الأوضاع العامة، بين مزيد من الاحتقان والتدهور وبين البدائل المنتظرة!
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
لم يراهن الشعب في إطار عمليته السياسية إلا على قدرات قواه الوطنية المخلصة من جهة وعلى خياره النظام الديموقراطي الفديرالي وآليات اشتغاله من جهة أخرى. وما هاب الشعب يوما كل تلك العقبات والثغرات التي جابهت توجهه لبناء عراق جديد. وفي جميع الأحوال أصر الشعبُ على خياره السلمي ومازال، طريقا للتقدم والبناء.
وليس من شك أنّ خيار الديموقراطية يمتلك وسائله في معالجة العقبات والاخفاقات التي تجابه المسيرة، تلك الوسائل التي تتجسد في سمات اشتغال، منها (التداولية) في إطار عمل مؤسسي جمعي مشترك؛ بما لا يسمح لطرف أنْ ينفردَ بالقرار الذي يوجه الأمور عند احتقانها وتأزمها. لأنَّ ذلك مما يفاقم الأوضاع ويجعلها تتدهور بتسارع خطير، فتنحدر إلى الهاوية وتتفجر هناك تراجيديا!
واستجابة لخيار الشعب وللظروف القائمة، شكَّلت القوى الوطنية حكومة شراكة واختارت التوافق آلية في العمل على وفق نص إعلان أربيل وما تلاه من تفاهمات حاولت تجاوز العقبات التي ظهرت في حينها. غير أنّ ما حصل فعليا، هو اتجاه (طرف) نحو الانفراد بإدارة حكومة بغداد الاتحادية وإمعانه بمزيد من الإصرار على نهج انتقائي في تنفيذ الاتفاقات وفي تأويل الدستور والقوانين السارية.
فأفرزت تلك السياسة على صعيد (رئاسة الحكومة) تحولا من عمل مؤسسي لمجلس الوزراء وآلية القرار الجمعي فيه إلى تركيز الصلاحيات بيد (رئيس وزراء) بالمخالفة مع نظام العمل سواء دستوريا أم على وفق اتفاقات الشراكة والتوافق.. وأُمعِن في تلك السياسة وتمَّ حصر عدد من الوزارات [بخاصة الأمنية والسيادية] بين يدي شخص السيد المالكي مباشرة فكانت الوزارات أما تعمل بأمر مباشر أو بالوكالة أو تعود بكل شاردة وواردة إليه ومكتبه (أي لشخص رئيس الوزراء) بالاستناد إلى حال سحب صلاحيات الوزير، أو تحديدها وتقليصها لأدنى مستوياتها!
ونجم عن هذا شلل في عمل الحكومة وأجهزتها كما نجم عن التوجهات البرامجية المفروضة، إخفاق وعجز في تلبية حقوق المواطنين الذين ذاقوا المرّ في ظل انعدام شامل في الخدمات العامة والخاصة وقصور فاحش في الغذاء والدواء وفي الماء والكهرباء وتدهور مريع في الصحة والتعليم وشيوع للفساد بكل مستوياته وأشكاله بمؤسسات الدولة التي باتت الأولى فيه عالميا وبات العراق الدولة الأكثر فشلا حتى صار يتهدده التفكك والانهيار على وفق أحدث المؤشرات العالمية!
في ظل هذا الانهيار الشامل والاحتقانات المستفحلة، جاء الرد عفويا من أبناء الشعب بتظاهرات شباط 2011 التي عادت اليوم بعد أن امتدت مهلة ((المائة يوم المعروفة)) فتكررت في مئات أخرى وسمع الناس جعجعة ولكنهم لم يروا طحنا..! ووعيا من المواطنين بالوضع وغيمانا منهم وتمسكا بالعملية السياسية، بدأت تظاهراتهم بمطالب محدودة تمس الأمن والأمان وكرامة الناس وحقوقهم وحرياتهم... لكنهم [على الرغم من كل ذلك] جوبهوا مجددا بمماطلة وتسويف وبحملات إعلامية للتشويه والتضليل من قبيل اتهامهم بخيانة ((القائد!؟)) وبالتعبير عن أجندات أجنبية أو خضوع لقوى إرهابية مرة شخصوها بمومياء البعثفاشية ومرة بفزاعة القاعدة وقوى إرهابية فضلا عن محاولات وصم الحركة الشعبية العفوية بالطائفية!!!
وبين حملة هستيرية شعواء وبين التهديد والوعيد وصدامات أراقت دماء المسالمين الأبرياء، كانت تجري اعترافات من أصوات حكومية تابعة لـ (رئيس الوزراء) بـ (بعض) الخروقات الحقوقية وببعض المطالب.. وباتت تتصدق على حركة الشعب بما هو مشروع له أن يطالب به وبما ليس مشروعا. لتقلب مفاهيم السمو الدستوري وتضعه بيد شخصية جديدة جرى ويجري إسقاط قدسية عليها لتكون مرجع الشعب ومكوناته وأطيافه والقوة التي تنحصر بين يديها مصائر الناس والوطن...!!!
وبسبب هذه السياسة واساليب المماطلة والاستهانة، تحولت التظاهرات المطلبية إلى احتجاجات جماهيرية نوعية بمطالبها. حيث ما عاد ممكنا القبول بالتسويف ولا المماطلة ولا باللعب بمصائر المواطنين وبات واجبا استعادة سلطة القرار ليكون بين يدي أبناء الشعب مجددا ليقرروا من يكون على رأس حكومة جديدة تخضع للدستور ولآليات العمل في إطار خيارهم الديموقراطي بدولة مدنية وبعمل مؤسسي نزيه ينهي الفساد ويقضي على أشكال الإرهاب الذي استغل هزال المؤسسة الأمنية العسكرية التي يديرها شخص رئيس الوزراء ويحصر صلاحياتها بين يديه من دون نتائج سليمة تذكر...
إن البديل اليوم، بات يكمن في تغيير جوهري يُنهي فلسفة المحاصصة والغنيمة وآليات السطو على مؤسسات الدولة وإخضاعها لنظام الحزب الحاكم الذي عاد يجتر من جديد نظام تبعيث دوائر الدولة بمسمى جديد هو نظام ((دعوجة)) تلك الدوائر أي جعلها جهازا من أجهزة حزب الدعوة مُجيَّرة بالتمام والكمال لوجوده وسلطته! والكارثة المستجدة المضافة أن (الدعوجة) تتسم بدرجة فساد وتخلف أشاع شللا شاملا في هرم المؤسسة الحكومية من أعلاها إلى أدناها...
إذن، البديل ينبغي أن يكون نوعيا باستعادة سلطة الدستور والقوانين جوهريا لا بالاسم ولا بالمزاعم والادعاءات.. وبتمكين مؤسسات الدولة من برامج بناء وإعادة إعمار شاملة تستجيب لمطلب تلبية حقوق الناس وحرياتها بلا استثناءات وبلا محددات فوقية وبلا قشمريات الأدلجة التضليلية بخطاب سياسي يتسم بإسقاط القدسية على زعامة أو شخصية ويضع العربة أمام الحصان أو يرى في تلك الشخصية معيارا لقياس صواب مطلب أو توجه أو فكرة... والبديل لا يقبل بأن يفصِّل امرؤ لباسا بمقاسه وخيار لونه وشكله ليكون رداء للشعب ومكوناته وأطيافه بما يلغي تنوعات وجود تلك المكونات والأطياف ويصادرها!
البديل، يؤمن بالوطن والناس فوق كل اعتبار وقبله. ويعمل على تأمين برامج تصون استقلال المؤسسات وأولها استقلالية القضاء وفصل السلطات وممارستها مهامها بتراتبية دستورية سليمة. مع تنفيذ برامج مكافحة الفساد.. وإنهاء الإرهاب وسطوة البلطجة وحلّ مافيات الجريمة المنظمة وكل العصابات والميليشيات المسلحة التي تسطو على الوطن وتحوله لسجن كبير فضلا عن السجون السرية الحكومية التي تخترقها شبكات مافيوية محلية وأخرى تابعة لجهات إقليمية ودولية نافذة والتي تشيع فيها كل أشكال التعذيب والهمجية القروسطية والمعاصرة!
البديل ينطلق بعمليات البناء وإعادة الإعمار من مطلب استعادة حقوقنا في مياهنا بالنهرين والشط وعشرات الروافد المنهوبة وحقوقنا في البحر ومياهنا الإقليمية وموانئنا ومرورا بإصلاح البيئة ووقف التصحر ومعالجة التلوث بأشكاله وأنماطه وصعودا نحو توفير الخدمات الصحية الشاملة وإطلاق حركة التحديث في التعليم والتنمية البشرية؛ إلى إطلاق عجلة الاقتصاد من زراعة وصناعة ومن حماية واستثمار للثروات الوطنية وتمكين للشعب من تلك الثروات وعائداتها، التي ذهبت طوال عقد من الزمن هباء منثورا بلا محاسبة لسارق أو مقصّر...
اليوم، ما عادت الأوضاع تقبل خطابا سياسيا مكرورا ممجوجا ممن أوصلها إلى هاوية قرار وتراجيديا الصراعات والاحتقانات المختلقة المفتعلة إلى جانب أزمات صادرت وجود المواطن وحقه في حياة حرة كريمة.. اليوم، اجتازت الأوضاع كل الخطوط الحمراء وما عاد ممكنا الالتفات إلى وراء حيث اللحظة التي أفلتت زمام الأمور وفرطت بكل حبات المسبحة التي انقطعت فتسربت بين رمال الحركة الشعبية المائجة.. اليوم، ما بقي سوى خيار الاستجابة لمطلب التغيير الجوهري نوعيا...
الحل يكمن اليوم في تشكيل حكومة إنقاذ وطني، حكومة انتقالية في ضوء قرار لمؤتمر وطني يلخص كل الاتفاقات السياسية في نداء وطني موجز يستند إلى الدستور وإلى مطالب الشعب وسمو سلطته وإرادته، وذلك هو المقدمة نحو انتخابات جديدة تديرها هيأة مستقلة نزيهة وبإشراف أممي فعلي وقضاء وطني مستقل واستكمال للقوانين الدستورية المعنية بضمان نزاهة الانتخابات وصواب ودقة تعبيرها عن إرادة الشعب وصوته. وهذا الحلّ هو الطريق الفعلية المكينة والحاسمة لتطهير العملية السياسية مما شابها من فساد ومن ثغرات وضعتها في قعر هاوية الأزمات المستفحلة..
وبين مزيد من إصرار وركوب رأس بالمقلوب وبين تلك الحلول السلمية ستُحسم الأمور بفضل وحدة الحركة الوطنية ووعيها وبفضل الإصرار على استكمال مهمة الاعتصامات والاحتجاجات الشعبية دعما لحكمة القوى الوطنية الديموقراطية ورؤاها وبرامجها في إنقاذ الوضع العام من الانهيارات المحتملة التي لا تعني سوى تفكك الدولة ووضع الشعب لقمة سائغة لبلطجة مافيات ((الكانتونات)) التي يريدون أسره فيها..
الاحتجاجات الشعبية هي التي تحمي العراق ونظامه الديموقراطي الفديرالي فيما التعنت وعنجهية الانفراد بادعاء صواب الرأي هو ما يقود للانهيار.. ولعل وقوف قيادات وطنية مع مطالب تلك التظاهرات كما هو حال موقف قيادة حركة التحرر في كوردستان وقيادة التيار الديموقراطي العراقي هو الأنضج والأكثر سدادا وحكمة في التفاعل المنتظر الصائب مع الحركة الشعبية واتجاهها الذي يعبر عن غنى التنوع وعن الطابع التعددي الذي يتشكل منه العراق الجديد وآليات بناء دولته.
لا تردد في الخيار بين من افتعل الأزمات واختلق الاحتقانات وبين الرد الشعبي بكل توجهاته الوطنية وخياراته الديموقراطية في الدولة المدنية وعمقها الحداثي وبرامج البناء والتقدم فيها. فالخيار طريقه واحدة هي طريق التعبير عن مطالب الشعب في الأمن والأمان وفي تطمين الحقوق والحريات والعيش الكريم...