الجامعية الفتية.. وفي إعداد برامج مهمة للتحديث والتطوير والتعليم المستمر بما يوفر موارد مالية كبيرة للإقليم وتنمية بشرية متقدمة مميزة في مختلف مناحي سوق العمل الجديدة والتوظيف والمؤسسات العاملة في كوردستان...
إنّ إجراءات جدية منتظرة بشأن تحديث التعليم العالي على وفق ما هيَّأتُهُ البيئة الكوردستانية المتطورة، يمكن إيجازها في النقاط الرئيسة الآتية:
1. قرار بتفعيل وتشكيل مجلس التعليم العالي المرتبط باستقلالية ببرلمان الإقليم ورئاستي الحكومة والإقليم..
2. انعقاد المؤتمر السنوي وترتيب هيأة إدارته المرتبطة بمجلس التعليم الأعلى وبلجنة متابعة مؤقتة على أن يتسم باستمرارية الانعقاد وبمتابعة إجراءات التنفيذ سواء منها الاستراتيجية أم المنظورة العاجلة..
3. إقرار تحديث القوانين وتطويرها مع إدخال ((نظام التعليم الألكتروني)) تحديدا في إطارها..
4. إصدار قانون ((التعليم الألكتروني)) وتشريعه في برلمان الإقليم عاجلا للأهمية.. علما أن دولا عديدة في المنطقة قد أصدرت هذا القانون بمراسيم سامية فيها...
ومن أجل تحقيق ذلك، يمكن هنا بالخصوص الاستعانة بجامعات وخبرات دولية وبمؤسسات عاملة مثل جامعة ابن رشد في هولندا، بالاستناد إلى ما قدمته من مشروعات ناضجة وشبه مكتملة وبالاستناد إلى جاهزية مفردات ومقترحات ومشروعات تمتلكها وهي على استعداد لوضعها بملكية الإرادة السامية للمجتمع والمؤسسات الكوردستانية..
ولعل هذه المطالعة تجسد واحدة من رسائلنا العديدة التي نتطلع إلى أن تكون خارج الروتيني والتقليدي حيث نوجهها إلى مؤسسات التعليم عامة وإلى أعلى مصادر القرار الكوردستاني متوسمين فيها حيوية التعامل وصلابة الإرادة وشجاعة القرار وفعله الحداثي غير الروتيني الذي يمتد عميقا في جوهر مسيرة التقدم كما هو الأمر واقعيا منذ انطلاقة المسيرة الكوردستانية للتنمية والتقدم...
*
أ. د. تيسير
عبدالجبار
الآلوسي: رئيس
جامعة ابن رشد
في هولندا
ww.averroesuniversity.org
chancellor@averroesuniversity.org