استقلالية السلطات والمؤسسات ليست انفصاما ولا تقسيما محاصصاتيا
العمل المؤسسي السليم حصانة للدولة وحماية لمصالح الشعب
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
الأصل في معالجتنا هو سلامة العمل المؤسسي أيا كان النظام السياسي المعمول به؛ والأصل المصداقية والتمسك بالقوانين واللوائح وأداء المهام بوصفها تكليفات في الخدمة العامة وفي تسيير أعمال مؤسسات الدولة. وهذا ما تجسده السلطات الثلاث في بلدان الديموقراطية، حيث تعمل مؤسساتها بشكل مستقل وتؤدي مهامها بآليات لا تخضع فيه السلطة التشريعية ولا القضائية للتنفيذية بل العكس؛ ونجد الدور الرقابي من الحيوية مثلما هو حال سلامة تشريع القوانين والخطط الاستراتيجية والمرحلية في إطار الهيأة البرلمانية المنتخبة. ومعها يكون الدور القضائي حازما في ملاحظة الأنشطة والتطبيقات واحتمالات الانحراف عن العقد الاجتماعي الصادر بهذا البلد أو ذاك والتعامل معه بما توجبه مهام السلطة القضائية..
غير أننا في بغداد بتنا نرصد تداعيات مختلفة. فوجدنا توجها مقلوبا رأسا على عقب؛ إذ لم يكتفِ رأس الحكومة بحصر صلاحيات عدد من أبرز الوزارات بين يديه وسحب صلاحيات وزارات أخرى وتعطيل غيرها أو تجييرها بنظام الوزير الوكيل، طبعا ليس وزيرا بالوكالة في وزارته ولكن الوكيل لرؤى رئيسه! ومن يتابع مثل هذه الوقائع يرى أن السيد رئيس الوزراء، لم يكتفِ بهذا بل راح يتدخل في شؤون السلطات الأخرى فالقضائية مجيرة بطريقة يلتجأ لتبريراتها وقتما احتاج للأمر؛ فيما التشريعية تمشي بتضاغطات الكتل وكتلتُهُ التي تتسمى بالقانون هي التي تحاول تطويع القانون لتجعله حصريا خاصا بقناتها أو زعيمها الذي تحيطه اليوم بهالة تحصينات ومتاريس تذكرنا بمخاطر صنع الدكتاتورية والاستبداد!؟
ولغرض التعمق في قراءة المشهد السياسي العام وتحديدا مشهد اشتغال مؤسسات الدولة، نرصد من بين أغرب الممارسات التي نفذها السيد رئيس الحكومة، ما تمثل في جهوده التي أفضت إلى إخضاع الهيآت والمؤسسات المستقلة لسلطته وطبعا عادة ما استعان بتأويلات وتبريرات [قضائية!] بخلاف ما ينص القانون على استقلاليتها؛ من مثل البنك المركزي والقضاء وسلطته العليا تحديدا ومن مثل الهيأة العليا للانتخابات وهيأة المساءلة والعدالة وغيرها.
والجديد في آليات محاولات السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها ووضعها حصرا بيد رئاسة الحكومة؛ هو ما جرى بشأن اجتثاث القاضي رئيس المحكمة الاتحادية. هذا الموقف وخلفياته كشف مجددا ما جرى.. وفي وقت صدَّعت أبواق دعائية لدولة القانون رؤوس الناس بأهمية مؤسسة المساءلة والعدالة وشهَّرت بالآخر ووصمته بالبعثية لمجرد أن هذا الآخر طالب بتعديل مسار عمله تلك الهيأة ومنع الازدواجية فيها ومنع استخدامها سلاحا في الصراع السياسي وأشكال التسقيط، في ذات هذا الوقت رفضت تلك الأبواق قرار اجتثاث السيد المحمود.. وأبعد من ذلك سارعت رئاسة الحكومة في (إلغاء) القرار وبالمقابل اُتُخِذ قرارعزل رئيس هيأة المساءلة الذي رفض الامتثال لطلب السيد رئيس الوزراء تأجيل اجتثاث المحمود! فأين استقلالية هذه الهيأة؟ وأين ممارستها العدالة على وفق القانون الذي يلزم أن يكون واحدا مع الجميع؟ وأين حيادية الحكومة وواجبها في فرض القانون والتمسك به؟ وأين منطق تفعيل الدستور والعمل المؤسسي في ضوئه؟
والقضية لم تنتهِ عند حدود اجتثاث رئيس المحكمة الاتحادية ورد الحكومة باجتثاث رئيس هيأة المساءلة والعدالة من مهامه، بل باستمرار التداعيات وتعيين شخصية بديلة معروفة بالانحياز بما يعني إمكان تحكم رئاسة الحكومة بالشخصية وبالمؤسسة طبعا.. وهذا توكيد صريح لآليات تجيير المؤسسات الحكومية كافة لتخضع لفلسفة رئيس الحكومة ببغداد من دون عودة لقانون أو لائحة عمل أو تراتبية في الأداء.
هنا جاء دور رئيس البرلمان ليمارس تفاعلاته وإن جاءت في إطار مهام برلمانية صحيحة باحتكامها إلى القانون إلا أنها جاءت متأخرة ومتلجلجة مترددة وربما وقعت أسيرة التجاذبات الجارية بشكل ما. فأصدر رئيس البرلمان قرار إعادة رئيس الهيأة التي يُفترض أنها هيأة مستقلة ومن ثمّ تبعيتها للبرلمان وليس الحكومة ورئيسها.. وفي قراءة للتفاعلات، تؤكد هذه المعالجة أنه قد يكون في الأمر محاولة توكيد تراتبية السلطات على وفق الدستور وعلى وفق ما يحدده القانون من آليات اشتغال كما أسلفنا، إلا أن المشكلة الأعمق غورا أن تتجه الأوضاع نحو التشرذم والانحدار!
فكيف يحصل هذا التدهور مؤسساتيا؟
وللإجابة سيكون من نافلة القول أن نتحدث عن انعدام الثقة بين الأطراف والكتل على خلفية محاولات الانفراد بالسلطة وحجز المسؤوليات والمناصب وأغلب الأعمال الوظيفية لحزب الدعوة ومناصري رأس الحكومة شخصا.. وصارت المؤسسات في الغالب حالة من الأدوات التي تلبي مطالب زعامة مفروضة وبالمحصلة هناك تهميش لفئات مجتمعية على أسس تبدو طائفية أو تستغل الخطاب الطائفي السياسي لكنها ليست سوى آلية إنتاج الاستبداد بلباس جديد! ومن يقرأ هذه الحقيقة لن يستنتج سوى خواء العمل المؤسسي وفردنته ووضعه في شللية وأسره ببلطجة حزبية في وضح النهار!؟
ومن جهة أخرى لهذا التدهور المؤسسي الذي تشخصه أغلب الدراسات الموضوعية، ستنجلي التداعيات الجارية باتجاه تعطيل الدستور بالاستناد إلى حال الإغراق في الممارسات المخالفة له، ثم تأتي مرحلة تعطيل القوانين واستغلال الثغرات فيها، ليؤوّلها كل طرف بطريقته وتصبح السلطة ميدانيا بحسب قوة كل فريق في مؤسسة أو أخرى وبحسب مستوى تأثيره على الأرض هنا أو هناك..
وهكذا ستشتغل مؤسسات السلطات الثلاث انطلاقا من قانون رئيسها وتوجهاته وليس من طابع العمل الجمعي المنضبط بقانون؛ ونصبح أمام مشهد: ضيعة لك وأخرى لي وتدور مطحنة الصراعات على حساب هيبة الدولة وتعطل مؤسساتها ومن ثمّ تدهور واقع الشعب..
إن هذا الاتجاه من التداعيات لن يجلب للناس سوى العواقب الوخيمة، تلك العواقب التي لن يوقفها إلا وعي كونها متأتية من فشل العمل المؤسسي، الناجم عن تعطل السلطات وانحرافها عن مهامها وعن طبيعة كل منها وآليات الاشتغال فيها حيث انقلاب صيغة التراتبية واختلال العلاقة بينها فضلا عن خروجها عن طابع العمل المؤسسي السليم باتجاه الخضوع لزعامات تتطاحن في محاصصاتها ومحاولاتها السيطرة على أكبر قدر من المؤسسات وتجييره حزبيا فئويا!!؟
على أن المواطن ينبغي أن يرى الأمور من أنّ استقلالية السلطات الثلاث لا تعني بالمرة انفصاما بينها ولا وضعها في تعارض في مهامها كما هو جار اليوم بل تعني استقلالية تلك السلطات ومؤسساتها، تنظيم وجود تلك السلطات بقوانين وانضباطها في إطار وجود دستوري يمنحها صلاحياتها وتوصيف طابع كل منها وموقعه لتشتغل تكامليا ولتتفاعل إيجابا..
وهنا لابد من الإشارة إلى عائدية إنصاف الحق وتلبية مهام العدالة في السلطة القضائية وقراءة الأمور على وفق القوانين ومنطقها وجوهرها وروحها وليس بالاستناد إلى رغبات وميول ومن ثمّ تأويلات معوجة.. كما تنبغي الإشارة إلى دور البرلمان المنتخب في مهامه التشريعية وفي مسؤوليته عن الهيآت المستقلة والدور الرقابي المنتظر فيه.. إلا أن هذا لم يحصل بالأسلوب الذي يرتقي إلى تلك المهام نظرا إلى أن كثيرا من أعضاء السلك القضائي يعملون وعينهم على الضغوط والعلاقات الخاصة مع السلطة التنفيذية وتحديدا رئيسها ونظرا إلى أن كثير من أعضاء التشريعية يعملون بأمرة زعيم أتوا بأصواته، حيث لم يحصدوا من أصوات الناخبين على ما يُدخلهم البرلمان؟
بهذا الوضع، لا تستقيم الأمور ولن تمضي السفينة إلى ميناء استقرار، بل ستتوه في لجج الصراعات وتدور بدوامات عاصفة بلا منتهى سوى مزيد من الطحن والضحايا والآلام.
إن ما نخلص إليه من هذه القراءة بغض النظر عن نتائجها المأساوية الدامية وما ينبغي أن يكون من رد؛ هو أن العمل المؤسسي في دولة كبيرة كالعراق وفي نظامها السياسي بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار وهو يهدد بتحولات خطيرة إذا ما تُرِكت الأمور سبهللة بما يحكمها من فشل في برنامج إدارة وأسلوب توجيه للأوضاع..
إن الصائب هنا يكمن في حق الشعب بالتغيير المناسب الذي يعيد الأمور إليه كي يقرر مجددا من يدفعه إلى السلطة السياسية من القوى الفاعلة على وفق برامج عمل يمكنها أن تبني دولة مدنية هي دولة مؤسسات فاعلة تستطيع الاستجابة لمهمة البناء والتقدم وتلبية مطالب الشعب وليس العبث بمصيره كما جرى ويجري اليوم.
ولعل الطابع الفديرالي لبنية الدولة العراقية ونجاح العمل المؤسساتي في كوردستان يمكنه أن يكون نموذجا مؤثرا بنيويا في مسيرة ضبط بوصلة الأوضاع وتحديدا حيث تنطلق تحالفات وطنية فاعلة جديدة ربما جوهرها التحالف بين التيار الديموقراطي وحركة التحرر الكوردية وقيادتها انطلاقا من ورقة عمل هي برنامج إعادة الإعمار والبناء بأسس صائبة ويمكن أن يتسع التحالف لمن يقبل ببرنامج سياسي وطني للتغيير..
إن جوهر البرنامج لا يقوم على خطاب العاطفة ولا على تراث التحالف وجذوره ولا حتى على مدى التطابق والاختلاف ولكن يقوم على إرادة التغيير والتمسك بأسقف زمنية لمهام ومسؤوليات منتظرة من أي طرف يمكنه أن يتصدى للمهمة.. على أن هذه الإرادة الوطنية المؤملة لن تأتي بمجرد اتفاق وإعلان برنامج بل تأتي عبر ضمانات سليمة وهيأة نزيهة للانتخابات وإشراف أممي عليها ودعم بالخبرات بشكل مباشر وعملي فضلا عن توظيف آليات عمل مناسبة جمعية مؤسسية تلتزم بالقانون لتكون تأسيسا سليما بديلا لما جرى ويجري..
وسيكون الاعتماد على الكفاءة والعقل العلمي من التكنوقراط وإلغاء منطق الغنيمة والحصة والاشتغال باستقلالية صحية صحيحة للمؤسسات، سيكون ذلك هو الأمل.
والتداعيات مستمرة واتجاهها يشير لمزيد من التدهور والانحدار ولا مناص من بديل فوري يوقف هذه التداعيات ويتجه للإتيان بالبديل المؤسسي الذي يحترم الاستقلالية القائمة على التمسك بالقانون وبعلاقات تكاملية بناءة بين السلطات جميعا والقائمة على احترام طابع كل سلطة ومهامها دستوريا قانونيا وليس تفريغها من تلك المهام و\أو تجييرها لزعامة أو حزب أو جهة.. ولعل أول القوى المعنية بهذا الأمر تتجسد بحركة الاحتجاج الشعبية و تمسكها بالروح الوطني لا الفئوي والتحامها بقيادات خبيرة كفوءة من القوى الوطنية وتيارها الديموقراطي وركنها وسندها التاريخي ممثلا في حركة التحرر الكوردية والتجربة الكوردستانية المميزة بمسيرة البناء فيها.