القضية العراقية بين مناورات ترقيعية ومطالب شعبية تتطلع لتفاعلات جوهرية مسؤولة
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
تواصل المظاهرات الاحتجاجية فعالياتها وتتسع حتى شملت لا الوفود الرمزية المؤازرة من محافظات الوطن المتجهة نحو الأنبار ونينوى وغيرهما بل امتدت إلى بغداد وعدد من المحافظات الوسطى والجنوبية. وتتسع دائرة المطالب ويجري تنضيجها من قبل القيادات الميدانية لتلك الحركة الاحتجاجية التي باتت اليوم أكثر نقاء من جهة تصديها للخروقات ومحاولات التسلق على أكتافها وحرفها عن صواب التوجه بغية القضاء عليها.
لقد تمَّ الإعلان عن المطالب الشعبية سواء منها تلك الخدمية التي تخص تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين الذين يشعرون بالإهمال أم بتلك المطالب الحقوقية التي تشير إلى الحريات العامة والخاصة وإلى قضايا احترام كرامة المواطنات والمواطنين وحقيقة الأوضاع التي تفشت فيها اعتداءات صارخة من جهة انفلات أمني خطير وأعمال إرهابية تستمر في جرائم التقتيل اليومي المجاني بلا وازع من ضمير وصمت للحكومة الاتحادية ببغداد أو طمس للحقائق وخطل في برامج التصدي للجريمة المتفشية بكل أشكالها! فيما تنشغل المؤسسات المعنية بالأمن في مطاردة الأبرياء بأعمال الدهم الليلي والاعتقالات العشوائية وجرائم خرق القوانين والإيداع في أقبية السجون ومطاولة المحتجزين بأشكال التعذيب ومنها جرائم الابتزاز والاغتصاب!!
كما تنشغل المؤسسة الإعلامية المرتبطة بمراكز القرار في الحكومة الاتحادية بتشويه التظاهرات والتركيز على عناصر الاختراق فيها وتضخيمها في انعكاس صريح للخطاب الطائفي السياسي لرأس الحكومة وبرامجه التي أثبتت فشلها الذريع في التصدي لأية أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. ويحاول بعض الساسة ممن يتحكم اليوم بتوجيه الأمور ببغداد أن يعيدوا لعبة المخادعة بوعود سبق أن أطلقوها بطلب مهلة مائة يوم وتجديد المهلة لمئات أخرى بُعَيْد انتفاضة الغضب بساحة التحرير في شباط 2011...
إن سياسة المماطلة والتسويف برهنت خطلها وافتضاحها ومآرب من يمارسها.. وأكدت تلك السياسة أنَّ الترقيعات الجارية من قبيل إطلاق سراح عشرات النسوة والمحتجزين الأبرياء وتشكيل لجان وزارية مثلما جرى في اجتماع مجلس الوزراء بعد احتجاجات ميدان التحرير عام 2011، لن يكون سوى مخادعة خبرتها الجماهير الشعبية ومماطلة لن تحصد منها تلك الجماهير سوى حملات جديدة تستبيحهم ومجازر أخرى ترتكب بحقهم...
إنَّ المطالب الشعبية ليست محصورة بقضية وزير وصراعات طائفية وتجاوزات تخص آلية اعتقال حماية أحدهم أو توجيه تهم جاهزة لآخر.. وهي ليست محصورة بخدمات الماء والكهرباء ومطالب حيوية مثل الصحة والتعليم، لكنها مطالب تخص العيش في دولة مدنية تحترم كرامة المواطنات والمواطنين وتلبي مطالب وجودهم الإنساني في دولة مواطنة ومساواة وعدل..
ومثل هذه المطالب ليست مما يمكن أن يقبل الخضوع لجدل بيزنطي وتسويف يعبث بالحقائق والوقائع وبمقدرات الناس وحيواتهم وتفاصيل يومهم مثلما اللعب أيضا بوساطة أحابيل طلب المهل للجان التي يتجدد تشكيلها وهي ممارسات تشير إلى القول المأثور أنّ الناس تسمع جعجعة ولا ترى طحينا!
ولأن القضية أخذت وقتها من المماطلة والتسويف.. وبما أن مزيدا من هذا الوقت قد مرّ بلا موقف حازم حاسم، وبما أن الجهة المسؤولة برهنت على خطل برامجها بل انعدام استراتيجيات العمل لديها، فإنَّ الحل عاد ليكون بين يدي الشعب كونه المرجعية النهائية وصاحب السيادة الدستورية العليا الذي يقرر الحلول الجوهرية المتلائمة وخياراته في تطهير العملية السياسية واعتماد المعالجات الجذرية المناسبة والأطراف التي يمكنها الاستجابة موضوعيا لمطالبه.
فالمشهد اليوم، بات بثنائية متناقضة فمن جهة، هناك وزارة اتحادية تحتكم لجهة انفردت بإدارتها وبرمجة أنشطتها ومشروعاتها أو برامجها.. وسحبت مجمل الصلاحيات من الشركاء وحصرتها بيد هذه الجهة يقابلها قوى وطنية سواء في داخل العملية السياسية وتلك الحكومة أم خارجها وهي مبعدة من حق القرار والشراكة في حكومة وحدة وطنية منتظرة لمجابهة الأزمة الشاملة.
هذه الصورة ليست المنتهى ولكنها المقدمة التي أسست لسطوة الجهة الأولى وما آلت نتيجتها إليه من أوضاع خطيرة، استدعت نداء وطنيا يخرج عن مؤتمر وطني شامل يتقرر فيه برنامج العمل التالي بالعودة لحكومة وحدة وطنية بـ (شراكة) حقيقية فعلية كاملة الصلاحيات وهي حكومة انتقالية بديلة تتجه لمعالجة العاجل من المطالب وتهيئ الأجواء لتشريعات متكاملة وإنجاز التحضيرات الجوهرية لانتخابات نزيهة تجري بمشاركة أممية...
ولكن القوة التي تسيطر على الحكومة الاتحادية ببغداد، لم تأبه لا بتظاهرات شباط 2011 ولا بالتظاهرات الجديدة وتواصل التنكر للشركاء وتمضي في خروقاتها الدستورية وفي الاعتداء على الحريات والحقوق، وتحاول طمس الحقيقة بتشويه الآخر واعتماد سياسة التضليل والتسقيط التي طالما مارستها.. ومازالت العقبة الكأداء أمام أي حل جوهري يلبي المطالب الشعبية..
وتلك الممارسة من تضليل وترقيع لم تنطلِ على الجماهير الشعبية المحتجة وقرارها السليم في ضوء المستجدات برفع سقف المطالب أمام هذا التجاهل الخطير للصوت الشعبي...
إنّ التلكؤ طويلا وعدم الاستجابة لجلسات الحوار الوطني الشامل ومحاولة تمرير تسويفات أخرى على الشركاء من مثل الدخول في مفاوضات مع كل طرف بشكل منفرد، فمرة مع الكتلة العراقية وأخرى مع الكتلة الكوردستانية وفتح حوارات بشأن قضايا خلافية مجتزأة، هو الآخر لن يكون مقبولا.. فالقضية في تلك الاجتزاءات مثلا مع القيادة الكوردستانية، ليست قضية قوات دجلة ولكنها قضية موقف رسمي شامل من فدرالية كوردستان وجغرافيا الإقليم ومناطق المادة 140 التي جرى التسويف بشأنها طوال عقد من الزمن، فضلا عن طبيعة العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وما يشمل قضايا الثروة وحقوق شعب كوردستان في التقدم وبناء مدنه وقراه بأمن وبما يلبي مطالب شعب كابد وعانى من جرائم مازالت ماثلة بآثارها بسبب من الاستمرار بتكرار سياسات شوفينية وأخرى برهنت عدائيتها وخطلها وتجاوز الاتفاقات التي لا يُعاد إليها إلا عند استحكام أزمة أو أخرى يجري تبريرها بخطاب عادة ما أثار الانقسامات والتحريض المرضي السلبي ضد شعب كوردستان وقيادته.
القضية من جهة الشعب وميادين الانتفاضة هي قضية نظام سياسي تم اختياره ليكون الحل فيه هو بناء الدولة المدنية والانطلاق بمشروعات البناء الأشمل والأعمق.. ولكن الذي جرى ويجري هو سرقة المؤسسات والسطو عليها بوصفها غنيمة وحصة طائفية لم تنتفع منها حتى مناطق الانتشار الديموغرافي للمجموعة المدعى تمثيل (مظلوميتها)!
ومن هنا فقد شاركت البصرة والناصرية والديوانية وكربلاء والعمارة فضلا عن بغداد مع الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى ردا على محاولات التقسيم والعزل الطائفي للاحتجاجات.. إن الأوضاع العامة باتت تتهدد العراق والعراقيين جميعا. ومن الخطورة الخضوع لدعاوى الخطاب الطائفي السياسي المرضي أو القبول بالتقسيم الذي يدفعون إليه.
إن الرد الشعبي يكمن في الوحدة الوطنية المتينة وفي حمل رسالة التوجه نحو دولة مدنية ديموقراطية تؤمن بالتعددية والتنوع وبالأسس الفديرالية لبنية راسخة في العلاقة مع كوردستان..
وما يمكن أن ينقذ الموقف، من الانحراف باتجاه الخروقات المصطنعة التي عانت منها التظاهرات من طرف قوى معادية للشعب والوطن هو إدراك العلاقة المريبة بين تلك العناصر وما تمثله من قوى من جهة وبين قوى الطائفية السياسية وبرامجها المرضية وما أدته وتؤدي إليه من توجهات خطيرة ..
وبهذا لابد من دعوة أخيرة وسقف زمني للقبول بالمؤتمر الوطني للحوار وللخروج بالحلول المنتظرة وإلا فإن البلاد داخلة على ما أرادته وتريده القوى المعادية للعراق الديموقراطي الفديرالي..
إن الدعوة للمؤتمر انطلقت ولكنها لم تُصَغْ بسقف زمني وبمحددات جاسمة وهو ما ينبغي أن يجري اليوم بكل شجاعة وجرأة. فالقوى المعنية تستغل التردد والحرص على ممارسة النفَس الطويل والصبر كيما تمرر مآربها. لكن الأوضاع المحتقنة ما عادت تتحمل ويمكن أن تنفلت باتجاهات لا تحمد عقباها!
لا ينبغي أن يرهن العراق وشعبه بكل مكوناته وتيارات قواه السياسية والمجتمعية بين يدي أيّ كان من الشخصيات والقوى. ولا يوجد بلد في العالم يراهن على استمرار شخصية بمسؤولية الحكم على حساب الشعب ومطالبه.. فكل قيم الديموقراطية تؤكد على التداولية وعلى البدائل الأنضج والأكثر موضوعية .. ومن هنا استدعى الأمر حزما وحسما ومشروعا ينطلق باتجاه المؤتمر الوطني وندائه وبسقف زمني لا ينتظر من يختار التخلف عنه لمآربه وسياساته واشتراطاته... وليس من الحكمة أن يجري إغراق القوى الوطنية مع شريك لم يحترم الشراكة وصادر الحقوق وأغلق الباب بوجه الحوار ما عدا نافذة تمرر شروطه الخاصة وتفرضها على الجميع!!!
وللقوى الوطنية التي تريد الحل وتسعى إليه أن تنظر لعمق علاقتها بالجماهير الشعبية التي أخرجتها للميادين ظروف المآسي التي أوصلتها تلك الجهة إليها، وليس مؤامرات إقليمية ولا قوى ماضوية أو بعثفاشية، بدليل أن الحركة الشعبية مضت في تظهير صفوفها وتنقية ما ترفعه من شعارات وأهداف وهي جميعها تؤكد العمق الوطني والبحث عن عيش إنساني ينصف العراقيات والعراقيين ويتجه بسفينة الوطن نحو موانئ السلامة...