حق المواطن في الاختيار والتغيير بمواجهة قيود الطائفية السياسية!؟
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافيي العراقي في المهجر
للديموقراطية آليات معلومة في تطبيقاتها، تستكمل مفرداتها الإجرائية؛ منها حق الاختيار الحر في ضوء التجربة الموضوعية الميدانية. فمن يمكن أن يختارهم اليوم شخص أو آخر، قد لا يعود لاختياره في مرة ثانية في ضوء التجربة العملية لبرامج وممارسات ونتائجهما الفعلية. وفي الديموقراطيات التقليدية العريقة، تختلف طبيعة عضوية الأحزاب عنها في الحركات الراديكالية بشروطها وآلياتها.. وجمهور حزب في مرحلة قد لا يبقى ثابتا معه في مرحلة تالية، من دون أن يترتب على الشخص عواقب سلبية للتغيير في اختياره وفي انتمائه.
غير أننا ما أنْ نضع أقدامنا في ميادين بلدان التخلف وتلك النامية، كما العراق، حتى نجد تصورات أخرى مغايرة تماما يفرضها قسرا الطابع الاعتقادي السياسي لبعض الحركات والأحزاب العاملة. وقد يصل الأمر في تلك الفروض القسرية من شروط وقيود تكبل الإنسان في خياراته، أن تجري تصفيته بمختلف الوسائل والطرق الضاغطة.. تبدأ بالضغوط النفسية والاجتماعية وربما تكون الخاتمة التصفية الجسدية!!
إنّ التجربة الواقعية هي التي تحكم على صحة برامج قوة سياسية أو أخرى.. ومن ثمّ فإن الشعب الذي اختارها لمرحلة ولم يجد منها سوى الفشل الذريع، من حقه أنْ يغيّر الخيار لتجريب برامج أخرى مختلفة، ربما تعالج ثغرات الواقع وتستجيب لمطالبه وتلبيها. وبهذا تكون التداولية هي الحل الذي يدفع باستمرار باتجاه التنافس الإيجابي بين مجموع قوى (البناء) ويفرض دراسة التجاريب وكشف مواضع النقص والثغرات فيها بما يطور البرامج ويأتي بالبدائل الأنضج والأفضل باستمرار.
وبالعودة لنموذجنا في التجربة العراقية، حيث حكمت أحزاب وحركات بعينها، عبرت بوضوح عن خطاب الطائفية السياسية وجوهر برامجه وأدائه.. فسنجد هنا أن السنوات العشر التي أدارت فيها دفة السفينة ببغداد، لم تأتِ إلا بمزيد من التراجع والتدهور في الأوضاع العامة. إذ أنّ الشعب عاش انفلاتا أمنيا أطاح بمئات آلاف الضحايا. والجريمة الإرهابية التصفوية منفلتة ومازالت آلتها الجهنمية تحصد ضحاياها من رقاب الأبرياء يوميا بمواجهة عجز فاضح لأداء من ينفرد بسدة الحكم وبمسؤوليات أجهزة الأمن والداخلية والجيش والمخابرات!!
على صعيد آخر حيث يمتلك رأس الحكومة وحزبه سلطة القرار ويحصر الصلاحيات بين يديه، فقد فشلت خطط العمل بقطاع الطاقة من نفط وغاز ما زال مهدورا وكهرباء مازالت تأكل رصيدا تلو آخر حتى بلغت عشرات المليارات ووصلت الـ50 مليار ولا منتج يسد حاجة البلد!!؟ ولا ماء ولا خدمات ولا ركائز ولا سكن ونسبة ربع السكان تحت خط الفقر المحلي بمعنى بفجوة فقر مدقع بالمعايير الإنسانية العالمية!!
الأمر الوحيد المتاح للمواطن وربما المجبر عليه هو أن يبكي حاله بينه وبين نفسه، إذ لا حرية للتظاهر ويوم يخرج بمظاهرة للتعبير عن مطلب أو آخر فسيلاقي قوات مدججة بمختلف الأسلحة والصنوف الشرطوية والعسكرية، مع صلاحيات القمع والضرب وأشكال المهانة والاعتقال أيضا، كما حصل مع تظاهرات ساحة التحرير بالأمس القريب... وربما من باب خطاب الطائفية السياسية وتسترها بجلباب التدين، تدفع بالمواطن للزحف بالملايين نحو أضرحة الأئمة لتبكي وحتى هنا لا يسمح لهذا المواطن المغلوب على أمره أن يبكي حاله ولا أن يعبر عما بداخله فالزيارة مشروطة ببكاء الماضي، أو ببكاء لا يطالب بأمر، فممنوع تشغيل العقل وإطلاق حوار حتى مع أئمة الثورة في زمانهم...
ولأنّ العراقيين اختاروا الديموقراطية نظاما لدولتهم المدنية، فإنّ هذا يفرض مجموعة دراسات توعوية شاملة محاور كثيرة متنوعة.. منها أنّ الديموقراطية الناضجة تتطلب وعيا ونباهة وإدراكا من أجل ممارستها بأفضل صورها، وهي بهذا تتطلب إجابة عن أسئلة كثيرة في ضمير المواطن ومنطقه العقلي ووعيه..
وأول سؤال يمكن أن يطرحه المواطن على نفسه: أنه إذا كانت برامج هذه الحركات والأحزاب (الدينية) المظهر الطائفية السياسية بجوهرها الذي خبره، قد فشلت في تلبية مطالبه، فهل من الصحيح الاستمرار في مواصلة العمل بإطارها ولها واجترار اختيارها وإعادتها لسدة الحكم؟
ولماذا يتخندق هذا المواطن مع الخطأ الذي يرقى لمستوى جريمة؟ هل لمجرد أنّه مع فريق أو حركة أو تيار بعينه؟ هل يبرر كونه ابن اعتقاد ديني ومذهبي بعينه أن يلتحق بحركة أو حزب يدعي امتلاكه تمثيل تلك المجموعة الدينية أو المذهبية؟ وهل حقا يعبر الحزب الطائفي عن مصالح أبناء المذهب والطائفة؟ والإجابة عن هذا سهلة إذ بمراجعة المنجز سيجد المواطن أن ما حصده ليس سوى التهميش والإقصاء والتبعية وجعجعة ولا طحن! إنه لا يسمع سوى خطابات جوفاء ملّ من تكرارها ولا يسمع سوى بكائيات تستدر عطفا للتضليل!!
طيب من زاوية نظر أخرى، ليسأل المواطن نفسه: هل يبرر الانتماء لتلك الجهة الحزبية الطائفية، مشاركة بعض عناصرها فيما تشيعه من فلسفة مثيرة للمشكلات والأزمات وربما ما ترتكبه من عدوانية وجرائم؟ ألا يستطيع الشخص أن يحكّم منطق عقل متنور ورشيد ليقول كلمته في إطار حركته ويرفض البرامج التي أخفقت وفشلت فشلا ذريعا في حل الأزمات وكانت السبب في وقوع أشكال الجريمة ومستوياتها المختلفة؟ ألا يستطيع اتخاذ قرار بالخروج من التيار أو الحركة عندما اكتشف ما جرى ويجري من جرائم؟
أليس الأولى أن نفعّل عقولنا في خيار الانتماء لحركة بدل إلقاء أنفسنا بتبعية لجهة تحركنا وتستغلنا باتجاهات أوقعتنا بارتكاب الحماقات والدنايا وهي مازالت توقعنا حتى بجرائم ضد أهلنا بل ضد وجودنا وضد ما نريد أن نحققه لأنفسنا من استقرار وسلام؟
وبعد أن مرت عشر سنوات عجاف، عشر من الفشل بكل المجالات: الأمنية، الاقتصادية، الخدمية، السياسية، الاجتماعية وغيرها؛ ألا يجب أن نراجع أنفسنا بعد عقد من معايشة تجاريب الفشل والجريمة والنكبات والمآسي، فنتخذ قرارا بتغيير مواضع انتمائنا؟ ألم نتعرف إلى (التداولية) بوصفها أسّ الديموقراطية والسرّ في نجاحها في بلدانها؟ فلماذا نتمسك بمشاركة جهة تأكدنا بالدليل القاطع وعلى مدة عشر عجاف من فشلها في تلبية مطالب الناس وإخفاقها في تجنيبنا الكوارث والأزمات؟
وحتى عندما يقبض شخص ثمن انتماء أو اختيار رشوة أو أجرا.. فهل يقبل، صاحب ضمير، أن تكون مصالحه الخاصة على حساب مصالح جموع الناس؟ وأن يكون الأجر أو الرشوة من دم جيرانه؟
إذ إنّ هذه الأسئلة تقودنا للقول: ينبغي لكل من انتمى لحركات الطائفية السياسية التي حكمت طوال العشر الكارثية المنصرمة، أن يرفض الخدعة والتضليل والرشى، وأنْ ينتقل على أقل تقدير للوقوف بعيدا عن تلك الحركات التي أودت برامجها وسياساتها، بحيوات الناس وحرياتهم وحقوقهم إلى المجهول..
صحيح أن تلك الحركات ستمارس كل السياسات كي تحتفظ بسلطتها في توجيه المواطنين وفرض أوامرها عليهم وإشاعة فكرها بينهم؛ إلا أنه من الصحيح أيضا أن يتخذ المواطنون قراراتهم ويعلنوا عن براءة من أولئك الذين تسببوا ويتسببون بالجريمة وبالفشل الأمني والخدمي والاقتصادي والسياسي...
والصحيح كذلك ألا يخشى المواطن من أن يقف مع نفسه، ومع ضميره الحي، مع منطق العقل والحكمة، ليقرر التغيير في اختياره. ينبغي ألا يخشى الخروج على مرحلة أكدت فشلها وألا يخشى تغيير خيار برهن خطل من انتخبه من جهة وما اختاره من برامج تلك الجهة ومشروعاتها.. لأنه بتغييره هذا لن يخسر شيئا مفيدا بل سيتخلص من أشياء سلبية أضرت بوجوده وبكل تفاصيل يومه العادي..
والخطأ كل الخطأ أن يبقى المواطن مع جهة ما عادت تعبر عن الصواب.. فلا يتخندقنّ أحد مع طرف لمجرد أنه اختار يوما هذا الاتجاه أو التيار؛ فكل شعوب التمدن تستبدل الخيارات وتمارس التداولية بلا تردد من أجل حيوية الممارسة.. وفي تلك الدول المتقدمة حتى في الظرف العادي يمارسون التغيير ولا يخشونه، كي لا تسود الرتابة وينكمش التقدم... فما بال بعضنا والفشل يعم في كل المفاصل، والماساة والكارثة تحل بنا؟ أليس الأحرى بنا أن نتخلى عن خيارات الأمس ونتخذ خيارا جديدا؟
تلك ليست بحاجة لشجاعة استثنائية وكل ما في الأمر هي اتخاذ قرار التغيير والانفكاك من قيود الطائفية التي تحاول أن تأسرنا بشتى الأساليب والممارسات. إنّ أمر التغيير في خيارنا ليس بحاجة لحكمة الحكماء ولكنه ينبني على إمعاننا في مجريات الحال وتوصيف يومنا ومطالبنا فيه، أي بأن نعي سبب ما نحن فيه حقيقة ونكشف عمن يقف وراء أزماتنا.
والقضية أيضا في معالجة أوضاعنا تكمن في ضمير حي نمتلكه وأن نؤمن بأنفسنا ونثق بها وبأننا بشر نستحق الحياة الحرة الكريمة الآمنة المستقرة.... وألا ننسى أن من يموت يوميا وبطريقة عشوائية عبثية هم نحن وسيأتي الدور علينا عاجلا أم آجلا إن لم نتخذ قرارنا بالتغيير!! إن لم نحسم أمرنا، ونغادر ما ضللونا به من أفكار ورؤى لم تأتِ لنا إلا بالويلات!
إن وعي الذات ومطالبها ووعي وجودنا وحقوقنا ووسائل عيشنا الكريمة هو ما يخرجنا من أسر من يقيدنا بالخضوع له وأوامره بحجة إيهامنا بأنه يمثل الله على الأرض وبحجة أنه الأعلم واننا الجهلة! وبحجة أنه يضمن لنا جنة الآخرة مشترطا أن نضمن له جنة الدنيا على حساب شروط عيشنا الحر الكريم!
إن من وسائل الطائفية السياسية بجوهرها التستر بالدين وهكذا هي كل الحركات التي تتستر بالدين وتتخفى تحت جلبابه وعمامته. برامجها لا تأتي لنا سوى بالضحك على الذقون وبتسييرنا خلفها وبتجييشنا تحت أوامرها فنكون القرابين لمآرب عناصر مرضية.. سواء كانت تلك الحركات المتسترة بالدين معتدلة أو متطرفة فالأخيرة المتشددة تدفع بنا إلى مهالك الموت مباشرة بأعمالها الإرهابية فيما المعتدلة تحرث الأرض بنا لتلك القوى المتطرفة وتهيئ الأرضية للمتطرفين كي يصطادوا من المخدّرين بخرافات ما أنزل الله بها من سلطان ولا وُجِدت في نص مقدس.
وستبقى تلك القيود تأسرنا ما دمنا نحن نغمض الأعين عن وعي الحقيقة التي نحياها. حقيقة الأزمات ونقص الحاجات وامتهان النفس البشرية وقتلها بغير وجه حق!
وحتى نعي، ينبغي تشغيل العقول. وحتى نختار التغيير، ينبغي أن نغادر أحزاب الطائفية السياسية، أحزاب التأسلم المزعوم وهم الأبعد عن جوهر الدين فالدين ليس لباسا ومظهرا نرتديه أو نطلقه لحية بل هو الاحتكام لمنطق العقل. وتلك الحركات (الدينية) ليست لباس أبناء العصر، أبناء العقل ومنجزه، وهي ليست رداء أبناء الوطن وحقوق الشعب العادلة..
فمصالح المواطنين هي أن يكونوا أحرارا بكلمتهم بخيارهم وخيار المواطنين: هو بناء الوطن جنة لأنفسهم، بيتا عزيزا عامرا لهم.. ولنسأل أنفسنا ونقرر هل نترك القيود بأيدينا تكبلنا أم ننطلق بلا تردد في القرار والانعتاق من حضائر تسجننا بها قوى التأسلم.
لسنا أقل من شعوب المنطقة التي عرّت وفضحت قوى الظلام والجريمة.. ولم تصبر عشرا عجافا بل حسمت أمرها بسنة واحدة.. فإلى كل صاحب عقل وضمير؛ لا تقبلوا بطبقة الفساد والجريمة التي حكمت بغداد عشرا كارثية وكفى.. فخياركم تعرفونه إنه خيار الحريات والحقوق؛ خيار الدولة المدنية، خيار دولة المواطنة، خيار السلم الأهلي ومشروعات البناء والتقدم..
وهذه لن تتحقق باجترار خيار السنوات العشر المنصرمة وتكراره بل بخيار التغيير البديل الذي ينتظركم أنتم ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. فلا تنسوا أن أحزاب الإسلام السياسي ليست الدين بل سياسة متبرقعة بتدين مزعوم وهي لا علاقة لها بالدين إلا كونه قيدا ياسركم لتخضعوا لأوامر ليس بينها ما يقع في حل معضلة أو قضية أو مشكلة أو أزمة والتجربة التي جرت ببغداد تكفي كما أن تجاريب بلدان المنطقة واضحة وقد حسمت الشعوب أمرها كما فعل الشعب المصري يوم خرج بوعي ليستعيد خياره الديموقراطي رافضا دجل التأسلم السياسي؛ ونحن في العراق الفديرالي ينبغي لنا أن نستعيد خيار الديموقراطية مسارا لنا ولبلادنا، والديموقراطية لم تكن يوما ولن تكون بظلال خطاب حركات التأسلم التي تُظهِر أمرا وتحفي حقيقتها، والحليم تكفيه الإشارة.