إعلام الأزمة ادعاءات ظاهرها في ضفة وباطنها في الضفة النقيضة
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
سادت في المدة الأخيرة خطابات إعلامية موتورة مثيرة لمزيد من التصعيد والاحتقان في العلاقات بين بعض الحركات والأحزاب السياسية في كوردستان. ولقد عبر ذاك الخطاب الإعلامي بخاصة من جانب التيار الإسلاموي عن طابع الخطاب المزدوج فهو من جهة أو في ضفة لا ينم سوى عن ادعاءات فارغة بأغلب طروحاته على الرغم من التظاهر شكليا بسلامة ما يُستند إليه وما يزعم التمسك به من أمور تبقى شكلية تماما، فيما على الضفة الأخرى نجد مضامينه ومآربه بقيت محصورة بضفة نقيضة تماما لما يتم إظهاره. إن التعكز على التمسك بالديميوقراطية وبآلياتها وتحديدا بتمسك بمساطر جامدة لمواعيد بعينها لا يمثل إلا الشكل الخارجي للديموقراطية ولكنه المفرّغ من المضامين التي تحترم الواقع الموضوعي وما يخدم الواقع والسير به إلى أمام بصواب وسلامة ومن دون أن يفسح مجالا لثغرات توفر الفرص التي تُنتهز من بعض قوى لاختراق الوضع العام والتراجع به كما هي حقيقة المآرب.
إنّ المشكلة الحقيقية في ما يجري من انفلات في الخطاب الإعلامي أنه يقوم على التضخيم والتهويل تضليلا للشعب وتوجيها لأنظاره بعيدا عن الحقيقة، ومحاولة تتوهم إمكان ابتزاز القوى التي قادت ثورة التحرر القومي الكوردي وهي تقود مسيرة بناء كوردستان الجديدة عبر تصويت شعبي انتخابي وضعها في سدة إدارة مسيرة البناء والتقدم. لقد أثارت مسيرة التنمية والتطور بكوردستان وبناء الدولة المدنية حفيظة القوى (الإسلاموية) وغيضها؛ فباتت تحاول إثارة الفوضى من جهة ومحاولة استغلال بعض ثغرات ونواقص بالضخ فيها وتضخيمها حدا يوفر لها فرص المزايدة وادعاء تبنيها مطالب الشعب.
وكما هي واضحة تجاريب حركات الإسلام السياسي في المنطقة فقد برهنت على أن تلك الحركات لا تؤمن بالديموقراطية إلا كونها أداة تستغلها للنفوذ إلى السلطة ومن ثمّ السطو على ما تراه غنيمة وما تشرع بتسميته البيعة الأبدية لتحقيق مآربها ببناء دولة دينية على أنقاض الدولة المدنية المعاصرة التي تواصل محاولات الهدم والتخريب فيها لتسرقها بألاعيبها وخطابها التضليلي الذي يتخفى وراء أستار التدين الكاذب ولكنه الذي لا يستطيع إخفاء أنه لم يلبِّ في أي بلد وصلوا فيه للسلطة أيا من مطالب الناس بل ما جرى هو أنهم وضعوا المجتمعات على حافة حروب أهلية وأشعلوا حرائق الاحتراب وهددوا بالويل والثبور لكل من عداهم بفلسفة التكفير وإباحة (ذبح) الآخر وإرعابه وإرهابه بغية السيطرة عليه!!
من هنا فإن الوضع بكوردستان ينبغي ألا ينخدع بخطاب إعلامي تضليلي يتعكز على ترتيب الثغرات ووضعها مع بعضها بما يلبي الصورة السيئة التي يريدون إشاعتها تمهيدا لادعاء أنهم يحملون البديل!؟ ونحن نضع بين أيدي أبناء كوردستان مافعلته حركات التأسلم من خراب واحتراب في الجزائر وما انحدرت به من أوضاع شعب يقارب الـ100 مليون نسمة (مصر) بسنة واحدة من حكمهم!! حتى ثار الشعب بعشرات ملايينه ليستعيد السلطة منهم ويؤكد أن الانتخابات ليست بيعة إسلاموية وأن مصر الدولة المدنية ليست ضيعة أو عزبة يمتلكها أباطرة سرقة المال العام من (الأخوان) ومصر ليست كهفا لقوى الظلام العائدة من زمن قروسطي همجي..
وهنا بكوردستان يكرر الإسلامويون لعبتهم بادعاء خطاب تعبوي ضد القوى المدنية وتلكم هي القضية الأخطر لشعب كوردستان. وتلكم هي القضية الرئيسة التي تكمن وراءء التصعيد المغرض. فقوى الظلام لا تصعّد من خطابها لقضية مطلبية أو أخرى تتعلق بالديموقراطية وتلبية شروطها بل هي تزايد من جهة وتصعّد من جهة أخرى بقصد استهداف الدولة المدنية والتراجع بها باتجاه دولة دينية المظهر وهي لا صلة لها بالدين إنما هي أداة تسطو به على مدنية وجود الناس وتأسرهم في كهوفها التي ستحولها لغيتوات خاضعة بالحديد والنار لسطوة فسادهم ومافياتهم الدموية البشعة!
واللعبة في التصعيد الإعلامي ليست مقصورة على طرفي صراع بين قوى التحرر والدولة المدنية من جهة وبين قوى الظلام والحركات الإسلاموية من جهة أخرى بل أن جهات إقليمية خارجية وأخرى من أطراف شبيهة وحليفة لحركات الإسلام السياسي من قوى الطائفية تضخ محاولاتها لإشعال الخلافات بين بعض القوى المدنية مستغلة التذكير ببعض أخطاء الماضي من جهة والعزف على وتر المصالح وطبعا عبر وسائل الضغط السياسي والمادي (الاقتصادي) على أطراف بعينها، بعد أن أوجدت منافذ ومصالح مشتركة تستطيع بوساطتها تحقيق الضغط بمعطياته الاقتصادية!
إنّ تهديد الدولة المدنية ومستقبلها بل حاضر استقرارها يأتي من هنا من بوابة القبول بتداعيات التصعيد الإعلامي السياسي ومن الانجرار أو الانزلاق لصراعاته المفتعلة.. ومن ثمّ فإن سفينة الوطن والاستقرار والسلم الأهلي التي يحتمل غرقها ستغرق بالجميع وليس بطرف من دون آخر. فهل فكر من يمارس التهجم اليوم ويستخدم خطابا تصعيديا بما سيكون في اليوم التالي؟
إنّ أطراف قوى التحالف الاستراتيجي تعي تماما ما يراد من وراء تلك المزايدات من جرها إلى ميادين الاحتقان والصراع فيما بينها. وهو أخطر من حال الصراع بينها من جهة وبين بعض قوى المعارضة التي تبنّت التصعيد والمزايدة فيما تعتقده فرصة لتهيئة الأرض الانتخابية لمصلحتها تنتهزها لمآرب حزبية ضيقة! من دون أن تعي (تلك القوى المعارضة) ما تعني الانفلاتة الإعلامية من احتمالات الانجرار لتفجير الوضع والانزلاق لاحتراب غير معروف الحدود في أجواء محيط إقليمي ملتهب مشتعل بات يهدد بحرق الأخضر مع اليابس.
إن الصحيح اليوم يكمن في قرار حكيم يوقف فورا كل أشكال التصعيد والمزايدة التي اعتمدت إعادة إخراج سجلات الدفاتر العتيقة وبعض ما احتواه من مآسي الماضي البغيض يوم كان الاحتراب الدموي على سبيل المثال سيد الميدان، وهو ما يجب أن يكون قد تم محوه مرة وإلى الأبد في مسيرة كوردستان الجديدة. وأول ما ينبغي أن يكون هو تعميد التحالف الاستراتيجي لحساب الدفاع عن سلامة التوجه في بناء أسس الدولة المدنية التي تلبي مصالح الشعب وتحميه من أية محاولات يريدونها أن تغتال منجزه الذي جاء بدماء أبنائه بثورة مازالت حية ماثلة في أذهان شعب كوردستان.
الأمر الآخر يكمن في انفتاح التحالف الاستراتيجي على القوى المدنية المختلفة في ميادين كوردستان واللقاء معها من بوابة الحوار الراسخ القائم على يقين وثقة تامة بأن كل أنشطة القوى المدنية قوى التحرر والديموقراطية لا تحيا إلا بفضاء السلم الأهلي، فضاء التكامل والتكافل واحترام التعددية التي توسع من المشاركة في مسيرة الدفاع عن منجز الثورة الكوردية من جهة وعن التقدم بالدولة المدنية من جهة أوضح حاضرا ومستقبلا. وبخلافه فإن أي قبول بتداعيات خطاب إثارة الاحتقانات والخلافات الشقاقية التمزيقية التناقضية سيؤدي إلى نتائج غير محمودة وليست بمصلحة أي طرف وهي بالمحصلة ليست بمصلحة شعب كوردستان.
إنّ الاختلاف لا يكمن في موضوع إعادة الدستور للبرلمان بعد أن تمّ إقراره وتم توجيهه للاستفتاء الشعبي وهو ما ينبغي أن يُستكمل؛ ولا في موضوع تأجيل انتخابات الرئاسة، فالاختلاف الحقيقي وجوهره يكمن فيمن يتبنى مسيرة الديموقراطية وبناء الدولة المدنية ومن يتبنى نقيضها في الضرب والطعن والتشويه بما يهيئ له وقوى الظلام تحديدا ليسرق المنجز ويسطو على الوضع بغاية هدم الدولة المدنية وبناء أسس الدولة الدينية الكليبتوقراطية التي تحكم بعنف المال والسلاح، إذا ما جاءت عبر اختراقها الوضع!
أما موضوع المواعيد الانتخابية سواء بتبكير أو تأجيل في الانتخابات فهي قضية تحكمها الظروف الموضوعية وشروط الواقع وليس القياسات السمترية الجامدة. لأن الدستور الذي وضعه الشعب عقدا اجتماعيا شاملا إن هو إلا خطوط عامة لها صياغاتها الشكلية ولها دلالاتها المضمونية وجوهرها الحي أو روح القانون.. وعادة ما يميل فقه القانون للأخذ بروح القانون لا بشكلانية نصوصه. وربما ببعض البلدان لا يكتبون النصوص الدستورية الجامدة ويُبقون على الأمور مفتوحة لإدراكهم خطأ إلزام الظروف الموضوعية والأجيال المتلاحقة بنصوص شكلية على حساب الحياتي المعاش.
إن افتعال الاختلاف والتطبيل والتزمير لموضوع تمسك قوى بعينها بما يدعون أنه تمسك بالديموقراطية هو تظاهر يعبر عن تمسك بالشكلانيات الخارجية الفضفاضة التي لا تخدم مسيرة البناء والتقدم وهي (وبقصد وتعمّد) ترفض النظر في الظرف الموضوعي واشتراطاته وتحاول التعمية عليه وتغييبه بغاية التضليل والاختراق ومحاولة سرقة أصوات الناس المغيبة والمضللة لمآرب ليس من بينها أي مصلحة لهم ولعموم الشعب!
عليه، فإن جوهر الديموقراطية لا يتعارض واتخاذ قرارات تأخذ بالحسبان ما سينجم عن أي توجه لأي نشاط سياسي مثل الانتخابات وموعد انعقادها. ولعل خير دليل ما جرى ويجري منذ عقود بعيدة في البلدان الديموقراطية العتيدة من تغيير بمواعيد الانتخابات على وفق الظروف التي تحكمها الأوضاع العامة المحيطة سواء داخلية محلية أم خارجية.
إن التأزيم والمزايدة والتصعيد الإعلامي لا يخدم أي طرف مخلص للشعب ولمصالحه. كما لا يخدم وجود حياة سياسية مستقرة وحياة حزبية يُفترض أن تتطور وتتقدم بالوضع العام لا أن تكون العربة التي تقف أمام الحصان. ومن أجل ذلك سيكون اللقاء قائما على تفعيل خطة الإصلاح الاستراتيجي من جهة وتعزيز خطاب التحالف الاستراتيجي وتطويره والتمسك بخيار السلم الأهلي وخطاب يقوم على الحوار راسخا لا يقبل المزايدة ولا أشكال فتح الدفاتر العتيقة بسلبياتها.
لأن جهود البناء تنطلق من استعراض إيجابيات الدروس وآثارها البنيوية لا اجترار السلبي وآثاره الهدمية التخريبية. كما ينبغي هنا الحذر كل الحذر من أن كوردستان كلما تقدمت خطوة إلى أمام حاولت القوى المعادية الوقوف بوجه هذا التقدم والتدخل بأصابع إثارة الشقاق والتشظي وتمزيق اللحمة بين القوى المجتمعية ذات المصلحة في جوهر ما تعنيه الديموقراطية وليس فيما ترمي إليه القوى التي تتمسك بالشكلانيات الفارغة.
فهلا تنبهنا للدرس وتمسكنا بأعلى درجات ضبط النفس وبالعودة للسياق الأبلغ والأنضج صوابا وسلامة في مسيرتنا؟؟