المشاغلة بالصراع السياسي تترك المواطن لمطحنة تفاصيل يومه وتعقيداته
ولكن أوضاع اللحظات الحرجة باتت تدعو لإجراء شامل عاجل وحاسم
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
تتصاعد الاحتجاجات وتحتدم مع إصرار سلبي خطير من جانب السلطة على التمسك بسياستها وبرامجها التي لم تأتِ للبلاد سوى بالكوارث! الأمر الذي يدعو المحتجين لتوسيع دوائر دعواتهم للمواطنين لمشاركتهم رفع أسقف المطالب باتجاه التغيير النوعي الجوهري الذي يضمن لهم حياة كريمة تستجيب لحقوقهم ولحرياتهم.
المشكلة المتصلة المستمرة تكمن في تلك السياسة التي ركبت موجتها قوى التحكم بالسلطة الاتحادية في بغداد؛ حيث مزيدا من دفع الأمور نحو التصعيد والارتباك بقصد خلط الأوراق ولمشاغلة الناس بتلك الصراعات السياسية اعتقادا منها أن ذلك سيسحب البساط من القوى المدنية الديموقراطية المعنية بالدفاع عن الحقوق والحريات.. وبهذا الضغط وتشديد الطَّرْق على رؤوس الناس البسطاء قد تجعلهم في حيرة بين سلطة تدعي وتزعم وقوى وطنية ديموقراطية ومدنية حقوقية نزلت إلى ميادين التصدي لجرائم استلاب الحقوق ومصادرة الحريات...
حيث يبرز بذهن المواطن حاجته التي تضغط على تفاصيل يومه العادي.. فالصحة العليلة تتطلع للرعاية والمعالجة ولتغيير بيئي مع توفير للدواء، ولقمة العيش تنتظر رغيف الخبز وغذاء بحده الأدنى، والحركة بين البيت وميادين الدراسة والعمل وتفاصيل الأنشطة اليومية تتطلب تأمينا للسلامة ضد شيوع أنشطة الإرهاب السياسي وجرائم المافيا والعصابات المنظمة وغير المنظمة، وإدارة شؤون المنزل والعائلة تتطلب ماء صحيا نقيا وكهرباء وخدمات الصرف الصحي وطرقات ووسائل نقل واتصال تتناسب وحجم الكثافة السكانية في ظروفها الماساوية... كل هذا يجسد الواقع وخط التماس وتفاصيل اليوم العادي للمواطن المغلوب على أمره؛ الذي تنتظر عائلته أن ينهض بواجباته في توفير ما يسد الرمق ويؤمِّن العيش كريما بعيدا عن المهانة والتحقير والمصادرة والاستلاب!؟
ما يجري من طرف الجهات المسؤولة، ينحصر بين المشاغلة وإطلاق زعيق التصريحات النارية والمراوغة التضليلية أو الصمت لتمرير المشكلات على كاهل البائسين من فقراء المجتمع وطبقاته الدنيا. فإذا توقفنا اليوم عن معالجة كفتي الصراع الميداني الجاري سياسيا بين سلطة ومن ينفرد بها ببغداد وبين شارع سياسي ومن يملأ ميادينه رافعا صوت الحقوق والحريات ومطالب الناس؛ فإننا لن نغض الطرف عن طبيعة الصراع وحق الشعب في مطالبه وفي استعادته قراره في الخيار وفي وضع من يراه مناسبا لتلبية حاجاته...
إننا لا نغمض أعيننا ولا نغفل عن مسار الصراع، ولكننا نشير إلى الأمور العاجلة وإلى أن دوائر الدولة والمصالح الحكومية تبقى بواجب تمكينها من أداء مهامها ولو بحدها المتدني تحت مستوى الخدمة المنتظرة..
ويكفينا هنا أن نشير اليوم في معالجتنا هذه إلى ظاهرتين: الأولى ممثلة في النقص الفادح في تأمين شروط السلامة والخدمة بما يجنّب المواطنين الظروف البيئية الصعبة.. حيث نجد أن أمطارا بمستويات بسيطة تُغرِق الشوارع والساحات وتغمر الطوابق الأرضية بالأمواه المختلطة بانفجار مياه الصرف الصحي التي لا تستوعب مجاريها هذا الحجم البسيط بعد أن تهالكت وباتت مما يجب تغييره وتوفير بنى تحتية مناسبة لمدن كبرى مثل بغداد والبصرة وغيرهما.. وفي الضواحي والأقضية والنواحي سنجد انهيار البيوت الطينية على رؤوس أصحابها بمجرد ارتفاع نسبي ضئيل لمياه النهر بعامل الأمطار الموسمية وتهجير قسري لآلاف العوائل.. وبدل توفير المساعدات العاجلة ينبري المدافعون عن برامج الحكومة ومسؤوليها بالتبرؤ من المسؤولية بالقول: إنهم حذروا العوائل وطلبوا منهم مغادرة منازلهم!!! ولكن إلى أين وكيف؟ لا يعني هؤلاء الإجابة عن هذين السؤالين؛ وما يعنيهم إطلاق تصريحاتهم الجوفاء في فضاءات الإعلام السياسي المتخبط دفاعا وتمترسا خلف كراسي السلطة المريضة!
أما الظاهرة الثانية التي نريد وضعها بمسامع السادة المسؤولين فهي تلك التي تمثلت بعودة (أبو طبر) تحت أنظارهم وأسماعهم.. ويظن بعضهم أنه إذا أغلق هاتفه قد حلّ الأمر الذي سيمر بأية طريقة.. وطبعا هذه الـ (أيّة) طريقة تعني مزيدا من الفعاليات الوحشية الهمجية لأبي طبر وجماعته! حتى تحوَّلَ قانون الشارع إلى قانون الغاب والبلطجة وأتاوات الأشقياء!!
فلقد تكررت منذ أيام اعتداءات همجية في مستشفيات ببغداد، دع عنك ما جرى ويجري في مستشفيات خارج بغداد. فالسيد أبو طبر لم يرُقْ له أن يعالج زوجته طبيب رجل، فاستشاط بغضبته على أطباء مستشفى بضواحي بغداد وكسَّر الأجهزة الطبية على رؤوس الأطباء والعاملين فيها، وأشاع الاضطراب والرعب باستخدامه سلاحه الناري عشوائيا وتبادله إطلاق الرصاص مع حراس المستشفى!
يقول الأهالي بتعجب: إنّ وزارة الصحة ومسؤولي ملف الصحة بالبرلمان وجهات معنية رسمية أخرى أغلقت فرص الاتصال المباشر وغير المباشر وأغلقت الهواتف بأوجههم!!؟ فماذا يقول رأس الحكومة والناطقين باسمه في هذا التهديد اليومي وما ذنب الأبرياء من المرضى في أنهم لن يجدوا الطبيب بقادر على التعامل معهم ومعالجتهم وهو تحت رحمة رصاصة تنتظره في كل لحظة!؟
والآن، ظواهر الفقر، البطالة، تردي الخدمات العامة، تردي الأحوال الصحية، سوء التغذية، المشكلات النفسية والاجتماعية وكثير من المشكلات العامة التي شاعت واستفحلت في أوسع الأوساط؛ من المسؤول عنها؟ ومن المسؤول عن معالجتها؟
والآن أيضا، يجابه عشرات الآلاف وربما تتفاقم الأمور وتشمل مئات آلاف أو ملايين أخرى، جراء ترك المشكلات سبهللة بلا حلول ولا معالجة.. فمن المسؤول عما جرى لأصحاب البيوت الطينية في هذا الشتاء ببرده وعواصفه؟ وماذا إذا زمجرت الطبيعة وهطلت بأمطار أعلى من معدلاتها؟ وماذا إذا فاض الغضب وارتفعت مناسيب الأنهر أمتارا أخرى؟ بل ماذا لو أن السدّ المتهاوي في الموصل وما أصابه من شروخ انهار، جاء بخزينه ليحتل مدنا وقرى في سويعات خطر لا مرد لها ولات ساعة مندم؟ أي بصيغة أخرى للسؤال ماذا لو وقعت الواقعة وحلت بنا كارثة بالمعنى الفعلي للمصطلح، على أساس أن المسؤولين حتى الآن لا يرون فيما يجري كارثة؟؟؟
إنّ الإهمال والتحصن خلف أسوار المنطقة الخضراء والتمترس دفاعا عن الكرسي وعما جلبه من أموال حرام، منهوبة من ترسانة البنية التي تحمي الفقراء، إنّ ذلك ليس سوى مشاغلة ولعب بمصائر الناس وعبث لن تطول فرص المماطلة والتسويف فيه! لأن الأوضاع تتردى وتنحدر في نهاياتها بسرعة لا يمكن حساب مقدار التعجيل فيها ولا تقدير حجم الصدمة ونوعها...
أما موضوع الأطباء والعاملين في القطاع الصحي فبغض النظر عن حجم الفساد من وجود الأدوية الفاسدة ومن تهريب الأدوية من القطاع العام إلى صيدليات القطاع الخاص ومن دفع الناس نحو العيادات الخاصة بل من إهمال لمجمل النظام الصحي حيث الأبنية الخربة الآيلة للسقوط متهالكة ملأى بالجراثيم وتشكل مصدرا مرضيا بوبائيتها .. وحيث الأجهزة البائسة القديمة والقصور في الخدمات وحيث هجرة الأطباء الاختصاص القسرية وحيث إغلاق العيادات تحت سيف التهديد وحيث وحيث، وحيث سلسلة من الجرائم الجارية خلف أسوار هذا القطاع.. فبغض النظر عن كل هذا، ماذا بشأن إعادة استيلاد عصابات التهديد والوعيد والتخريب والتقتيل بلا إجراء عاجل حاسم صارم فيما يجري!؟
إنّ ترك الجناة بحجة عدم وجود شكوى ضدهم.. وترك القضية وكأنها قضية فردية محدودة، هي سياسة اللامسؤولية ومن ثمّ التقصير المتعمد بما يدخل في جريمة ضد الإنسانية في وضح النهار.. والسلطات المعنية تدرك جيدا أن الأمور اليوم لا يمكن لشخص أن يقدم شكواه وإلا وقع ضحية دفاعه عن حقه لأن الجناة خارج سلطة المساءلة وخارج سلطة المحاسبة..!!!
إنّ وجود شخوص مجرمين عتاة كهؤلاء محميين بمرجعية سياسية أو بانفلات أمني أو بتعامل مع هذه الجهة أو تلك أو بمشاغلة الناس وصرف للأنظار كيما تبقى الجرائم تلك بعيدة عن المقاضاة الجنائية، يعني مشاركة المسؤول الأول في تلك الجريمة ويعني تأكيد حق تظاهرات الاحتجاج بالتحول بمطالبها وبرفع أسقفها نحو عزل ذلك المسؤول (الأول) والمجيء بمن يستطيع أداء المهام والمسؤوليات ويحمي المجتمع من إرهاب مثل هؤلاء ((الأشقياء)) ويمنعهم من أن يتحولوا إلى بلطجية المدينة الذين لا يُعلى على قبضاتهم وكرابيجهم ورصاص غداراتهم سوى غضبتهم التي تطيح بمزيد من الضحايا يوميا!!!
إنّ الأمور بهذه الحال لا تُفسَّر إلا بمحاولة تهديد المجتمع بتلك العصابات وبجماعة البلطجة كيما يبحث الناس عن حام مستبد ويقبلوا بطغيان فرد مقابل شيوع قبضات البلطجة وممارسات أشقيائها، كما فعل النظام السابق مع أبو طبر وأشباهه!
والرد تعرفه جموع الناس؛ حيث لن يكون سوى بإصرارها على التغيير وعلى استكمال بناء مؤسسات الدولة المدنية سليمة صحية تستجيب للمطالب وتوفر الحماية وتحتكر العنف واضخعه للقانون وتمنع تفشيه وتضبط فضاءات الأنشطة وميادينها جميعا بما يخدم سلامة الجميع ونظافة ميادين الحياة وتفاصيل اليوم العادي..
لقد برهنت كل الوقائع على أن الاحتجاجات الجارية وتطوراتها ليست مجرد انسياق تقليد أجوف ناجم عن فراغ ولا انصياعا لأوامر وتوجيهات خارجية أو داخلية بل هي ردود فعل عفوية من جماهير الشعب تسعى لتطمين مطالبها في دولة تسيِّرها مؤسسات مدنية وعمل وطني بأسس الخيار الديموقراطي الفديرالي لا بأسس الفردنة والحكم الأوتوقراطي الاستبدادي ولا بما يتغنى به من أكاذيب يدبجها للتضليل...
لقد انتهت اللعبة وما عاد ممكنا العودة لمربع العبث بمصائر الناس وما سقناه اليوم من مثالين سريعين يؤكدان واجب التصرف العاجل تجاه تلكما القضيتين اللتين لا يمكن أن تنتظر ولا تحمّل المتاجرة بهما فقد ملّ الناس لعبة التصريحات والإجراءات التي تأتي بطريقة المكارم والعطايا ولن يقبلوا سوى بأداء واجب مستحق يلبي معالجة ما يجابهونه فورا، ولن يمرروا اية إجراءات تضليلية من دون فضحها لأنهم ينتظرون أداء الواجب تلبية لحقوقهم...
ولقد انتهت اللعبة وعلى المسؤول الأول المعني أن يقبل بضغوط الشارع وأن يتنحى لتشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية تعد لانتخابات بقوانين وضوابط سليمة تعبر عن مطلب العراقيات والعراقيين في التغيير الجوهري ولا تتركوا الأمور تتداعى باتجاه أكثر مأساوية بحجم ضحاياه من بنات العراق وأبنائه ومن ظروفهم العتية العصيبة..
أما القوى الوطنية الديموقراطية قوى بناء الدولة المدنية فعليها تحمل مسؤولياتها بشجاعة وأن تتقدم بمشروع إجرائي محدد وإلا فإن ترك الأوضاع لتداعيات غير منضبطة ببرنامج سيدفع الاختراقات للتوسع على حساب صواب المسار والاتجاه..
إن المؤتمر الوطني بات مطلبا لإنقاذ الوضع ببرنامج يلزم الجميع من يحضره ومن لا يحضر وبرامج المؤتمر معروفة الصياغة في ضوء مطالب التظاهرات والاتفاقات السياسية المعروفة وجوهر الدستور ومفرداته العقدية المنشودة. فهلا أسرعنا قبل مزيد من آلام الهاوية؟؟؟