لا خطوط حمراء في العراق!!!؟
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان
في كل بلاد الأرض توضع الخطوط الحمراء، لتكون نقطة التراجع عن أية ممارسة أو فعل من جميع الأطراف التي تتعرض لتلك الخطوط بالتجاوز. وطبعا تفرض تلك الخطوط عدا الالتزامات الجمعية إجراءات على السلطة كي تتخذها تجاه من يُحتمل أنْ يخرق تلك الخطوط؛ وتكون تلك الإجراءات نافذة بكل الوسائل المتاحة.
إنّ فكرة الخطوط الحمراء، تمثل السقف الذي يحدد ميادين التضاغط والاختلاف وفضاء السجالات الممكنة؛ وأطر الحركة فيها. ونحن هنا لا نتحدث عن الفروض القسرية للرقيب السلطوي سواء في حكومة دكتاتورية متسلطة أم في وجود جمعي متخلف أو في عائلة تحيا بقسوة سطوة أبوية لا ترعى لدين ولا لقيم الأنسنة والتحضر حرمة! إنما نحن نريد معالجة الخطوط الحمراء المنطلقة من دواعي الحماية الذاتية لإنسان وحقوقه ولمجتمع ودولته ووجودها.
إذ يوجد في البدء قانون أساس بتفاصيله التي تمنح الحقوق والواجبات وتحاسب على الخروقات بحدود حالات الخطأ الإنساني الطبيعي.. لكن لدواعي أخرى تتعلق برصد ما يتهدد بشكل شامل أو كلي بعمقه الأوسع والأبعد أشار العقد الاجتماعي أو الدستور لخطوط حمراء افتراضية في التسمية ملموسة في التشخيص يجب أن ينتهي عندها أيّ فعل يصل إليها ويجب ألا يتجاوزها بأيّ حال من الأحوال.
أسوق هذه المقدمة تذكرة، لتنقلنا إلى قراءة مجريات الأمور في العراق الجديد منذ عشر عجاف مأساوية كارثية باتت تتهدد الوجود الوطني، فتأخذ معها ما تبقى من صورة شكلية لهذا الوجود في ظل التمزق الذي تفرضه سياسة (الطائفية) وعبورها الخطوط الحمراء بلا محاسبة للمسؤول عنها.
إنّ وجود حالات اختراق في مؤسسات الدولة هنا أو هناك أو فساد أو (تعدي) على حق أو انتقاص من شأن طرف وعدم تجاوب مع مطالبه يبقى كله في نطاق المحاسبة القانونية المحددة بحسب القطاع والتخصص كما سبق أن ضمَّنا ذلك فيما قدَّمنا؛ واشترطنا أن ينحصر ذلك بحدود وبحسب حالات معينة في فضاءات بعينها؛ وهي بجميع الأحوال مما لا تتطلب أكثر من جهود إصلاحية ومعالجة موضعية.. وهذا لا يلغي حقيقة، أنَّ لكل فضاء خطوطه الحمراء المخصوصة والمحدودة به.
لكن، كيف يمكن قراءة حال من نمط ضياع جلّ الثروة الوطنية وجوهرها من موارد الموازنات التي يُعلن عن وجودها في مدخلات الميزانية السنوية فيما لا يرى المواطن أيَّ مخرجات سوى فتات ينتزعه بمقابل ما يدفعه من تعبه وشقائه وهو أبسط ثمن! لأنه فعليا، يدفع الثمن الحقيقي بدم من أفراد عائلته الموضوعين على قائمة ضحايا الموت المجاني اليومي لأوضاع لا خطوط حمراء تلجمها!!
هنا يجري تمريغ كرامة بني البشر بالوحل المعجون بالدم لا بالطين والماء.. لأن ما يجري هو مصادرة وجودهم وحقهم في الحياة!؟ وطبعا يسبقه استلابهم إرادة الرفض وقرار تغيير ما يعانون منه!!
إنَّ قضية نهب المال العام لم تعد الخط الأحمر وسط أجواء الفساد الشامل! وقضية الفكر الطائفي وفلسفته وآليات اشتغاله ليست الخط الأحمر في وسط جهل وتخلف مطبق يمارس تطبيق طقوس الطائفية ويستجيب لغاياتها بمسيرة قطيع مدجّن! ولكن هل وصل الأمر مرحلة إلغاء الخط الأحمر الذي يقف عند تخوم حيوات الناس، فدفعهم للسير بمارشات تراجيدية نحو حتوفهم بلا حتى صرخة احتجاج!!؟
طبعا هذا مستحيل؛ فصرخات الاحتجاج موجودة وهي عالية وإن شوَّشوا عليها بأصوات مجنزرات طغيان تحالف (الطائفية الفساد الإرهاب) واستبداد الانفراد بالقرار وبسلطته الشمولية. ولكن تلك الصرخات بحاجة للتحول إلى فعل يحسم بحزم وصرامة، الموقفَ ممن يتجاوز على الخطوط الحمراء للوجود العراقي القائم.
وربما تفشل القوى المنظمة من حسم الأمر أمام هول السحق الهمجي للآلة الجهنمية اليوم ولكن في النهاية ستولد في مرحلة أخرى، قوى تستطيع الدفاع عن خطوطها الحمراء لتعيد مجابهة الطغيان وقوته التدميرية.
وحتى لا نتحدث نظريا، نتساءل عن المسؤول الرئيس في ما يجري في العراق الاتحادي الجديد؟ ألم يكلف الشعب جهة بعينها لإدارة حكومة إعادة الإعمار وإنهاء قوى الخراب وإشاعة أجواء السلم الأهلي لإطلاق مسيرة العمل والبناء؟
طيب، أين تلك الحكومة من مسؤولياتها؟
في كل بلدان العالم بعد الهزات الكبرى والبراكين والزلازل التي تحدث، تتشكل حكومة وحدة وطنية تتصدى للمسؤولية في ظروف الكوارث والنكبات.. حتى إذا أنهت تلك الحكومة مهامها عادت الأمور إلى سياقات العمل الديموقراطي المعروفة من حكومات أغلبية ومن تداول للسلطة وما إليه من آليات معروفة في تجاريب الشعوب المتحضرة والدولة المدنية الحديثة.
أما في العراق، فإن حكومة الوحدة الوطنية أخذت تسمية حكومة الشراكة؛ ومع ذلك لم يُسمح لأية قوة وطنية أو مكون أن يمارس دور الشريك. فتم من جهة فرض سياقات تقسيم طائفية وبدل أن تتمثل قوى الدولة المدنية والوجود المجتمعي من عمال وفلاحين وطبقة متوسطة وشبيبة ونساء ومن عقل وطني، جرى فرض محاصصة تشرعن الوجود الطائفي وتمنحه حصانة (رسمية) واعتماد يفرض شرعيته فوق شرعية الصوت الشعبي...!؟
وبشكل مباشر فإنّ رأس الحكومة هو المسؤول بعد أن استكمل سحب الصلاحيات من أغلب (الشركاء) في تلك الحكومة، فاعتدى على آخر الخطوط الحمراء في معنى الشراكة ومقاصدها بكل معاجم الشعوب وتجاريبها وفلسفات الحكم فيها. وطبعا فإنّ حصر تلك الصلاحيات بين يدي شخصية تنفرد بكل شيء هو مخالفة دستورية تعني تجاوز كل الخطوط الحمراء بين الاستبداد والديموقراطية، وهو الأمر الذي يجب ألا يقبل أي مبرر لأي طرف في دعم هذا الاتجاه ومساندة أفعاله التي جرَّت وتجرّ البلاد نحو هاوية لا يعلم أحد عمق عواقبها.
إنّ قدرات التملص والتهرب من مجابهة المسؤولية والإقرار بنتائج الأداء السلبي بل الكارثي تتبدى عبر عديد من الممارسات ليس أقلها التخفي وراء مفاوضات عبثية وخلف اتفاقات (الأطر العامة) التي لا تلزم (المسؤول الأول) بموقف بعينه ولا تلجم ممارساته التالية التي تمثل تخطيا لآخر ما أفرزته سياساته من قضم للآخر ومطالبه ومن فرض قسري لسطوته وتفرده ومن ثمّ لنظام استبداد جديد نصل في لحظة غير بعيدة إلى مجابهة معه.. ويوم تصير بغداد بقبضة الحاكم بأمره، لات ساعة مندم.
ودعونا نسجل بعض أبرز الوقائع ومعانيها تجاه الخطوط الحمراء. فمسؤول بمستوى وزير لا يخضع لسلطة البرلمان، أعلى ممثل دستوري للشعب، في وقت تهمة الاستدعاء تكمن في استجوابه بشأن فشل لا يقل عن نسبة 90% في أداء وزارته؛ أي فشل نوعي أشبه بالكامل الشامل! فكيف يمكن تمرير هذا وقد تجاوز الخط الأحمر؟
ووزير و\أو محافظ و\أو مدير عام أو مسؤول كبير يعقد اتفاقات بشأن مشروعات كبرى بمئات ملايين الدولارات ومدخلات مالية تذهب سدى باتجاه جيوب مقاولين ومافيا نهب الأموال العامة ولا وجود لخط أحمر يتابع الشخص في سرقته العلنية التي تجري (عيني عينك) في وضح النهار وتحت سلطة الحكومة (الاتحادية) ورئيسها وقضائها التابع له مباشرة، ومن ثمّ لا محاسبة ولا عقاب!! فأين الخط الأحمر في نهب المال العام؟
وإهدار مستمر متصل للغاز والفوسفات ولمعادن أخرى ليس آخرها الذهب الأسود وتسليمه في أيدي شركات أجنبية واستثمارات لا أداء فعلي لها على الأرض مقابل ما تأخذ وأنابيب بترول البصرة بلا مقاييس وبلا سيطرة وضبط وربط ولا خطط تحمي الثروة الوطنية.. فأين الخط الأحمر الذي يحميها؟
السلطات واستقلاليتها تهاوت أمام قرارات متعاقبة ألجمت كل المؤسسات المستقلة وألحقتها برئيس الوزراء شخصيا بدل (الحكومة) وبدل الأصل، أي البرلمان.. وبتنا أمام تبعية قرار المفوضيات التي ما عادت مستقلة إلا بالاسم تطبيلا وتضليلا. ومؤسسات تنفذ توجيهات بطريقة كارثية كالقضاء.. وأخرى ستسهل حالة إعدام استقلاليتها لنهب آخر ما في الاحتياطي المالي العراقي يوم نصحو على نهب البنك المركزي وليس من يحميه بعد أن تم الصمت على تجييره وإخضاعه لسلطة رئيس وزراء متفرد بكل شيء.. فأين الخط الأحمر الخاص باستقلالية تلك المؤسسات والخط الأحمر لفصل السلطات؟
اتفاقات بالعشرات منها الشفوية ومنها المحررة الموثقة؛ وجميعها اليوم في خبر كان [رماها السيد القائد العام في سلة مهملات مكتبه] وما عاد يذكرها إلا من باب تمرير جديد مفردات سياسته. طيب فمتى نرى في هذا الشريك ما يجعله مؤتمنا على الاتفاقات واحترامها ولو شكليا؟ وأين الخط الأحمر في موضوع احترام الاتفاقات؟؟
ضرب تظاهرات 25 شباط 2011 لأنها طالبت بمحاسبة قانونية دستورية وباستجابة لمطالب الناس. وأدمى بجريمة ضد الإنسانية اعتصاما سلميا في الحويجة.. ويكاد يوقع جريمة أخرى أوسع في محافظة جديدة وربما يسبق فعله نشر هذا المقال. وصال صولته في أهالي البصرة وفي غيرها ومازال يصنّف الآخرين على وفق رؤيته الخاصة التي باتت قانونا يحكم في ضوئه بتجريم الآخرين جميعا. وإذا كان اليوم يحكم على حركات وقوى سياسية فإنه سيكون في المرة التالية بمجابهة مباشرة مع المكونات القومية والدينية من أبناء الشعب ليمارس السحق المباشر .. فأين الخطوط الحمراء بلون الدماء العراقية الزكية من كل أطياف شعبنا الضحية لسياسة أودت بالأوضاع لانفلات أمني بلا خطوط رمادية ولا صفراء ولا بأي لون بينها.. فما بالنا بالحمراء!؟
إنّ بلادا بلا خطوط حمراء تحمي الدم كونه آخر حق للإنسان لا يمكن أن يستمر بلا تهديد الانهيار المنذر بخطر نهاية لا يكفيها توصيف المأساة أو الكارثة؛ فالأجواء مكفهرة والخطب مدلهم، الأمر الذي يحمّل القوى الوطنية المخلصة اليوم مهمة المبادرة لبديل يحسم الأوضاع.
لقد بقي على انتخابات البرلمان أشهر معدودة، ويتطلب لها ألا تكون مفصلة على مقاس إعادة الاعتبار لمن ألغى كل الخطوط الحمراء. ومن هنا فقد بات المشهد يتطلب تخليص منصب الوزير الأول من براثن الاستبداد ووضعه بيد حكومة تكنوقراط بشراكة وطنية سليمة تعد الأجواء لانتخابات حرة نزيهة تعيد التوازن للمسيرة، بدءا من كبريات الأمور وعظيمها باستعادة الخطوط الحمراء لمواضعها التي تم الاعتداء عليها وتخريبها. وبهذا نتحول باتجاه الدخول لمحاور التغيير والاتجاه بسفينة الوطن إلى بر الأمان وجهود البناء.
فهل وصلت الرسالة؟؟؟؟