اليوم العالمي للعمال، قدسية العمل ومنزلة العمال
رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان
كان أصل هذا اليوم قد اختير تخليدا لشهداء الشغيلة من أجل حقوقهم! وبات يُحتفل به عيدا في ظروف مختلفة عندما تحققت انتصارات في بعض البلدان وعند بعض الشعوب. اليوم يتجه العالم من جهة لتبادل التهاني بهذا اليوم إيمانا بانتصار حقوق الشغيلة وتفاؤلا بغد الانتصار، وصنعا لعيد يستنهض الهمم بوساطة طاقات المسرة والفرح الغامر من وراء الاحتفال الذي يذكّر بأن الشغيلة ومجموع الشعوب قد حققت كثيرا من الانتصارات بمسيرتها الحديثة. ومن جهة أخرى فإن هذا اليوم يظل أيضا مناسبة لإحياء ذكرى شهداء الصراع الأعمق في عصرنا ونافذة لإطلالة حية على أن الجهود في مسيرة النضال ضد عسف القيود ونير الاستعباد والاستبداد ومظالم الاستغلال الأبشع لم تنتهِ بعد.
من هنا ينبغي تعميق الوعي، بهذه المناسبة الزكية، بأن الاستغلال وقيوده مصدره واحد وقوانينه واحدة ولعبته تقوم على تمزيق وحدة الشغيلة أمميا ووطنيا ومنع تنظيماتها وحظرها في بلدان وتشويهها في بلدان أخرى؛ بما يجعلها عاجزة عن التصدي لطغيان استلابها حقوقها وحرياتها. وينبغي تعميق وعي الناس بقدسية العمل الذي أقرته الشرائع الدينية والقوانين المدنية؛ فـ بلا عمل تنتفي إنسانية وجودنا وقيم حيواتنا.. بلا عمل نرسف عبيد الجهل والتخلف اللذين ينجمان عن التبطل والتبلد الذي يصادر العقول، ويجعلنا مجرد اندفاعات انفعالية تخضع لما يوجهها من قيم سلبية مرضية ولمن يستغلها بلا إدراك لمصدر الاستغلال وباستمرار إحالته باستسلام وخنوع لقدر غير مكتوب سوى في أوهام العاطلين مسلوبي العقل والإرادة.
أما القدسي وإشارته للقضاء والقدر فـ براء من هذه الفلسفة وما تفرضه من استلاب ومصادرة وما تمرره من استسلام، إذ نجد في الآي الكريم وفي الحديث الشريف: "وقل اعملوا..." و"عامل يعمل خير من ألف عابد" وغيرهما كثير في قدسية العمل ومن يعمل. وفي القانون وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنجد حق العمل ثابتا بأولوية عليا. وفي التاريخ البشري وحضاراته الأولى كانت احتفالات الفرح بالعمل وبثماره أيام الحصاد وأيام اكتمال ما يشيدون من بناء ووجود، كانت احتفالات (مقدسة) ومنطلقها دنيوي وديني على حد سواء.. ومن العمل كان تراكم المعرفة وغنى العقول وحكمتها ونموها وتقدمها.
اليوم، نحن نشاهد المآسي تحيق بالشعوب. والعسف والدكتاتوريات تتنوع في أساليب استغلالها. والأسباب وسرّها يكمن في تراجع وعي الناس لجوهر القضية، أي قضية قدسية العمل ومكانة أو منزلة العامل، بالإشارة إلى كل من يمارس عملا يدويا أو فكريا.. السر يكمن في انتفاء أو تراجع وعي قضية تحرير الناس من استعباد التبطل وما ينتجه من تبلد وتراجع في قيم العيش الحر الكريم، وما ينتجه من انحرافات وتشوه وسلبية وطبعا من استسلام لقدرية ما أنزل الله بها من سلطان! بل هي دينا كفر بنعم الخالق وقعود عن إدراكها والاستفادة منها على خير وجه وهي حياتيا إنسانيا مدنيا خنوع لقوة مستغلة، إن هي إلا قوة مرضية بقيمها وقوانينها..
فيما الصواب يكمن في أن نجدّ ونجتهد لأجل الحصول على حقنا في العمل ومن ثمّ أن نحقق لأنفسنا العيش الحر الكريم؛ وأن نتذكر أن آباءنا وأجدادنا عملوا وشادوا مجد حضارات بشرية وصنعوا حرياتهم بنضال عنيد وبتضحيات كبيرة وصلت حد تقديم قرابين الشهداء من أجل تلك الحرية، ومن دون تلك النضالات، ما انتصرت إرادة، ولا جرى تلبية حقوق في بلد؛ بينما نجد مع التبطل والتبلد وتراجع الوعي باتت تتراجع الحقوق وتُستلب الحريات ونعود لجولة جديدة من الصراع على الصُعُد الأممية والوطنية. وعدنا نُنهب ليل نهار ونحن بلا حول ولا قوة لوقف سيل أنهار دمائنا بسبب جرائم الاستعباد والاستبداد!!
إن المطلوب اليوم يكمن في شحذ الوعي والتعرف لمعاني يوم العمال بوجهيه: عيدا للفرح وذكرى للحدث المأساوي. وأن نتعرف إلى واجباتنا تجاه أنفسنا وصياغة طبيعة حيواتنا والعمل المثابر من أجل تلبية حقوقنا وفرض استجابة واجبة ملزمة لحرياتنا؛ عبر إدراك ملموس لمعنى تنظيم أنفسنا في نقابات وجمعيات وروابط واتحادات وحركات مهنية وسياسية تدافع عن مصالحنا وبالتأكيد عبر وحدتنا، وحدة تلك الاتحادات والحركات وسلامة وجودها ولوائحها وتركيبتها وأسس عملها.
إن ألاعيب كثر تحاول العبث بمصائرنا ومصائر شغيلتنا؛ فمنها على سبيل المثال لا الحصر: إلغاء تسمية الشغيلة أو العمال وإطلاق تسمية موظفين وفي ضوئه إلغاء حق تشكيل نقابات للعمال وشبيه هذا الأمر كثير من الصيغ النظيرة ولكنها في النهاية تصب في لعبة مصادرة حقوق العمال ومنع تشكيلهم نقاباتهم المدافعة عن حقوقهم! وإذا تشكلت تلك النقابات في بلد، فإن محاولات تشويه تنظيماتها وتركيبها ومَن يتحكم بها تتعالى مفضوحة بشراء ذمم زعامات خانت قضية الحقوق والحريات على طريقة استفحال علامات بيروقراطية التنظيم وكثير من الأمراض الأخرى التي تجبّ وتلجم أية فرص للنضالات الحقة المكينة المنتظرة!!
بهذا الإيجاز وبهذه الإيماضة، يمكننا أن نتحدث عن العمال وعيدهم، وعن ماهية يومهم؛ وعن سلامة الاحتفال ليس لتمرير حال من التنفيس كما يجري التلاعب به، عندما يخرج بضع مسؤولين لإلقاء كلمة تدغدغ مشاعر من يجري إشاعة أمية وجهل بينهم بغاية إيقائهم أسرى من يستغلهم وفي الحقيقة فإن العمال ليسوا بحاجة للقاء مسؤول يأتي إليهم ساخرا منهم بكلماته المزوقة التي تتلاعب عواطف ومشاعر فيما هو يحتل كرسي القرار والسلطة التي تجري في ظلالها كل مآسيهم.. وغذا لم يكن من يحتل كرسي السلطة مسؤولا عن خيباتهم وآلامهم واوجاعهم فمن هو المسؤول؟ أهو الوهم وأشباحه؟
إن القضية لا تنحصر بلعبة اللقاءات الرسمية الاحتفالية لبضع دقائق يلقون في الشغيلة كلمات لأضغاث أحلام وبيع أوهام بل أنكى من ذلك اليوم يكمن في إشاعة استسلام لقدرية ولأفكار ظلامية يسقطون عليها قدسية دينية والأديان جميعا منها براء.. إنهم يشيعون مشاغلة البسطاء بطقوس تتملكهم لتشلّ إراداتهم وتحرفهم عن التفكير بأسباب ما يعانون منه وبمن ينهبهم بوضح النهار!
إن الإنسان ليس بإنسان ولا يمتلك قيم أنسنة وجوده ما لم يعمل وما لم يناضل من أجل لقمة عيشه نظيفة ينتزعها بكرامة وبلا مهانة وبلا من يدعي التصدق بها عليه. إنها لقمة أنتجها وينتجها هو بعمله وهي من ثرواته التي يجب أن تعود إليه لا إلى خزائن من ينهبه وينهب بلاده.
هذا هو عيد العمال الذي تنزل اليوم طلائعهم في تظاهرات حاشدة بالملايين لتؤكد أنها الأكثر وعيا بمصالحها وأنها صاحبة حق بالعمل مقدسا وبملكية ما تنتجه بجهودها وبواجب توزيع الثروة بعدالة وتلبية حقوقها في المساواة وفي رفع كل أشكال الضيم والظلم والعسف.. والشغيلة لا تنتظر أن يتصدق عليها مستغل مريض بحقوقها بل تأخذها بتمسكها بحق العمل من جهة وبوحدة نضالاتها وبتنظيمها الأكثر سلامة ونضجا..
وكي لا نكون في مجال دغدغة المشاعر والتلاعب بعقول الشغيلة نتساءل: هل لاحتفاليات الشغيلة وعقد مهرجانات التطبيل والتزمير لزعيم أو رئيس أو رئيس حكومة أو لمسؤول في دولة مصلحة تدخل في تبين جوهر هذا اليوم وتأكيد مطالبهم فيه؟ أم أن تلك الاحتفاليات يجب أن تجدد وسائل عقدها ومحددات شعاراتها من أجل أن تدخل في خانة مطالب العمال وجموع الشغيلة ومصالحهم؟؟؟؟
أمور كثيرة ينبغي أن تطرح اليوم ولكنني أضعها بمحاور واسئلة موجزة ومن ذلك ما يجري من جدل جدي مسؤول بشأن متغيرات تركيبة العمال بله تركيبة المجتمعات نتيجة التطور العلمي التكنولوجي ومن يرى بسببه انتهاء وجود (طبقة عاملة) وجدلية حقوقها ونضالاتها!؟ وغير إحالتنا إياه إلى واقع الأمور نقول: بمقابل الإقرار بتلك المتغيرات ، ينبغي التذكير بمستويات التطور المختلفة وبتفاوتها في جغرافيا انتشارها زمكانيا وفي استمرار تدني ذاك التطور في بلداننا؛ إلا أن الحكمة تؤكد ضرورة الانتباه على أن تركيبة المجتمع تطرح دمجا بين فئات ومكونات طبقية جديدة يتأكد فيها وحدة شغيلة اليد مع شغيلة الفكر وربما ظهور بنى جديدة للشغيلة ولكن ذلك كله لا يلغي جوهر كينونتهم المستند للعمل وقدسيته ولكنه قد يغير في أشكال العمل ومن ثم يطرح مهاما نضالية مختلفة الصيغ. إن مستويات التطور المشار إليه لم تلغِ ولن تلغي رابط الإنسان بالعمل وما يجسده من توصيف ومن علاقات إنتاج مجتمعية وحال من النضال لخير الإنسان ومصالحه. ولكل موضع ما يطرحه ويعالجه تاركين للتفصيل بهذه الإشكالية وغيرها فرصتها القابلة بالتأكيد.
أما هذه الومضة فنرسل فيها وعبرها إلى الشغيلة، تحايا بهذه الذكرى الخالدة، وتمنيات تعزيز الوعي وإنضاجه وتقوية تنظيمات العمال والارتقاء بنضالاتها لأن العمال هم صانعو الحياة ومن يستحق إدارتها لتتحقق العدالة الاجتماعية والمساواة والانتصار للإنسان ووجوده.