استيراد وتصدير سياسي للأزمات مؤداه التعمية على لعبة تغييب الصوت الشعبي
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
هل تمثل خطابات التصعيد والتدخل في شأن بعض دول المنطقة مفردة برامجية غير مقصودة، تنطلق مصادفة بلا إدراك وبلا تخطيط مسبق؟ أم أنها خطوات لتصدير الأزمة الداخلية العراقية باتجاهات خارجية؟ أم أنها جزئية من عملية تعمية وتضليل عل الحراك الشعبي الوطني ومحاولة لإبعاد الأنظار عن الواقع المزري وشكل من أشكال الدعم غير المباشر بين بعض القوى الطائفية وتلك التي تتمسك بالكرسي على حساب الشعب ومطالبه؟
إنَّ إشارتنا إلى هذه القضية تبدأ من رصد تصريحات وخطابات سياسية، منها ما يقع في الاستيراد ومنها ما يقع في التصدير وكلاهما يقعان تحديدا في فلسفة الخطاب الطائفي وسياساته. ففي العراق أزمة خانقة شخَّصها الشعب واتخذ موقفا واضحا منها وحدَّد من يقف وراءها وبات لديه قناعة أن المعالجات لن تأتي باستمرار نهج تحالف (الطائفية الفساد الإرهاب) وتحكّمِه في مركز القرار ببغداد بل بالتغيير الجوهري النوعي الجذري.
وأغلب المعالجات باتت ترى أن مؤتمرا وطنيا للقوى المشاركة بالعملية السياسية، ينعقد على أساس ضمانات الالتزام بمقرراته، ويصدر عنه نداء وطني وبرنامج عمل للمتبقي من الدورة الانتخابية بأسقف زمنية لحلِّ كل إشكالية وتلبية مطالب الاحتجاجات الشعبية بخاصة منها في تغيير القوى التي تتحكم بالمشهد الآن في بغداد، هو الحل الأسلم لإنقاذ البلاد من هزات راديكالية غير محسوبة العواقب..
كما ينبغي للمؤتمرات الشعبية (المستقلة) أن تتحد في مؤتمر وطني عام يتمسك بـ (النداء الوطني) المؤمل للتغيير ويكون ضمانة تأسيسية مكينة تستند للصوت الشعبي نفسه في متابعة ما يجري ومنع أية متغيرات تصطنع طغيانا أو استبدادا جديدا، بعد أن شلَّت صراعات بعض الكتل الحياة العامة وعطَّلت مسيرة البناء.
إن من الخطورة لمن يقف اليوم بمكان (القيادة السياسية الرسمية) أن يطلق تصريحاته بشأن القضايا الداخلية لبلدان أخرى كالبحرين على سبيل المثال من قبيل تهديد السلطة في البحرين "بتصرف آخر في الأيام المقبلة...، موجها أتباعه بالخروج في تظاهرات...". فربما تبقى صيغ التضامن مفتوحة مع الشعوب لكن بالمقابل ينبغي أولا احترام سيادة البلدان واستقلاليتها من جهة وفتح جسور التضامن مع الشعوب ومطالبها لا مع التيارات الانقسامية والقوى التي تشطِّر المجتمع وتصطنع التشظي وتختلق الاحتراب سواء الطائفي منه أم غيره...
إنَّ تصدير الانقسام الطائفي واستيراده أمر لا يدلّ بوجه على تضامن مع شعب ومع مطالبه بل يدل أكثر وأوضح على الإضرار بالشعب وبمصالحه وبمطالبه.. ومنذ أن أخذت أصوات الطائفية تسطو عبر بعض القوى على الواقع فقد تراجعت أوضاع الشعوب السياسية والاقتصادية وتدهورت أحوالها الأمنية وشاغلت الحركة الوطنية بمجابهة عدو جديد آخر غير الاستغلال السلطوي وما أفرزه من ضعف في الخدمات الإنسانية وإخلال بحقوق الإنسان وحرياته..
ودليلنا على طائفية الاتجاه هو تناقضها في موقعين مخالفين مثلا موقف اية جهة بعينها من الشعب السوري ومن الشعب البحريني!؟ فقوى عراقية (طائفية) تقف موقفا متناقضا من الأوضاع في سوريا والبحرين بحسب هوى الطرف وادعائه وتستره بهذه المجموعة الدينية أو تلك، شيعية كانت أم سنية..
وما يهمنا في هذه المعالجة يكمن في توجيهنا الأنظار إلى أن من يقف خلف كل تلك البرامج ومتناقضاتها الجارية، هي جهة ذات مصلحة في مثل هذه الظاهرة. وهي تريد بإطلاق المتناقضات في إطار مجموعة طائفية واحدة، استيعاب حالات الاختلاف واحتوائها ومن ثمّ إبعاد جمهور (الطائفة) عن القوى التنويرية، القوى ذات المصلحة الحقيقية في الدفاع عنها في الإطار الوطني بحداثة وجود المجتمعات المعاصرة والدولة المدنية.. وفي غاية أخرى تستهدف مشاغلة الآخرين عن جوهر ما يعكسه الواقع من مشكلات ومَن تصيبهم تلك المشكلات بإفرازاتها من تضحيات وآلام...
لعل إشكالية استيراد الخطاب الطائفي متستر عليها من جهة الارتباطات الإقليمية للأطراف الطائفية سواء من يدعي زورا وبهتانا انتماءه للشيعة أم السنة؛ ففي كلا الحالتين هناك تمرير لأجندات ((طائفية مغرضة)) تحقق مصالح أجنبية على حساب الوطني بكل ما يمس حياة المواطِنة والمواطن ووجودهما في إطار الشعب العراقي بدولته التي يروم بناءها. ولا اتهام مجاني وبلا دليل في هذا الأمر.. فلا النظام في إيران ينكر تدخلاته ولا تركيا وأطراف أخرى تتستر على الأمر. ولكن الأولوية في المشكلة تتجسد في أن الشعب العراقي، يجب أن يرى بوضوح هذه القوى وفلسفتها ونهجها وسياستها (الطائفية)؛ الأمر الذي يجب الانتهاء منه اليوم قبل الغد، من أجل سحب البساط من تحت اقدام التدخلات ومنافذ خروقاتها ممثلة بوجود تلك العناصر المرضية على رأس الحكم وفي صدارة المشهد السياسي..
إن من يحسم القضية هذه، ليس سوى الشعب العراقي بتمسكه بوحدته الوطنية وبمصالحه العليا من حقوق وحريات ومن برامج بناء يجب إنهاء تعطلها والانطلاق بها إلى ميادين العمل والتنفيذ. وتلكم جاءت بالصوت الشعبي الهادر وبتظاهرات الاحتجاج التي صارت اليوم تشمل قوى وميادين جديدة غير منقسمة طائفيا.. ولا تقبل أن توصم بالطائفية..
إن استيراد المشكلات يكمن في أن بعض القوى باتت مرتبطة استراتيجيا بقوى إقليمية خارجية إن لم نقل تابعة ذليلة تخضع بخنوع لتوجيهاتها المعادية لمصالح البلاد وانعتاق العباد. ويطفو على السطح تأثيرات النظام عند الجارة إيران أولا، بسبب من حجم تدخلاتها النوعية الكبيرة على أنه لا يستثنى، من هذا، أطراف نظيرة في الادعاء والمزاعم من الارتباط بتركيا وغيرها إقليميا.
أما التصدير فيجسد كون تلك القوى الطائفية ترى أن الأمور استتبت لها في العراق فراحت تنقل تجاريبها إلى بلدان أخرى وحتى إن لم يحسم الأمر عراقيا فهي تستغل العراق بوساطة عناصرها الطائفية فيه للمرور إلى دول أخرى في استراتيجية تقسيم المنطقة في تحالفات طائفية من جهة وفي السطو على مقدراتها بما يجعلها تتحكم بالأوضاع لمراحل بعيدة تاريخيا.. وفي محاولة لتعزيز تقدم خطاب الطائفية السياسية في إحكام سيطرته استراتيجيا في المنطقة برمتها!؟
لكن بجميع الأحوال فإن الوضع العراقي المُدار بتناقضات الخطاب الطائفي وقدرات التدخل الإقليمي، يبقى هو الضحية الأولى، حيث يبتغي توليد ظروف محبطة وعوامل يأس تسود من أجل شلّ قدرات الشعب والقوى الوطنية الديموقراطية على الحركة والنهوض بمسيرة التحديث والتغيير وتصحيح المسار.. فاليأس والتخبط والتضبيب والتعمية كلها أسلحة لإثارة الاحباط والاستسلام للظروف المرضية..
إنّ أمرا إجرائيا خطيرا يحصل من وراء هذه الظاهرة من استيراد وتصدير الخطاب الطائفي وأزمته الخانقة فواحدة تخص الأمر شعبيا حيث تشعل حرائق الطائفية والغل العدائي بين مكونات الشعب وتحاول بما تستطيع جرها للاحتراب ومن ثم إفشال انتفاضتها من أجل التغيير النوعي. وطبعا هنا بجرّ قوى شعبية بعينها لتظاهرات تزعم التضامن مع شعوب وهي في حقيقتها ليست تضامنا مع شعب بل مع قوى تضر بمصالح تلك الشعوب كونها قوى طائفية تحارب استقرار بلادها وهي ضد السلم الأهلي وعرقلت وتعرقل مسيرة البناء والتقدم. على أن القضية الأنكى لا تكمن في موقفنا نحن العراقيين مما يجري في البلدان الأخرى من صراعات وتعقيدات ندرك بأننا نناصر الشعوب فيها وتطلعاتها المشروعة الصائبة، وإنما تكمن فينا في العراق حيث تجري محاولات حثيثة للتشويش على الانتفاضة العراقية والطعن فيها وتضليل الرأي العام وبهذه الممارسة الجديدة يراد طمسها والتعتيم عليها وسحب القوى الشعبية بعيدا عن المشاركة فيها بمشاغلتها بأمور أخرى خارجية بعيدة عن ظروفها المأساوية المؤلمة باستغلال من يُسحب بحجة التضامن أبشع استغلال حيث يتجه بطيبته وإيمانه بالتضحية بالذات من أجل الآخر وهو هنا يقع فريسة التخطيط الخبيث الذي يستهدفه في وجوده ويستهدف إبقائه أسيرا للطائفية وبرامجها الاستراتيجية.. ولكن وعي الشعب سيكشف هذه الآلية مثلما كشف غيرها من ألاعيب. وسيفك ارتباطه بكل القوى الطائفية باختلاف ادعاءاتها ومزاعمها..
وهي [أي لعبة التعمية والمشاغلة الطائفية] بالمستوى الرسمي الحكومي تدعم فلسفة الحكومة ورئاستها تحديدا وخطابها السياسي بتعميق الانقسام الطائفي وفرضه واقع حال مُسَلَّم به، ما يشرعن آليات اشتغال الاستبداد الطائفي الذي تصدح أبواق رئاسة الحكومة ليل نهار بأنها تريد محو الطائفية ولكنها [أي الطائفية] واقع حال مضطرة للتعامل معه؛ وهو ما يدفعها لتبرير خداعها جميع الأطراف من جهة دفاعها عن أغلبية ومحاولتها معالجة ظروف أقلية، لكنها في حقيقتها حكومة طغيان واستبداد لم تقدم لمن وصفتهم بالأغلبية لا الأمن ولا الصحة ولا التعليم ولا أي شكل من الخدمات ولا في نيتها وقف عدوانيتها على من أسمتهم أقلية وهي تطيح بمزيد من الضحايا لدى الطرفين.. وتتعمق الأزمة المستفحلة إيذاء بالجميع من أبناء الشعب العراقي! وليس دليلنا سوى تفاصيل اليوم العادي للمواطنة والمواطن وما يعانيان منه وسوى ظواهر الفساد والإرهاب والانهيار بكل مرافق الدولة! فهل بقي من دليل آخر يمكن أن يكون أكثر وضوحا من هذا الدليل لفشل سياسة الطائفية وحكومتها؟
هذه هي القضية لتفاعلات الخطاب الطائفي ومده علاقاته إقليميا ليكون هو الجسر والممر الإيراني للتخريب في بلدان المنطقة وتشطيرها طائفيا وإشاعة سطوة الاستبداد والطغيان وهو بلعبته متداخل معقد بغاية التشويش والتعمية وبهدف مزيد من التضليل ما يحاول عبره سحب قطاع شعبي مهم من الانتفاضة الجارية ويحاصرها ويقطع أوصالها ليجعلها تتسم بالبعد الطائفي ويسهل إطفاء جذوتها من جهة ويشرعن لطابعه (الطائفي) من جهة أخرى ويفرضه واقع حال بشكل قسري على وجودنا لينتهي لا بالتقسيم المجتمعي حسب بل ربما يصل لمآربه في تخندقات دويلات طائفية وكانتونات تستطيع توجيهها مافيات وعصابات الجريمة المنظمة التي باتت تنخر الجسد الوطني لمصلحة الطائفي الوافد إلى بلاد تراث الإنسانية وحضارتها ومجد التنوير ومنطقه العقلي..
ومن هنا لابد من الحذر وحسنا تفعل القيادات الوطنية من فرض شروط ضمانات الالتزام بنتائج أي مؤتمر وطني جديد منجهة وفي الحذر من ألاعيب مختلف فرقاء القوى الطائفية واحتمالات الغدر ونكث العهود وهذه المرة تكون الكوارث وعواقبها أخطر بكثير مما جرى. كما ينبغي لهذه القوى الوطنية أن تنظر لحلفائها الاستراتيجيين بموضوعية ممثلين بالوطني الديموقراطي بثبات وبأولوية ستدعم مواقفها الأعمق بأفضلية وجودهم حليفا في المؤتمر الوطني المؤمل...