فيضانات تجرف مخلفات السياسة الاقتصادية القديمة وتفضح فسادها
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
عقود من الضيم السياسي، استبشر بانهيار نظامه القمعي شعبنا وقواه متطلعا لبديل نوعي منقذ. وكان خيار الشعب بأغلبيته المطلقة خيار البناء السلمي الديموقراطي. فوضع صوته في صناديق الانتخابات. لكن الوقائع برهنت على حاجة لثورة جدية في الثقافة السائدة وضرورة التصدي للخراب والفساد في الأنفس ما يستدعي مواجهة جدية من أجل إعادة الإعمار الروحي.
وفيما راهنت بعض القوى على الطقسيات التي نسبتها للدين، وأمعنت في مشاغلة المواطن بعيدا عن جهود البناء المدني من قيم روحية تقدس العمل وتُعلي من العقل ومنطقه فإن قوى العمل الحقيقية من العقل العلمي والثقافي الوطني جرى تهميشها ومحاصرة جهودها واستلابها حق القرار والفعل والتأثير!!
ونجم عن تلك السياسة الحكومية بخاصة لحكومتي السيد المالكي الأولى والثانية خلل خطير في واقعنا. وبخاصة في مجال الخدمات العامة وفي انهيار فعلي للبنى التحتية المنخورة. ولم نجد أي استراتيجيات في العمل الحكومي. وكل ما حكي عنه وحيك لم يكن سوى فرقعات إعلامية أغلبها يقع في الادعاء التضليلي؛ مثلما تعود مواطنونا على وعود مكرورة من وزراء المالكي ومنه، بتلبية الحاجة من الكهرباء وتحقيق فائض والتصدير في الصيف التالي؛ ويأتي الصيف ويرحل ولا طاقة ولا هم يحزنون!!!
المجاري هي بقايا مشروعات سبعينات القرن الماضي! وما عادت تقبل الاصلاح والترقيع ولهذا فاضت شوارع بغداد على حساب بيوتها وطافت لا بالأمطار حسب بل بمياه الصرف الصحي!!؟ واليوم وبسبب من أمطار موسمية وأخرى ناجمة عن التغيرات البيئية، انهمرت بنسب ليست ضخمة ولكنها كانت كافية في ظل المستويات المتدنية للبنى التحتية لأن تحدث كارثة. ولولا احتياطات بسيطة للمواطنين وجهات مدنية وبعض الجهود الوطنية الخيرة التي تنادت لتحولت الأمور إلى كارثة إنسانية فاجعة مهولة من جهة الضحايا البشرية بعد الخسائر المادية الكبيرة التي وقعت.
ولكن، هل يمكن قبول توجيه عناصر في الحكومة الاتحادية وبعض الحكومات المحلية الاتهام في هذه الكارثة إلى الأمطار وحصر ما وقع من كارثة بها؟ أم أن الأمور ما عادت تقبل تلك التبريرات الممجوجة التي تحاول بها الجهات المسؤولة في حكومة السيد المالكي إطلاقها، ليل نهار وعلى مدى عشر عجاف!؟
إن كل مطلع، بل المواطنين البسطاء يعرفون طبيعة المنطقة جغرافيا وظروفها الموسمية. ولقد شاد أهالي المنطقة احتياطاتهم البدائية تجاه المتغيرات البيئية الطبيعية. فيما طالبوا دائما بضرورة وضع العلاجات الجوهرية الحاسمة. وفي التاريخ العراقي الحديث تم بناء بعض الحلول وتوجيه مياه السيول المنحدرة من جبال ما وراء الحدود بطريقة تدرك طبيعة منحدرات المنطقة ووسائل إبعاد خطر تلك السيول مثلما حصل مع مشروع بتصميم مهندس معروف في خمسينات القرن المنصرم.
ومع ذلك، فإن مجريات الأمور بقيت بحاجة لحلول أبعد. وهو الأمر الذي لم يلمس أهالي المنطقة أي إجراء فعلي ينظر باستراتيجية مناسبة للموضوع. لكن ما جرى بات اليوم مكشوفا عاريا أمام الأنظار.
إن مشروعات محافظات المنطقة بقيت في إطار محدود ضيق من جهة ومحكومة بآليات الفساد وخططه التي تبحث في إقرار مشروعات ربما غير مدروسة بكفاية من جهة أخرى وكذلك لم ينظر إليها من منظار بعيد المدى يتفاعل ومعالجات شاملة لمجمل تفاصيل الخريطة البيئية ومتطلباتها ومستويات الهطول المتوقعة واحتمالات الحالات الاستثنائية الممكن حدوثها...
ولقد بينت الأمطار الأخيرة خطل سياسات حكومة السيد المالكي الاقتصادية والخدمية منها بوجه التحديد. واكتناف مشروعاتها جرائم الفساد بأعلى مستوياته إلى درجة وصلت بأن يجري تخريب المشروعات السابقة التي كانت تتلاءم وطبيعة جغرافيا المنطقة وتسرب الأمطار الموسمية بطريقة آمنة باتجاهات هندسية مناسبة وبالمقابل لم يتم وضع البدائل التي ادعت نية الاستفادة من مياه تلك الأمطار ولكن واقع الحال أكد أنها جاءت للإضرار بهم كما حصل فعليا في الأسبوع المنصرم.
أما الإجراءات الطارئة، التي عاشها المواطنون فلم ترق لمستوى كارثتهم ولم يعلن فعليا إجرائيا حال منطقة منكوبة على الرغم من الحال المعقد الذي عانوا منه. كما لم يجر فعليا أية معالجة لنتائج الكارثة وبقي الناس يصارعون آلامهم وفجائعهم بأنفسهم. ينبغي هنا أن نؤكد أن بعض الشخصيات المسؤولة المحلية قد ابدت جهدا استثنائيا ملائما لكن أمام الفاجعة الكارثية لا يمكن التوقف عند بعض تفاصيل مواقف إنسانية شجاعة وجريئة في لحظات الأزمة، مع أهميتها في المساعدة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
إن القضية الجوهرية فيما بات يعانيه مواطنونا بمختلف المحافظات يتمثل في مزيد من آثار انهيار البنى التحتية للخدمات حتى وصل الأمر إلى ما وصل من تعريضهم لأمراض بسبب من خلل في استراتيجيات السياسة الصحية والبيئية الصحية ومن ذلك انتشار السرطانات باشكالها! ومن ذلك طفح مياه الصرف الصحي في المدن الكبرى لأقل أمطار تتعرض لها تلك المدن وحتى من دون تلك الأمطار في كسور وانسدادات وانهيارات ناجمة عن التقادم وعن فشل فعلي في الخطط وفي الأداء ونسب المعالجة!!
وليس آخر هذه الأمور ما حدث من واقعة انصبت على رؤوس أبناء محافظات بخاصة منها واسط وميسان وقراهما وسكان تلك المناطق الفقيرة المبتلاة. فبأمطار غير كبيرة نسبيا فاضت الوديان وكسرت بعض السدود المتهاوية وانكشفت جرائم الفساد في المشروعات البديلة التي أوقعت الناس بمآزق كارثية... فأين سياسات حكومتي السيد المالكي البعيدة والمؤقتة!؟؟؟
وهل ستعوض تلك المبالغ النقدية الزهيدة أمام ثروات المواطنين وقيمة النفس البشرية العليا الكبيرة؟ أم أنها ستكون مجرد مسكنات زائلة عابرة وغير قادرة على معالجة أصل الكارثة، فيما تلبي وسائل ضخ القوة في آليات الفساد وقواه؟؟
إننا لا يمكن هنا إلا أن نطالب حقوقيا بدراسة الخسائر بعيدا عن قراءات رسمية غير دقيقة تحاول طمطمة الحقيقة، كعادتها. وأن تكون تلك الدراسات بإشراف ومشاركة من متخصصين من منظمات دولية مع منظمات حقوقية ومدنية محلية ومن ثمّ التوجه نحو تلبية مطالب عاجلة واستثنائية للمواطنين. مع تشكيل خلايا عمل آنية وبعيدة يكون من مسؤوليتها:
1. كشف الحقائق والأسباب وعرضها على أبناء المنطقة والشعب العراقي.
2. تحديد المسؤول أو المسؤولين وإحالته للمساءلة والمحاسبة.
3. قراءة دقيقة للحاجات العاجلة الاستثنائية وتلبيتها فورا على ألا يقف ألمر عند تقديم خيم لا تقي من مطر ولا ريح....
4. قراءة وسائل الحل الاستراتيجية وتنفيذها بمراحل تتلائم ومنع أية مفاجآت جديدة يمكنها إحداث أزمات وكوارث.
إنّ كل ذلك المسلسل من الأزمات والكوارث التي وقعت وتقع بحق أبناء الشعب بخاصة من الفقراء تؤكد أن سياسة سد الأفواه بمرتبات وأجور عمل ترقيعية وبتوزيع أموال الميزانيات، لا يمكنها إلا أن تكون من جهة فرصة أكبر للفساد ولنهب الثروة الوطنية وسبا خطيرا لإبقاء البنى التحتية بهذه الأوضاع المتردية ما يعرض الجميع لانكشافات كارثية لا تمثل اليوم سوى إنذارات موضعية محلية ستكون اللاحقة بتراكم الانهيارات شاملة بمأساويتها بما لا يمكن التصدي لنتائجه التي ستحيق بالبشر قبل غيرهم!!
فهل نقعد على التل ننتظر مآسينا التالية؟ أم نقف موقفا سليما وجذريا في معالجته؟
إن السكوت عن أصل الأزمة والكارثة يعني تعريض أنفسنا لمآس أبعد ويومها لات ساعة مندم. بل يومها لن يوجد من يندم لأنه سيكون في خبر كان ومن ضحايا الكارثة المتوقعة. ليس أصغرها انهيار سد كبير مثل سد الموصل وما يتوقع من ضحاياه بحجم لا يقل عن 500000 ألف مواطن بريء لا ذنب له سوى صمته على سياسة الخطل والفساد التي تمارسها حكومة السيد المالكي!!!
فما بالنا وبغداد بلا بنى تحتية؟ وما بالنا والبصرة وكل محافظات البلاد على النهرين لا تمتلك بنى تستوعب احتمالات بسيطة لمطر أو انسداد في أنبوب لصرف صحي!!؟
مابالنا لا نخرج بصوت واحد مثلما فعلنا بالتصويت لخيار التوجه السلمي الديموقراطي ودافعنا عنه؟ ألا تستحق الأجيال الجديدة أن نورثها بلادا آمنة تتجه لمشروعات البناء وإعادة الإعمار؟ ألا نستحق أن نكون شعبا موحدا يحيا في جنان الوطن؟؟؟
لماذا الصمت والسلبية تجاه المسؤول عن نكباتنا؟ أم أن بعضنا يؤمن بأن ىهذا قضاء وقدر مكتوب عليه أن يحياه وجعا وألما ويستسلم له فيما ثروته وحقوقه في جيوب الفاسدين؟؟؟ هل هذا أمر يقبله منطق؟
هل صحيح أن المشكلة في بيئتنا وما تجلبه من أمطار؟ أم القضية باتت عارية مفضوحة ولا تحتاج لكثير عناء في تشخيص السبب ومعالجته باستبدال المسؤول عنه؟؟؟
ينبغي أولا على صعيد المؤسسات أن تقوم بمهامها في متابعة تلك الكوارث وتحديد المسؤول ومحاسبته. ينبغي أن تعاد الثقة بين الحكومة، مؤسسة، وبين المواطن ومطالبه بتطهيرها وتغيير المسؤول فيها بالأنسب والأفضل. كما ينبغي أن تنهض الأحزاب والقوى والكتل الرسمية والمنظمات المدنية بدورها في متابعة القضية بالملموس وبتقديم رؤيتها كاملة بلا مواربة لجمهورها. أما الشعب فلا انتظار سوى أنه مطالب بعد التخلص من الأزمة ألا ينشغل بقشمريات اللهاث وراء لعبة سد الأفواه والتنافس على أكثر وأقل من الأموال فذلك حقه الطبيعي ولكن أن يتجه لحسم الأمر وينتفض سلميا لما تعرض له من كارثة.
ومن قبل ومن بعد، لا حل في مجمل كوارث العراقيين سوى باستبدال من عجز عن حل معضلة، ومن فشل في تلبية مطلب، ومن استنكف عن الاستجابة للحقوق، ومن صادر كل شيء إلا منابع الفساد والجريمة. وللشعب أن يأتي ببديله سلميا من أجل انطلاق البلاد وانعتاق العباد من كل ما جرى ويمكن أن يجري في حال كررنا ذات منابع الأزمة وأسباب الكارثة.. فهلا أخذنا الدرس؟؟؟