كوردستان بين متطلبات بناء مؤسسات الدولة وآمالها المستقبلية؟
الانتخابات البرلمانية والرئاسية نموذجا للمعالجة
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
قطعت كوردستان شوطا مهما في مسيرة بناء مؤسساتها، في مجالات السلطات الثلاث ونظم الأداء السياسي العام. فهناك خطوات بنيوية مميزة، والأساس الأغنى في تلك المسيرة هو حال الاستقرار العام في محيط مرتبك غير مستقر، مازال يعاني ليس من الخروقات الأمنية حسب بل من شروخ جوهرية في قدرات مؤسساته على أداء المهام بسلامة ونضج. ولعل أبسط فحص لقراءة المجريات، هو ذلك الذي نتمثله عندما يقارن المرء بين بغداد وأربيل، ليكتشف الفارق الكبير ليس في النتائج، حيث الحال الأمنية السيئة ببغداد والمستقرة في أربيل، حسب بل في قدرات العمل المؤسسي، التي تصل إلى درجة التعطل عندما نرصد عددا كبيرا من تلك المؤسسات ببغداد تعمل اليوم بنظام الوكيل لا الأصيل، وبلا نظام أساس [قانون] يوجه أو يضبط الأداء وما يحتكم إليه المسؤول!؟
لقد استقرت أوضاع مؤسسات السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية بكوردستان عبر مسيرة أكثر من عقدين من الانعتاق من سطوة الدكتاتورية، وعقد من مسيرة الاتجاه نحو دمقرطة الحياة وإشاعة فرص التحديث واستكمال القوانين الضابطة للعمل وإجراءاته.
غير أنّ المواطن الكوردستاني والراصد السياسي، لا يمكنهما إلا أن يلاحظا بعض الثغرات والنواقص التي تطفو أحيانا، وهما لا يغفلانها ولكنها في النهاية ثغرات هامشية، ناجمة عن الحاجة لمسافة زمنية مناسبة من النمو ومن استكمال بناء الركائز الأكثر نضجا وكمالا.. هذا فضلا عن أنّ بعض السلبيات تحصل لأنها بالأساس تعود لفروض الحال الاستثنائية في المنطقة. وللحكيم المنصف أن ينظر بتأن إلى أنّ التقدم خطوة إلى أمام لا يمكن أن يكون بصيغة القفز في فراغ؛ لأن القفز في فراغ سيتسبب في السقوط الذي سيكون مدويا مؤذيا! وينبغي في ضوء ذلك، النظر في ما يحيط بالإقليم من محددات وضغوطات.
ولكي نعالج موضوعة التغييرات في النظم المطبقة بكوردسستان، وتنفيذ المواد الدستورية المخصوصة بها، يجب أن يكون الأمر بتطبيق تلك المواد بروحها لا بنصها شكلانيا. ولأجل تنفيذها الموفق المفي\، لا يمكن القبول بمعايير جامدة في فهم طريقة الأداء والتنفيذ، مثل ربط ممارسة قاعدة دستورية في أمر أو آخر مع حال حصول حرب أو كوارث كتلك الطبيعية مثل الزلازل وما أشبه بها فقط. فهناك أمور أكثر تفصيلا وربما هي حالات أدنى بأحجامها وبمستويات فعلها، لكنها تبقى قوة نخر في البناء وعرقلة المسيرة بما يهدد بأوخم العواقب إذا ما أهملتها العين البصيرة الخبيرة. أما بشأن محددات اتخاذ القرارات السياسية الصعبة فلا تظل محكومة بطريقة ميكانيكية جامدة أو تسطيحية للأمور ولا يُقبل هنا، للتمسك بقاعدة قانونية أو بمادة ونصها، أي شكل للتبرير المستند لتكلس القراءات! والقوانين قبل أن تكون نصوصا جامدة [عند بعض الأطراف] هي روح يحمل كثيرا من التعبيرات الحركية التي تتماشى وطبيعة الأوضاع.
إنّ المسيرة الدستورية كوردستانيا مازالت بحاجة لحكمة التعاطي مع حال الارتباط الفديرالي عراقيا من جهة ومع الظروف المحيطة بكوردستان العراق؛ حيث يجد المتابع نافذ البصيرة أن المجريات المحيطة بالإقليم الفديرالي، تكتنفها الحروب الدموية وانعدام الاستقرار والتهديد المتصل المستمر بالاجتياحات وباحتمالات انتقال حال الاضطراب أو نقله عنوة أو بشكل غير متوقع.
فكوردستان الشمالية على الرغم من شروع بالحوار معها، فإنها منقولة بميادين احترابها إلى داخل كوردستان العراق حيث نجد هناك قوات من الطرف الرسمي التركي وأخرى من قوات الثورة المدافعة عن حقوق الكورد. ولطالما جلبت تداعيات الاقتتال كثيرا من الأزمات والضحايا في وقائعها.. وفي كوردستان الغربية هناك غليان والوضع بين اضطراب وآخر، يمثل قنبلة موقوتة ومعدَّة للانفجار بأي وقت قد تتداعى فيه الأوضاع السورية لمستجدات باتت قاب قوسين أو أدنى من الظهور؛ وعشرات آلاف اللاجئات واللاجئين باتوا اليوم هنا في الإقليم الفديرالي.. أما على جانب كوردستان الشرقية فإن إيران لم تدخر عدوانيتها يوما في القصف العشوائي للقرى والقصبات والمدن وفي دفع أشكال المخابرات والعناصر التي قد تمثل خلايا نائمة فيما يجري حياكة بعض خبايا أو إعدادها لمرحلة بعيدة عبر التغييرات الديموغرافية التي يتطلع من يقف وراءها لتحريكها في موعد غير بعيد بصيغة حصان طروادة ضد الكورد تحديدا على الرغم من أنها اليوم تطفو وكأنها ضد طابع بعض البلدات المسيحية!
وليست الأمور بأكثر استقرارا من جهة الحدود مع العراق الفديرالي بل هي مفتوحة لتسرب عناصر (موقوتة) وإغلاق تلك الحدود هو الآخر موجود من جهة الحصار الاقتصادي الذي يُقصد من ورائه إجهاد الإقليم وخلق اضطرابات كبيرة تطيح بنظام بنى ويبني منذ أكثر من عقدين من الانعتاق النسبي.
في مثل هذه الأجواء وبحال من سلبية العامل الموضوعي المحيط، لا ينبغي أن يكون الحديث مستعجلا عن تنفيذ شكلي للديموقراطية بتمسك آلي سطحي مفرغ بمواد الدستور من قبل بعض الأطراف الكوردستانية.
فالأوضاع العامة ومستوى الثقافة المعرفية وأداء الرأي العام مازال بتفاصيله المتنوعة، لا يتحمل التغيرات الجوهرية أو الراديكالية لأنه سيتعرض لزلازل أو هزات قد تمرر قوى تمتلك قدرات سرقة التغيير وتوجيهه باتجاهات غير تلك التي حققتها الثورة وقيادتها التاريخية، ممثلة بحركة التحرر القومي الكوردية. ومن هنا تبقى الحاجة لتلك القيادة قائمة للسير ببناء القوى الذاتية برصانة وهدوء وتأن، وليس باستعجال قد يطيح بكل ما تمَّ بناؤه.
إنَّ الأوضاع الكوردستانية مازالت بحاجة للجمع بين مركزية النظام الرئاسي ولا مركزية النظام البرلماني؛ حيث مزيد من الصلاحيات تمنح للحكومة ورئاستها ولكن تدريجا وبطريقة التقدم خطوة خطوة، أي عبر إجراءات انتقالية مرنة، حيث مزيد من التمرين الشعبي وبناء الرأي العام الفاعل والحيوي. فالتجربة العملية لمتغيرات المنطقة، كما يدركها أصحاب المنطق الرشيد، أفضت للكشف عن التداعيات التي منحت فرصا أكبر لاختراق الممارسة الديموقراطية بعناصر سالبة، تتناقض والديموقراطية ذاتها.
وعليه فإنَّ الأوضاع مازالت بحاجة لمزيد من التجاريب والتمرينات التي ستكون دروسا مكينة لتوطيد الاستقرار والانتقال بطريقة ناجعة لا تتعرض لمفاجآت كما جرى بعدد من دول المنطقة، التي استولت فيها القوى الطائفية الراديكالية على مقاليد الحكم سارقة جهود الثورة والثوار وآمال ربيع الشعوب..!
إنّ تطبيق القانون روحا، هو ذاك الذي تنظر فيه القوى السياسية بموضوعية وتأن وهدوء، لما يحيط بكوردستان من ظروف قد تستتر للحظة تاريخية ولكنها سرعان ما تتفجر بطريقة لا تسمح بإمكان السيطرة عليها أو ضبطها وتوجيهها وعندها لات ساعة مندم.
ومعروف اليوم أنّ كوردستان تنتظر عملية انتخابية سواء لمجالس المحافظات أم الرئاسية أم البرلمانية. وبجميع الأحوال فإن الصائب في إجرائها، يبقى بحاجة للمحافظة على أولوية الخصوصية الكوردستانية وظرفها المستقل؛ كما تبقى بحاجة لتكييف الأداء بما يستجيب لتطلعات أبنائها في التقدم خطوات إلى أمام.
وبمناقشة أكثر دقة وتفصيلا فإن تغيير النظام المعمول به بكوردستان بالاستناد إلى تفصيله على مقاس الدستور الاتحادي عراقيا قد يكون فيه من العجالة والتسرع ما يضر بكوردستان. ومن الصحيح مبدئيا أن يجري دراسة التغيير على وفق حاجات الإقليم أولا وآخرا وسواء بالمقارنة مع تجاريب الشعوب والدول أم بالاستناد إلى الظرف الراهن فإن وجود تعدد في النظم ببلد اتحادي موجود في كثير من التجاريب المتقدمة ولا يجوز التذرع بأولوية توحيد النظام فديراليا عراقيا. ومن جهة الظرف المخصوص فإن التسرع في التغيير من نظام لآخر من دون مقدمات مؤسسية وإعداد رأي عام بشكل واف قد يعرض التغيير لعقبات غير محسوبة.
وعليه فإنّ النظام الرئاسي المعمول به اليوم ليس مشكلة عقدية ولم يستنفد مهامه وطاقاته أو إمكانته في تقديم كثير من الأمور المحمودة للإقليم. ولا يجوز النظر للموضوع من زوايا حزبوية ضيقة أو من أهداف قصيرة النظر.. وللتأكيد فإن معيار التغيير وهدفه قد لا يلبي بالضرورة والحتم توجها أبعد نحو دمقرطة الحياة واتساعا في هذا، كما يصوره بعضهم بالقياس إلى مصالحه الخاصة وأنصاره. كما أن النظام الرئاسي نفسه هو أحد أنظمة الديموقراطية، كما هو الحال في بلدان كبرى معروفة. وعليه فإن التفكير المحدود بخيار أو آخر يلزمه الانفتاح على الوقائع بموضوعية وبانفتاح في النظر إلى حاجات الإقليم وأولوياتها وليس بإخضاع القوانين والنظم لقوالب لا تخدم سوى مآرب حزبوية محدودة ضيقة وقصيرة النظر.
من بُعد آخر فإنّ التعامل مع احتمالات التمديد من جهة للرئاسة أو للبرلمان وغيرهما مثلما القضايا الأخرى، تبقى قضية مفتوحة بحسب واقع الأمور ومتطلباتها. ولا يجوز المقارنة المقولبة بصياغات أو تصورات جامدة لا تأخذ بحسبانها الظروف الموضوعية والذاتية لكل حالة. وما يطالب به في بغداد لا يمكن أن يكون معيارا لما يناسب كوردسستان. ولا يتشرط هذا بذاك بل يجب التدبر بحكمة لما يناسب الوضع كوردسستانيا في ظل الأوضاع المضطربة التي تعادل في درجة غليانها ما يساوي ظرفا طارئا يتهدد الإقليم بمآزق لها أول وليس لها آخر.
إن الظروف المحيطة اليوم ليست في وضع يسمح بالحديث عن تغييرات مؤسسية شاملة ولا بتغيير كلي في الإدارات والقيادات ولكن تلك الظروف تؤكد الحاجة للتمسك بحلول تتناسب وروح القوانين الدستورية من جهة ومطالب الواقع من جهة أخرى. أي باستكمال إصدار القوانين وبناء المؤسسات والارتقاء بإنضاج فاعلية الرأي العام والاتساع بعملية الإصلاح الاقتصادي الاجتماعي الشامل وتعزيز بنية مؤسسات المجتمع المدني لتأتي التراكمات المتحصلة بظروف مؤاتية للتغيير من دون خلل أو قفز في فراغ..
إنني أدعو هنا القوى السياسية لإحالة تصوراتها ومطالبها لخبراء وكفاءات بخاصة في مجالات القانون والعلوم السياسية وفي الشأنين الاقتصادي الاجتماعي كي يبتوا في القرار ويمنحوه عمقه المدروس بمنطق عقلي خبير وليس بالتوقف عند قراءات حزبية أو مآربها في مطالبة (بعضهم) بإعمال أو إنفاذ المادة الدستورية بشأن المدة الانتخابية أو بشأن النظام الانتخابي والنظام السياسي بين البرلماني والرئاسي.. والتأني والموضوعية هي ما سيحكم بأن هذا الاتجاه هو اتجاه متسرع وبحاجة لمعالجته بطريقة أنجع وأنضج...
وفي النهاية فإن الخبرات التي توافرت لدى القيايدة الكوردستانية كفيلة بوضضع البدائل والمعالجات الأكثر رصانة بما يعزز المسيرة البنيوية وتقدمها بسرمة تحفظ الاستقرار وترتقي به.
وللموضوع وقفة أخرى تتابع المعالجة على وفق معطيات الواقع ومطالبها السليمة.