في بلدان ربيع الشعوب وثورات الانعتاق والحرية: ما السؤال الأساس للصراع بعد انتصار الثورة؟
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان
هذه بضعة أسطر قبل أن أكتب إجابتي المنتظرة في معالجة أشمل. وقبل أن نبحث في السؤال الأساس ما بعد انتصار الثورة، لنتذكر سؤال لماذا قامت الثورة؟ وطبعا ليس من اختلاف على أنها جاءت تلبية لمهمة الانعتاق من قيود الاستعباد الذي امتدت لعقود وأشكال الاستبداد ومصادرة الناس في حرياتهم وحقوقهم ووجودهم.
ومن هنا فإننا نرى أن السؤال التالي يقوم على البحث في آليات و\أو كيفيات الوصول إلى تلبية تلك الأهداف النبيلة.. بصيغة أخرى ما الخطوات الإجرائية لإطلاق مسيرة البناء وتلبية حقوق الناس وحرياتهم؟ وذلكم هو السؤال بصيغته الأولى وأولويته.
إن هذا السؤال مركب في طرحه، مركب معقد في إجابته. إذ ينبغي الانتباه على عقبات تواجه الثورة المنتصرة من قوى داخلية وأخرى خارجية ومن إمكان تحالفهما الذي يتبدى أحيانا بصيغ يشار إليها بالتآمر وبالخيانة وبالعمالة وتمثيل أجندات أجنبية على وفق فهم بعضهم. كما ينبغي الالتفات إلى عقبات ذاتية في قوى الثورة ودرجة وعيها بآليات عمل مؤسسات الدولة الديموقراطية وإمكانات القوى المدنية ومستوى تنظيمها وقدراتها على قيادة المرحلة التالية من التغيير فضلا عن العقبات الموضوعية العائدة لدرجة الخراب والدمار المتخلف من آثار مقاومة قوى الاستبداد ورفضها التسليم للقوى الشعبية سلميا، وعلى الإمكانات المادية وقوانين الانتقال من مرحلة التخلف مرورا بالتنمية ومفرداتها وليس أخيرا استكمال بناء قوانين الدولة المتطورة الناضجة القادرة على الانتماء بالمواطن لعصر الحداثة وملاحقة مدنية عصرنا وحضارته.
وددت بهذه المناسبة وبهذه الخطوط العريضة الإشارة إلى أن ضعف تنظيم القوى المتنورة وطبيعة برامجها التي ربما لم تلاحق سرعة المتغيرات، يدفع إلى الاستجابة أو السير وراء عواطف منتشرة باتساع جماهيري، بروح انتقامي ثأري من عناصر وقوى كانت محكومة بأنشطة النظام القديم وربما بل بالتأكيد بعضها جزء فعلي من ذاك النظام...
وبدل تقديم البديل الموضوعي والمعالجات الناضجة، وبدل الإتيان بالمعاني القائمة على سلطة القانون ومنطق القضاء العادل ومحاكمة الجريمة والمجرم بآليات سليمة، وبدل إثبات صواب التغيير ومنطقه الجديد نوعيا، وبدل الانشغال بالبناء يجري مشاغلة كبيرة بقضايا مطاردة اسم أو آخر والبحث في قوائم أسماء ومطاردتها واختلاق صراع لا يشكل العنصر الرئيس الأساس لمرحلة راهنة من عمر التغيير.
إن الصائب هنا وما له الأولوية والأساس يكمن في سرعة رسم القوانين وبناء مؤسسات الدولة المدنية الجديدة وفي الاهتمام بالتعليم وبالدورات التدريبية العجلى المكثفة لتخريج العناصر الكفيلة بإدارة تحترم القانون وتلبي حقوق الإنسان وانعتاقه من تحكم مشخصن يستبدل مستبد بمستبدين جدد!!
غير أننا بدل كل هذا المنتظر، نجد فيمن أمسك بالسلطة من بعض قوى الثورة ومن تسلل إليهم يحصر الصراع والسؤال الجوهري بحدود مطاردة عناصر الماضي..!؟ مع أن المنطق يقول: إن صهر أغلب هؤلاء في جسم الدولة أمر يوجبه المنطق فليس للدولة البديلة المنتظرة أن تقوم على مصادرة حقوق أو على استبداد أو على روح ثأري أو انتقامي بل إن الثأر والانتقام محرم منذ 2000 عام وأكثر مذ تعاليم الديانات العتيقة والإبراهيمية وآخرها الإسلام، فلماذا نعود بمستويات معالجتنا للأمور نحو تلك المشاغلة لولا تخلف أو جهل أو وقوع بأحابيل قوى تريد لنا الانشغال بهذا الصراع الثانوي على حساب أن ننشغل بعمليات البناء والتقدم في بلداننا.
لقد أفضت التجربة العراقية على سبيل المثال بموضوع قانون اجتثاث البعث إلى ممارسات انحصرت باجتثاث (بعثيين).. الأمر الذي أفضى هو الآخر للعبة انتقائية تقوم على فساد الممارسة بالإبقاء على الفاسدين المجرمين من تلك العناصر والإيقاع بمن ليس له بالجريمة وبفكر البعث وآلياته لا ناقة ولا جمل في كثير من الحالات!؟
وانتقل هذا باتجاه قانون المساءلة والعدالة الذي لم يصحح بواقع إجراءاته كثيرا مما جرى، في مرحلة سبقته، مع ما كان ينبغي أن يزيل آليات حكم البعث التي قامت على تفريغ معنى مؤسسات الدولة من تلبية مصالح الناس إلى تلبية منافع الفاسدين وهو ما استدار والتف ليعود من شبابيك مفتوحة بسبب تلك المشاغلة والأولوية الخطأ!
وكانت النتيجة تراكمات أدت إلى تعطيل بناء مؤسسات الدولة وتعطيل سن القوانين والانشغال بصراعات هامشية أطاحت بأوضاع الناس وجاءت على حساب مصالحهم ولحساب انهيار شامل في الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
ولربما برز مثال قانون العزل السياسي في ليبيا نظيرا لما جرى في العراق الأمر الذي سيكرر دوامة الفشل وتعطيل السير بمهام سن القوانين والتشريعات والتوجه لبناء مؤسسات الدولة خدمة لعجلة التنمية والبناء والتقدم وإشاعة السلام.
والمحاذير هنا بليبيا ستكون أكثر دموية وجهامة في نتائجها إذا ما تمت على الطريقة العراقية ما يعني الحاجة لجرأة وشجاعة في التحدي لما يسود من ثقافة لا ترقى لمستوى وعي السؤال الأساس والمنتظر وتجنب المشاغلة بصراعات ثانوية قد تكون مستحقة ولكن الأولويات الواجبة تتطلب صبرا بمجابهة الأمور ومرورا باتجاه الواجب من الأسبقيات.
إن بناء مؤسسات الدولة الجديدة وتمكين القضاء المستقل مع سلطة تنفيذية قادرة على دعمه وتنفيذ قراراته سيحسم الأمور (المتبقية) مما ليست الآن من الأولويات العاجلة سيحسمها في حين لاحق أي عندما تكتمل الإجراءات البنيوية لمؤسسات الدولة... وليس سليما تضييع الوقت في سؤال البيضة والدجاجة؛ بل السليم حزم أمرنا وتقديم خيارات الشعب لتستكمل مراحل الثورة مدنيا حيث انتهت مرحلة السلاح وشرعيته مع كسر عنف الدولة وإرهاب النظام القديم؛ وبات لزاما التمسك بشرعية القانون الدستوري ومؤسساته والتوجه لمزيد من التطبيع فيه.
إننا لا نخوِّن هنا الثوار وأية فئة من الشعب بأي بلد ولكننا نبحث معهم بحوار هادئ موضوعي في أفضل سبل الحل والانتقال لسلامة خطوات البناء.. وها هي تجاريب العراق على رأس قائمة الأوضاع المتدهورة ومثلها تجاريب عملت على صبغ مؤسسات الدولة باسم طرف أو مكون واستبعاد مكونات المجتمع والدولة الأساس الأخرى، بما سيطيح مجددا بآمال من ثار من جماهير تلك الشعوب على خلفية الشروع بنظام الحكم الأحادي واستغلال تضليلي لبعبع عناصر النظام القديم الذي يسطو على كل الأولويات! ففي العراق بعبع البعثفاشية وفي مصر الفلول وفي تونس أتباع بن علي وفي اليمن أتباع صالح ولا قضية ولا شغل ولا مشغلة سوى التضليل! وكل شغل السلطة الجديدة الشاغل هو إشاعة طقوس طائفية أو حزبوية تحصر الأمور بيد طرف يستبد برأيه ويشاغل الناس بأولويات لا علاقة لها بما ثارت من أجله وبما تتطلع لتحقيقه.
طبعا المشهد ليس سوداويا بمطلقه.. ولا مثيرا للاحباط بمجمله ففيه عناصر قوة مازالت مهمة تقوم على استمرار الثورة في شبيبة تلك البلدان الواعية لمهامها التنويرية وفي توظيف إرادتها صلبة ضد تلك المشاغلات..
من هنا تجد الحراك السلمي في المظاهرات ذات الطابع الوطني لا الطائفي وذات الطابع التقدمي التنويري لا الماضوي الرجعي الظلامي أي تلك التي تجري ضد الجهل والتخلف وآليات دجلهما وإسقاطهما القدسية الدينية على أنشطتهما التخريبية..
وعليه فلابد من التفكر والتدبر في تحديد سؤال الثورة في مرحلتها الجديدة وعقد صلات مباشرة بين الشعوب الثائرة وقواها الوطنية التنويرية الديموقراطية وعقد مؤتمرات إجرائية لتلبية مهام المرحلة وفضح وسائل التخفي والتملص من افتضاج جرائم من تسلل إلى السلطة في ظل مثل هذا الخلل في رسم الأولويات والمعالجات الأنجع.
فهلا توقفنا مليا أمام هذه الصور التراجيدية التي نعيشها وتركنا قرار الانقياد الأعمى وراء تقسيمات مشوهة وطقسيات مزيفة يريدون عبرها تعطيل طاقات الفعل لدى أوسع قطاعات شعوبنا؟ ومنهم الثوار أنفسهم!!!
ثقتي أن الشعوب تمتلك وعيها وتجربتها وحدسها النابه الذي ستنتفض به ضد هذه اللعبة وتثور كما ثارت على نظم الاستبداد لمصلحة بناء دولة مدنية تخدم الشعوب ومصالحها بدل تمزيقها وتشظيها وإغراقها بالأمراض لاستغلالها مجددا بنظم تنحرف عن اتجاه ثورات تلك الشعوب وأهدافها في الديموقراطية وما تفرضه من وعي وآليات نحن بحاجة لتعلمها والتدرب تدريجا على ممارستها.
وللمعالجة بقية بخاصة بشأن موضوع إشكالية الانتساب لقوى وحركات بطريقة قبلية بطرياركية تقوم على ربط عاطفي لا فكاك منه حتى والشخص منا يكتشف خطأ هذا الانتماء. ومن ثم كيف نعالج التغيير والعودة عن الخطأ من أجل مواصلة مشوار الثورة سليما صائبا صحيا صحيحا.