أين نجد الاستراتيج والتكتيك في سياسة الحكومة الاتحادية في بغداد؟ وماذا ينبني على الإجابة؟
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
في كل بلدان العالم، تنعقد المؤتمرات والملتقيات البحثية وتنجز الدراسات العلمية على وفق الاحصاءات والوقائع الملموسة المحددة، كيما تتحدد الاستراتيجيات والمحاور العامة البعيدة من جهة، والتكتيكات والأعمال المرحلية التي تنبني منها مجمل تلك المسيرة. ولا تتأثر كثيرا الاستراتيجيات بتغير الحكومات فهي قضية تتعلق بثوابت تحددها الظروف العامة للبلد من جهة والأهداف البعيدة التي تبقى صورتها ذاتها في وعي الأمة ومؤسسات دولتها الوطنية.
ربما هناك بعض الاختلافات الأيدليوجية التي تحيل إلى أولويات وأسبقيات وإلى اتجاه الاستراتيجية؛ إلا أنها لا يمكن أن تلغي الهيكل العام للاستراتيجية ومبانيه ومحاوره. أما الشؤون المرحلية (التكتيكية) فهي تتغير بالتناسب مع المتغيرات الجارية وبما يستجيب أيضا لمحددات الواقع ومطالبه. إلا أنها تبقى أيضا خاضعة لأطر الاستراتيجية التي تنتظر أن تكون منجزات المراحل تكاملية بما توفر فرصة الوصول إلى الهدف الأبعد.
وبمراجعة أولية في سياسة حكومة بغداد (الاتحادية) فإنّ المرء يندهش من أنها طوال العشر العجاف لم تضع استراتيجيات ثابتة، تستند إلى التغير النوعي الجوهري في البلاد بسقوط سلطة الدكتاتورية.. وفي الحقيقة لا يمكن لجهة أن تنجز استراتيجية صحيحة ما لم تتوافر أدوات حية فاعلة مخصوصة، وقوى نزيهة تنتمي للشعب وتطلعاته الوجودية الأشمل والأبعد.
ومن أول تلك الأدوات، المراكز البحثية العلمية والجهود الإحصائية الدقيقة.. فيما نعرف أن أول المستبعدين في الحكومة الاتحادية بمستويات مؤسساتها وتنوعات مفاصلها، هم التكنوقراط والعقل العلمي العراقي. وحتى إن وُجد هؤلاء في مؤسسة فإن جهودهم معطلة لأن إدارة مؤسساتهم ليست بأيديهم ولأن خطط تلك المؤسسات تقوم على تمشية مجريات الوقائع بطريقة لا تنتمي لآليات عمل المؤسسات التي تنتمي لعصرنا ومستوى التقدم فيه. كما أن تلك الطاقات العلمية خضعت عمليا للتصفية الجسدية وعمليات التهجير فضلا عن التبطل وحجب مواقع القرار ومفاصل العمل التخصصي عنهم. وبالنتيجة فإنّ الأمور الجارية، تمضي قدريا وبالترقيع!!
ولنتساءل هنا على وفق العلوم والمعارف البشرية وعلى وفق التجاريب والخبرات، لنتساءل بشأن استراتيجية التغيير التي تتطلب لإعادة البناء أن يكون لديها وسائلها السليمة في هدم النظام القديم واستبداله وليتحدد تساؤلنا بالإشارة إلى المؤسستين العسكرية والأمنية التي جرى التغيير فيها انقلابيا شاملا: هل كانت صيغة الهدم وصيغة وآلية الاستبدال والبناء منسقة منتظمة؟ أم ظلت تائهة بين هدم الهياكل السابقة والإبقاء على عناصرها بتوظيفات عشوائية؟
ماذا كانت النتيجة؟ انفلاتا أمنيا شاملا في ضوء عدم استثمار الخبرات فعليا في الإطار البنائي الأمر الذي فسح المجال واسعا للخروقات وللبقاء في دائرة البديل الأسوأ غير القادر على مباشرة الجهد المنتظر؛ طبعا لا ننسى هنا عدم توافر العقيدة العسكرية ولا التسليح ولا طابع الإدارة وجوهر ما تؤمن به بخاصة في المجال الحقوقي الأمر الذي جانب حيادية القوات وأبعدها عن خدمة الشعب والسيادة وحصرها بخدمة النظام وعناصر القيادة فيه؛ وهو ما كرر الماضي المهزوم جوهريا باستبدال مسميات فقط لا غير.
ومثل هذا نرصده في مجالات الاقتصاد والفعاليات الحيوية الجديدة، تلك التي تتطلب لتحقيق النمو تهيئة الأجواء المناسبة لوضع أسس النظام الجديد المنتمي للعصر ببناه الاقتصاسياسية وهو ما لم يحصل فعليا عندما جرى الامتياح من نظم ماضوية من زمن دويلات الطوائف أو هياكل مرضية تهيئ لنظام يتعارض وفلسفة عصرنا. فيما لم تمنح قوى الشعب والمجتمع المدني فرصتها للهيمنة وفرض سلطتها وإدارتها الحركة الاستراتيجية بل تم تجديد أشكال القمع واحتكار السلطة بحجج وأعذار واهية.
فعن أي استراتيج اقتصاسياسي مجتمعي يمكننا الحديث؟ إن الاستراتيجية الوحيدة المتاحة اليوم، هي تلك التي تظهر إعلاميا وتطل على الناس عبر استخدام لفظي للتظاهر والادعاء. وفيما يبرز المفكرون القوة الاقتصادية وحرية العمل ركنين للاستراتيجية فإننا لا نرى قوة اقتصادية بل انهيارا اقتصاديا شاملا ولا نرى حرية العمل بل قيودا وتوجيها طفيليا لمشروعاته ولا نرى من ضمن قيم الاستراتيجية، المعنويات والقوة النفسية مثلما لا نرصد تلاحما بين الشعب وإدارة الدولة بل تعزز الشرخ بينهما في ضوء ولادة طبقة كربتوقراط منفصمة عن غالبية من الفقراء بما يسمح بتعرض الهوية الوطنية لهزات راديكالية خطيرة..
إذن، الاستراتيجية لا مكان لها في ذهن هذه الطبقة وتوجهها لممارسة سلطتها الكليبتوقراطية، لا مكان للاستراتيجية إلا في (التظاهر والادعاء) لدى أصوات شخوص لم يطلعوا يوما على معنى الاستراتيج وما يختزنه من محتوى مفهومي معرفي ومن آليات اشتغال ومحددات، إنها بعض أصوات الطبقة السياسية [من الكربتوقراط] التي جاءت في معمعان تلاطم أمواج حزبية قادتها ظروف استثنائية لتكون في سدة الإدارة العامة للبلاد والعباد.
أما التكتيك عند هؤلاء الذين باتوا طبقة سياسية، فإنّه لا يكمن في الخطط التي تحكمها السياسة العامة البعيدة ولا طبيعة الحاجات المباشرة للإنسان والمرحلة؛ ولكنه يكمن بنيويا في تلك الأعمال والأنشطة الطفيلية المتسرعة التي تستعجل الربح المادي وتمهد لتمرير أشكال الفساد المستشري وهذه قضية ليست دعاية سياسية مضادة أو موقف سياسي مختلف من حزب وشخصية تتحكم بالوضع بل الوقائع والقراءات المتخصصة المحلية والدولية هي ما شخصته أما المواطن العادي فليس بحاجة لهذا التشخيص كي يعرف أنه بلا استجابة من مؤسسة حكومية لأي من مطالب يومه العادي.
والتكتيك عند هؤلاء أيضا يكمن في لغة العنف التي يستغلونها ويمارسونها، وذلك لعدم توافر ثقافة حقوقية عندهم من جهة ولانتفاء الوعي بالخطط الأعمق والأنجع لمعالجة القضايا الأمنية العسكرية.. وسياسيا فإن الأداء ليس مزاجيا متقلبا حسب بل تقلباته تمثل انسجاما كليا مع تقلبات المصالح الآنية وما تفرضه من توجهات. ومن هنا تجد تحالف اليوم بين قوتين مرة بهيجا ومرات متقاطعا متناقضا.. وربما جرى التلاقي والاحتراب في ذات اليوم.. ولا عجب في هذا؛ فالأمور مفسرة كما أشرنا إليها في الأسطر السابقة.
من هنا فالمنصف وصاحب العقل يمارس جهودا علاقاتية في ضوء قراءة تلك الحقيقة محاولا استثمار ما يمكن استثماره لمصلحة الناس وقضاياهم وهو يدري أن جوهر السياسة المرحلية الجارية وتكتيكات الحكومة الاتحادية أو بالأحرى من يتحكم بها، تكمن في (المخادعة والتضليل) وليس في خانة البحث عن مراكمة الإيجابي والثبات على وتيرته بنيويا كما هو مطلوب ومنتظر.
إنّ هذه الحقائق التي تشمل كل قطاعات العمل العام ومسؤوليات الحكومة الاتحادية؛ باتت اليوم تجري في إطار نظام كليبتوقراطي فمن جهة يحمل فلسفة الطائفية وآليات اشتغالها الماضوية التي تعود لأزمنة الكهوف وظلامياتها ودويلات الطوائف ووحشية تخلفها. ومن جهة أخرى يعم الفساد حتى قمة الهرم حتى تحكمت قوى مافيوية بالوضع وإدارته.. وكلا الطائفية والفساد يرشحان بطغيان يؤدي إلى فسحة كبيرة واسعة للإرهاب.
من هنا فإن إجابتنا عن سؤال أين نجد الاستراتيجية والتكتيك في رؤية الحكومة الاتحادية، لا يكشف موضعها غير السليم حيث التظاهر والإدعاء والمكر والتضليل حسب بل فوق ذلك يمنحنا فرصة أغنى في قراءة أسباب هذه المبادرة أو تلك مما تطل علينا به قوى تحتر إدارة (الاتحادية) وما ربما يختفي وراءها. على سبيل المثال ما يطفو أحيانا من حالات اتفاق بين نقيضين تشتعل بينهما الاتهامات وفضح المختفي والتلويح بامتلاك كل طرف ما يجرِّم الآخر وفجأة تنطفئ لغة الاحتراب عندما تعبر تلك الاحترابات الخطوط الحمرا بينهما. في وقت يدركان أن شرعنة وجودهما يتطلب وجودهما ركنان مكينان للطائفية.. وأساسا جوهريا لتمرير صفقات الفساد والطمطمة على الجريمة الجارية..
لا يمكن وهذه الحقيقة أن يقبل منطق التغيير الاستراتيجي باستمرار هكذا تشكيلة ببغداد.. وحتى توجهها لعقد اجتماعات الحكومة في أماكن أخرى إنما يسجل مراوغة تعمل على تغطية الحقيقة والتعتيم عليها والتقدم خطوة باتجاه لفلفة الأمور وتحييد قوى وطنية سليمة مازالت تكافح لبناء عراق جديد.
إنّ عين من يدير الحكومة الاتحادية اليوم، ليست بمستوى التخطيط الاستراتيجي لتفكيك البلاد ولكنها آلية وجود عناصر ظلامية أو غير كفوءة هو ما يخلق تداعيات لا علاقة لها بتخطيط علمي ولكنها مرتبطة بوضوح بمنطق نظام (كليبتوقراطي) يستند لتحالف ثلاثي الطائفية الفساد الإرهاب ما يعني أن التغيير، يتطلب أول ما يتطلب البحث عن إدارة بديلة تمتلك الكفاءة ولكن هذا لن يأتي بانقلاب بل يأتي من توفير الأجواء بمناخها السليم عبر تجميع القوى تدريجا وتحفيز المعنويات والقوى النفسية المجتمعية مع حماية الموجود المتحقق للتقدم نحو خطى أبعد.
من هنا لا لوم على حالات التعايش الاضطراري في ظل الظرف القائم وعلى بعض العلاقات الاستثنائية لتمشية بعض مفردات اليوم العادي وعلى تحالفات بالمستوى الحكومي ولكن مع الانتباه على الأولويات في التحالفات السياسية التي تستند إلى تلاحم جوهري مع الشعب وقواه ومكوناته وعلى تحفيز الوعي الشعبي بالأنشطة المؤملة وبخطط تعرف الهدف البعيد (استراتيجيا) مثلما تعرف بدقة وموضوعية التكتيكات الأنضج للتقدم.
وبمقابل إدراك القوى الوطنية الديموقراطية لحقيقة ما يجري في مؤسسات الحكومة الاتحادية ببغداد ومعرفة يقينية بالخرق الجوهري ممثلا بسياسة التظاهر والادعاء باستراتيجيات من جهة وبالمكر والمخادعة وبالتضليل في تبني تكتيكات بنائية وهمية من جهة أخرى، بمقابل كل ذلك سيكون الهجوم السياسي المضاد قائما على تقوية التلاحم وتعزيز جبهة التقدم والتنوير تنظيميا فكريا وإنضاج برنامجها الأشمل. ولعل سلامة الأرضية وقوتها المكينة في كوردستان تبقى صمام الأمان الذي يمنح فرص التغيير طاقات جدية واعدة.