مظاهرات مطلبية بلا استجابة ولا تفاعل! هل تتحول إلى مظاهرات سياسية؟
رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
تحتفظ الذاكرة العراقية بردود فعل شعبية حادة وعنيفة، اندلعت إثر النقص الحاد بالكهرباء؛ وتحتفظ الذاكرة ذاتها بالقمع الذي جابهته تظاهرات شباط فبراير 2011! وتعاود كل صيف ظروف بيئية قاسية لتدفع بأولئك الرجال إلى شوارع الاحتجاج قسرا لأنهم لا يجدون مبررا للمعاناة ولا منفذا للخروج منه ومنحه شهادة استسلام أخرى وقبول بفلسفة تأييد هذا المسؤول أو ذاك المتحكّم بجمع أو آخر من البسطاء بوساطة بلطجة عنفية أو بلطجة فكرية سياسية بالمصادرة بوساطة تكفير أو إرعاب بغضب أحد الرموز الدينية وأساطير ما ينسج حولها مما لم تأتِ به تلك الرموز الدينية من افتعالات مصطنعة لمآرب دنيوية محضة كالذي يجري اليوم باسمها كذبا وادعاء!
قد يتبع جمهور من جماعات منقسمة مرجعا و\أو آخر فيخضعون لأوامره السياسية الدنيوية ويُخلِصون التبعية إلى حد التضحية من أجل تنفيذ أمر أو آخر! وهم بهذا يُلزمون عوائلهم بتعاليم وأوامر أسيادهم ممن يقود بعض ميليشيات تتحكم بإدارة السلطة في البلاد والسلطة في المحافظة والناحية والقرية.. لكن بعد كل هذا، تأتي تفاصيل اليوم العادي لتفضح من يتحكم بالسلطتين المحلية والاتحادية ويوجه الناس إلى حيث استسلام تام لأوامره ونواهيه، فالسوق في غلاء والمواد الغذائية تتراجع نوعيتها وبين الفينة والأخرى تظهر حالات الغش من قبيل خلط المواد ببرادة الحديد ولا نقاوة لمواد أخرى وبعضها نافد [بمعنى منتهي] الصلاحية والماء ليس صالحا للشرب والخدمات الصحية في أدنى مستوياتها ولا يستطيع امرؤ أن يحظى بهزيل من بعض حقوقه إلا بإجازة أو صك غفران من (السيد) الذي يوزعها حيثما رغب وشاء!؟
الكارثة التي تنكأ الجراحات أن المرأة وأطفالها يقبعون ببيوت متهالكة يخضعن للسجن؛ وهو أمر باتت الأغلبية ((تؤمن)) و\أو تستكين له عن قناعة بظلاميات متخلفة وربما عن رهبة من سطوة البلطجة على شوارع المدن والقصبات والقرى؛ الأمر الذي لا يسطيع (فرد) أن يرده. ولكن ماذا يقول هذا الفرد (الرجل) لأمه وزوجته وأطفاله والضيم يطاردهم حتى في عقر الدار!!؟ فلا هواء يتنفسونه بسلامة ولا ماء يشربونه بصحة وهم يتجرعون هذا ويمرضون بصمت، ولكن أن تتحد الظروف جميعا ولا كهرباء تنتظم في تلك البيوت الفقيرة، فأمر فيه ردّ فعل مختلف.. إن النقص في تلك الأشياء الرئيسة الحيوية بخاصة مع ثالثة الأثافي الكهرباء بات متنوع الأشكال غائر الأثر متغوّله! وما عادت الحياة تطاق ولا يمكن العيش في أقنان الدجاج المتهاوية سجنا لتلك العوائل، فرجالهم أنفسهم يحيون هناك منزوين معهم، محاولين تجنب الشرّ والغناء له؛ لكنه يلاحقهم هناك في عقر الديار بمزيد استغلال واستفحال فحش بحق الناس وشروط عيش شديدة السوء والرداءة بكل كدرها ومآسيها....!
البيئة ترفض التنازل عن احتدامها، دع عنك ما تفعله أمطار المواسم الغاضبة وفيضاناتها المزمجرة المدمرة.. إننا نتحدث عن حر الصيف اللاهب وعن ريح السموم وغبارها. بالأمس البعيد كانت البيوت الطينية معالجة، فجابه الناس ظروفا طبيعية لها قسوتها. لكن الناس اليوم تأوي إلى بيوت كونكريتية متهالكة بخدماتها وهي لا تلائم البيئة وقسوتها.. فتتضاعف الظروف مع احتدامها في ضوء المتغيرات البيئية الجديدة وما رافقها من انقلاب مأساوي شديد الوطأة؛ لتأتي الكهرباء ماردا أسطوريا يكاد يقضي يوميا على عشرات ومئات مما لا يسمونه ضحايا بل يسمونه موتا طبيعيا، قضاء وقدرا؛ ولكن أيّ قضاء وأيّ قدر ذاك الذي يطيح بهذه الجموع أضحية لغبار ولا مسعف في مستشفى ولا أوكسجين يوفر لمريض أو امرئ أنهكه العمر والهزال! وأيّ قضاء وقدر والكهرباء المنقطعة بسبب وبرمجة وبلا سبب ولا برمجة تترك الناس لقيض مميت...!؟
هذه الأيام، اضطرت الناس (الذكورفقط!) للخروج إلى الشوارع بسبب الحرّ الشديد. ولكن القضية ليست قضية حر يقع على الرجال ولا يقع على النساء.. إنها قضية رجل يحجر على أمه وزوجه وأطفاله في كهوف تلتهب حرا حد الموت، فما موقفه الأخلاقي؟ ما إجابة ضميره؟ ما تفسيره؟ وما تبريره؟ وما حلوله؟؟؟ هل القضية قضية احتجاز أرواح بريئة حتى الموت؟ هل يقبل رب تلك المراجع التي تتوزع المهام بين من يرتدي عباءة وعمامة ليكون رجل الدين ومن يرتدي بدلة بلا ربطة عنق ليكون رجل الدولة؟ هل كان الله يوما ضد عباده أم أنه براء من أولئك الذين يدعون تمثيله على الأرض زورا وبهتانا لينهبوا الثروات ويستعبدوا الأحرار فيذلوهم لا برمي الفتات والنزر اليسير الذي لا يغني ولا يسمن بل أبعد من ذلك، أن العبد منهم مضطر ليخضع ويخنع لكل شيء ولا يتكلم وأن حياته ملك سيده طالما قبل التبعية له مالكا لوجوده متحكما في إرادته وحركته يأمره فيطيع بلا تفكير!!!
والوضع اليوم يذكر في أن السيد في زمن العبودية يمتلك حق التصرف لا بالأشياء بوصفها أملاكا بل بنساء من يستعبدونهم وبأطفالهم!! وإذا كان تغير أمر اليوم فشكليا لأن الشكل الجديد لا يعدو عن تخل عن بعض حقوق السيد الآمر الناهي لوفرتها ليبقى الأساس في الخنوع في كل شيء حد الموت بصمت ولا حق لارتفاع الصوت......!؟
وحتى لا أجرح امرئا في قيمه وكرامته، فإنّ هذا لم يعد مقبولا اليوم قطعا؛ فالرجال اليوم أحرار باتوا يرفضون الذل.. يرفضون التبريرات والحجج الواهية مثلما باتت الوعود المكرورة مجرد قشمريات ما عاد من أحد يصدقها.. وطبعا بين الناس تتفشى وعود وزير الطاقة الأقدم في أنه لن يكتفي بتوفير الكهرباء للناس بل سيصدرها إلى دول الجوار..!!؟ والحقيقة التي تدمي أن الكهرباء التي لم ولن يوفرها هذا السيد وغيره من السادة على مقاس أو حجم أصغر، باتت مستوردة من دول الجوار اسما لا فعلا ففي ديالى الكهرباء الإيرانية أما متقطعة وأما بفولتية هزيلة الأمر الذي خرّب أجهزة الفقراء وأنهكهم حد الإفلاس وعدم التمكن من سداد أجور كهرباء لا تصلهم بوصفها خدمة مستقرة مفيدة بشيء بل بوصفها مضرة وإيذاء وتخريب!!!
وهي ليست كذلك في البصرة ولا هي كذلك في ذي قار وأقضيتها ونواحيها، ولكنها منقطعة مرة واحدة خامدة بلا طاقة تدير أيّ جهاز كهربائي!؟ إنها بنقص يصل لأكثر من الـ80% فهل يحق لأحد أن يسمي هذه النسبة مجرد نقص؟؟ هنا تأتيهم الكهرباء تذكرة فقط كي لا ينسوا وجودهم بعصر الكهرباء.. وكي يتذكروا أنهم موجودون بمحافظة باتت الكشوف تتوالى عن بحيرات الطاقة أو النفط التي يطوفون عليها.. ولكنهم بلا طاقة، بلا كهرباء وبلا ماء يطفي الضما ويقلل من لهيب الحرارة المشتعلة لا في البيوت الخربة بل في الأبدان المنهكة المتعبة!؟
إن مواطني محافظات الجنوب والوسط وايضا الغرب والشرق، يستحقون شروط عيشهم بآدميتهم، بوجودهم البشري المصان، بحقوقهم الإنسانية. فالكهرباء ليست سلعة اليوم للبيع والشراء والمتاجرة لإتخام جيوب الأباطرة الجدد من الفاسدين والتابعين لمافيات دولية وسياستها في تخريب البلاد.. إنها مثلما الهواء والماء مادة مشاعة يجب توفيرها بأفضل شروطها خدمة وإشباعا لحاجات العيش الآدمي الصحي.
وحتى تتوفر شروط بيئة صحية من هواء وأجواء يجب أن يدرك مواطنو البلاد ما يتعرضون له من إبادة بسبب تلوث أجواء البلاد وعدم صلاحيتها للعيش البشري وإلا أورثوا الأبناء الأمراض الخلقية التي ستبيدهم.. وتلك قضية أخطر من الكهرباء نفسها؛ فلماذا لا يفكرون بمصالحهم والأجيال التي يخلفونها لسواد عيون السادة الجدد ومآربهم ونوازعهم المرضية؟
والماء الذي يشربون والذي يسقون به الزرع والضرع ملوث بكل أشكال الأمراض التي تنتسب للأصول الأحيائية والكيميائية ولغيرهما من ملوثات.. وبالمناسبة فإن التلوث بعضه يأتي مع الأنهار الناضبة أو الغاضبة بما تجرفه بفيضانات في غير محلها ويأتي من أعمال مقصودة وأصابع تنشر أحياء غريبة على بيئة المحافظات الجنوبية بخاصة كما دفعت دولة جارة بكائنات أضرت بالثروة السمكية وبغيرها من الثروات الأحيائية كالطيور مثلا، فأخلّت بالتوازن البيئي فضلا عما ترسله ببقايا الكارون وغيره من ممرات مائية تجلب معها النفايات الكيميائية والنووية!!!
أما الكهرباء، فهي كما يرون بأبصارهم وينبغي أن يروا ببصيرتهم، فهي تبتليهم بكل شيء في نقصها الدائم حتى في كرامتهم رجالا يجب أن يدافعوا لا عن حقوق عوائلهم بل عن حيوات أبناء تلك العوائل التي تتعرض للتعذيب المجاني والموت اليومي!!!
ولا حجة ولا ذريعة في قضية الكهرباء فهي موجودة موفورة في كوردستان الفديرالية؟ ألا يقارنون ويكشفون السبب الحقيقي وراء وفرتها هناك وانعدامها عندهم؟ الفرق في المسؤول وخططه إنجازاته: أليس كذلك أيها السادة؟ ليست القضية أنكم معارضين يجب عقابكم فأنتم أبناء الجنوب الأبي وأنتم أبناء النشامى أصحاب الحقوق والثورات البهية ومع كل ذلك فلا خدمات! وهم يتاجرون باسمكم في تمسكهم بكراسي السلطة!!! ولنتساءل معا:
ألم يدخل أبناء الجنوب في أحزاب السادة المسؤولين الجدد؟ ألم يخدموا وينفذوا أوامر المسؤولين الجدد؟ أم يحابوا أبناء المسؤولين الجدد؟ ألم يخضعوا لإرادة السادة المسؤولين الجدد؟ ألم يسددوا الضرائب لمؤسسات السادة الجدد؟ أليسوا من شيعتهم؟ ألم يدفعوا للسادة الكهنوت الديني الزكاة وخمس الأجداد؟ ألم يصمتوا عن رواتبهم المتأخرة؟ ألم يقدموا أجور جهدهم اليومي ويضعوها رشى في جيوب المسؤولين الجدد؟ ألم يغضوا الطرف عن جرائم النهب والسلب والسرقة والمصادرة والتجاوز على أملاكهم وأملاك الناس لصالح المسؤولين الجدد؟ ألم يغضوا الطرف عن جرائم الاغتصاب والاستغلال الجنسي لما افتضح من ممارسات بعض السادة الجدد؟ ألم يغضوا الطرف عن الإهانات والتعرض للكرامة والإذلال مما مارسه السادة المسؤولين الجدد؟
إذن، ماذا يريد المسؤولين الجدد أكثر من كل ذلك؟ لم يبق من شيء لم يسلموه لهم سوى بقية طاقة بدنية متهاوية وأرواح خاوية.. فهل ذاك ما يريده المسؤولون الجدد؟ أم أن العيون النهمة للمسؤولين الجدد منشغلة عن الهواء والماء والكهرباء تطارد أجساد الصبايا البكر ومحاولة ترويض النسوة الشريفات؟ وإدامة فلسفة الفساد بأشكالها كي يديموا وجودهم بسلطة الفساد والجريمة؟
وللإجابة عن سؤال موضوعنا اليوم وعنوان معالجتنا؛ نصل مع كل ذي عقل سليم وضمير حر للقول: عند هذا الحد لن يتظاهر الرجال من أجل الكهرباء فقط؛ وهي شأن مطلبي بحت، كما يقرأه بعضهم.. لكنهم سيتظاهرون من أجل الكرامة والعِرض ولن يقبلوا ببيع الأمر الوحيد الذين يملكونه قويا عظيم الشأن ويستحق التضحية.. إنهم يتظاهرون من أجل أعلى وأسمى قيمة، إنه الشرف الإنساني الذي لا يخضع لمساومة ولا يقبل البيع لا بالجملة ولا بالتقسيط.. إنهم سيتظاهرون من أجل قيمتهم الأغلى، أي من أجل وجودهم الإنساني الحر، إرادتهم الحرة، سيتظاهرون من أجل العقل يشتغل ولا يُعطَّل ولا يوضع على أرفف السلبية والخسران. وعندما يشتغل العقل ويطلع الجميع على التفسير الحقيقي لما يعانون منه، عندما يشتغل العقل ويكتشفون الزيف والمراءاة والدجل عندها يتحول التظاهر من مطلبي يخص حاجة مهما علا سهمها وجوديا كالكهرباء إلى سياسي إنساني شامل بعمقه المدافع عن وجودهم الإنساني الحر الكريم بأعمق مطالبه وأغناها. وذلكم هو مقياس الكهرباء الجديد الذي بات يؤشر وعيا جديدا وموقفا نوعيا جديدا.. إنه ردّ الاعتبار للذات الجمعي بعد انعتاق الوعي الجمعي من أساره لحظة أفلت من معاقبته بالرجات الكهربائية ليحظى بكهرباء لحياته لا لعقابه..
وعسى أطراف القضية يعون ما أشَّره مقياس الكهرباء الجديد في هذا الصيف اللاهب.