افتعال الأزمة مع كوردستان الأسباب والنتائج والمعالجة
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
يتفق كثيرون على أن الحلول الموضوعية السلمية لما يطفو من أزمات بين مكونات العراق الفديرالي، هي الخاتمة التي ستكون الحسم؛ انسجاما مع تاريخ، من آلاف الأعوام من التعايش والتآخي. ولكن في ذات الوقت لا ينسى هؤلاء حالات التشنج والعنف الدموي التي فرضتها على تلك المسيرة قوى طغموية وأخرى شوفينية بخلفية تفكيرها وسياساتها.
ومن هنا فإنّ قوى العقل والحكمة في وقت تؤكد على الحوار المباشر وعلى الحلول السلمية الخاضعة لمنطق الدستور، وما أقره وما يترتب عليه من ضرورة التوجه لجملة إجراءات قانونية واجبة؛ بخاصة هنا - على سبيل المثال- تطبيق المادة 140، نقول إنّ: تلك القوى، الوطنية الديموقراطية تحديدا، تدرك أهمية تفعيل الدستور والالتزام به والاتجاه لتنفيذ ما ورد فيه بعيدا عن التسويف والمماطلة اللتين لا تؤديان إلا لمزيد من فرص اختلاق التوترات والأزمات، فضلا عن حذر من الانحرافات ويقظة تجاه احتمالات إعادة إنتاج سياسة استبدادية مقيتة مرة أخرى، إذا ما جرى التهاون وربما الانشغال بالموازنة بين طرفين أحدهما يتسبب في الأزمة والآخر يقع ضحيتها.
ولعل المواطن العراقي، بكل مرجعياته المنتمية لأطياف البلاد ومكونات مجتمعه التعددي، يلمس بوضوح من يقف مصرّا على تحدي الإرادة الوطنية في احترام التنوع والتعددية، وفي الإقرار بالوجود الفديرالي ومستحقاته الدستورية، وفي تلبية مطالب المواطن، في ظل مسيرة مختلفة نوعيا للعراق الجديد وآليات بنائه، ومن يحاول وضع المعالجات المناسبة.. أي من يقف مع الحل ومن يقف ضده في إطار تلبية أهم المفردات البنيوية مما ينبغي عمله تطبيعا للأجواء التي جرى الاعتداء عليها لعقود عديدة، من التغييرات الديموغرافية والتلاعب بتقسيمات جغرافيا الإدارة بما استقطع من أراض واستلب من حقوق لمكونات أصيلة في خريطة الوطن بكل مستوياتها.
وإشارتنا هنا تؤكد على ما طفا مؤخرا من عودة لنغمة شوفينية استعدائية، كما هو حال تلك الأصوات السياسية وخطابها الإعلامي التي تعمل على الاصطياد في المياه العكرة والتي دأبت على خلط الأوراق بظلال خلط الرؤية وتشويشها. وهذا الأمر لم يقف عند حدود التضليل المصطنع للرأي العام بل اندفع نحو مراحل أخرى، وصلت حد تسعير نيران الحقد والاحتراب. وباتت مجددا تستغل، بخطابها، شماعة تعليق الأزمات على كاهل الكورد في سابقة لا تدرك مخاطر هذا الفعل من تقسيم واستعداء وما ينجم عنه.
إنّ تلك القوى سواء عن وعي وإدارك أم بغيرهما صارت اليوم تسوّق لفكرة أنّ الآخر [أي الكورد] لا يميل لسلام وغذا ما جذب هذا الادعاء والتضليل له أنصارا ففي الغد القريب سنجد تلك القوى تنتقل لمرحلة تسويق تالية تسفر فيها عن وجه الشوفينية الكالح؛ بعدم الاكتفاء بهذا الوصف التضليلي بل باجتياح كوردستان بطريقة عدوانية تتقاطع والخيار الفديرالي التعددي بلامركزيته واستقلالية الشخصية وحقها بتقرير مصيرها، وكذلك، وبالتأكيد، تتقاطع والتآخي والتعايش السلمي في ضوء دستور يجمع مكونات البلاد على آلية عيش واحدة..
إنّ التصدي لهذه السياسة لا يمكنه أن يُعرقَل بذريعة البحث عن أخطاء الآخر وعن مفردات أدائه وممارساته؛ بحجة الوقوف من الجميع على مسافة واحدة بل يجب لهذا التصدي أن يكون متينا أصيلا بلا تردد ولا انشغال بالثانوي على حساب الجوهري.. والصائب هنا هو اتخاذ قرار حاسم حازم ضد توجهات افتعال الأزمات وضد تصعيد حالات الاستعداء وأعمال التضليل وخطابها الشوفيني.. وبخلافه سنبقى حيث يراد لنا أن نراوح عند رصد تصريح هنا وفعل هناك؛ فيما مخطط ضرب المسيرة الدستورية يتقدم خطوات إلى أمام تحت جنح مشاغلة وعتمة أجواء التضليل...
إنّ العقدة الرئيسة الجوهرية، تكمن هناك في بغداد؛ حيث يجثم على كاهل الوضع العام توجهات نحو الانفراد بالسلطة الاتحادية خلافا للدستور وخلافا للاتفاقات الوطنية المعروفة. وتتجسد تلك التوجهات في فلسفة انحرفت عن النهج الديموقراطي وآلياته جوهريا باتباع سياسة طائفية سياسية مكشوفة يتم بوساطتها مصادرة الآخر وقمعه وحتى أعمال التصفية الجسدية وغيرها. وهناك حيث تتراجع الأوضاع باتجاه زيادة نسبة الفقر والبطالة والأزمات الاجتماعية والاقتصا سياسية، تبرز معضلة ترحيل تلك الأزمات مع مزيد من عسكرة المجتمع بكل ما ينجم عنه من استغلال هذه العسكرة في إدارة الأوضاع العامة.. ولكن هذه الإدارة بطابعها العنفي العسكري ستنكفي هذه المرة بقوة على الداخل العراقي أي تعريض البلاد لأتون احترابات واشتعالات تعيد الماضي الأسود من دون أن نستبعد إقحامنا في أزمات أخرى قد تكون خارجية أيضا، في ظروف إقليمية تُنذر بمخاطر باتت معروفة.
فمن ينقذنا يومها من مشاركة إجبارية في حرب التقسيم التي تضع أخوة الوطن مكرهين بوجه بعضهم بعضا؟ لن يفيد إذاََ التركيز على ما يريدوننا أن ننشغل به أي مشاغلتنا بالهامشي الثانوي على حساب الجوهري. لأننا إن وقعنا في حبائل تلك المصيدة، سينجح الطرف المضلِّل بدحرجة كرة الثلج باتجاهه الذي يريد!
إنه يريد افتعال أزمات يتعكز بها أو يغطي بها على فضائح الفساد الكبرى التي تتحدث عن بيع الوطن والمواطن! وهو يريد التضليل بغرض استمرار حال الإفقار والتجويع وخلق حال يخضع للجزرة التي يقدمها طعما كما يخنع ذاك الحال للعصا والترهيب الذي يملك.. وهكذا يمارس تحالف ثلاثي ((الطائفية الفساد الإرهاب)) فعله.
أما كوردستان فلن تكون شماعة لهذه السياسة ونحن نرى كم هي حقيقتها كونها الركن الأهم في التركيز على إشاعة أجواء العمل الوطني عراقيا حيث الوحدة الوطنية، وحيث التحالف وتوحيد الجهود إعدادا لمسيرة إعادة إعمار وبناء حقيقية. ونرى أيضا اللحمة بين مكونات الوطن ترقى لمستواها التاريخي ولعمقها وعراقتها ولما يتم التطلع إليه من مستقبل زاهر لأشكال متجددة من التعايش والتآخي.
وكوردستان ليست مجرد أرض من جبال فهي شعب بمكوناته وأطيافه يمتلك حقه في تقرير مصيره الذي اختار فيه اليوم الوجود الفديرالي. والتفاعل مع هذا الخيار ينبغي أن يعمق علاقات التلاحم والإخاء لتعزيز إشراقة مستقبل يتأسس على التعايش السلمي بكل ظروف الخيارات التي تواصل التجدد بكل صيغها واتجاهاتها وبناها المؤسسية.
ولا يوجد لجميع مكونات الشعب العراقي أدنى شك من أن ما يحكم العلاقات ليس الوجود بدولة واحدة أو بدول؛ فذلكم يبقى مرهونا بالظرف التاريخي وما يتطلبه ويفرضه من خيارات في البنى السياسية.. فما يحكم العلاقات هو وجودنا المؤنسن وتلبيته للحقوق والواجبات سواء منها حقوق الإنسان بقدر تعلقها بالمواطن أم حقوق الشعوب بقدر تعلقها بحق تقرير المصير واتجاهه. وهذا ليس كما يُصوّر من طرف التقسيميين الطائفيين من حَمَلَة النزعة الشوفينية ومختلقي حالات الاستعداء والاحتراب.. إنهم يصورونه بتسطيح ولعب ساذج على ذهنية الأمية التي يشيعونها عمدا وقصدا لتمرير ظلاميات مآربهم الاستغلالية.
إذن، فأسباب محاولات ترحيل الأزمة وإلقائها على كاهل الآخر الكوردستاني، هي مفردة من مفردات التعمية والتضليل وهي خضوع لفلسفة بعض عناصر باتت في قيادة قوى الطائفية السياسية ولا يريحها سوى اختلاق وافتعال الأزمات في مسلسل متصل مستمر.
أما النتائج فواضحة؛ فهي من جهة استمرار نهب الثروات الوطنية واستمرار سطوة أعلى نسبة فساد عالميا حتى بات العراق الدولة الأكثر فشلا أي الأقرب للانهيار المؤسساتي وربما الأقرب للتشرذم والتفكك ولضياع فرص الاستقرار والبناء ومعالجة أوضاع مواطنيها. فالفساد هنا ليس المقصود به سرقة حجم صغير أو كبير من المال بل أسلوب عمل يطيح بوجود بأكمله، وهنا يطيح بكينونة البلاد ووحدتها وسيادتها ويومها لا معنى للحديث عن بقايا حقوق آدمية!!
والمعالجة بمثل هذه الحقيقة لا تكمن بالترقيع ولا بالانشغال بأمور ثانوية تخص ما فعله الجانب الكوردستاني وفي الغالب عن حق ثابت وممارسة للصلاحيات الدستورية ولأن العصمة المطلقة غير موجودة ولأننا هنا لا نتحدث عن ممارسة فردية أو علاقة بين اثنين من الأفراد بل عن قضايا عامة ومجتمعية كبيرة فإن ما قد يبدو غير متفق عليه من أمور يمكن حلها ومعالجتها بالحوارات التقنية الفنية وبالعودة للدستور والاتفاقات ولما يقدمه الحكماء والمتخصصون. لكن الأمور المشار إليها هنا ليست هي المعضلة وهي ليست جوهر المشكلة إنما هي إجراءات وردود فعل مشروعة في اللعبة السياسية من جهة وفي ميدان سيطرة انعدام الثقة مع الجانب الاتحادي المتحكم بالأمور ببغداد..
هذا ليس تبريرا لطرف ومهاجمة لآخر ولكنه قراءة تنص على أن حل مشكلة ينطلق من تشخيصها وتحديد أبعادها ومسارات التناول الواقعي السليم والناضج. إن الحل الأنجع يكمن في التأسيس له حيث الأمور لا تقوم على فرضيات العبث بالخطاب السياسي ولعبته الإعلامية من التجييش والعسكرة واللجوء لصوت قوة العنف بدل الاحتكام لمنطق العقل.
من هنا يبقى الموقف الحاسم والحازم كامنا في إدانة ما تم ارتكابه بحق الوطن والمواطن وبحق مكونات البلاد ووجودها الفديرالي أي إدانة ما اعتمده، من يتحكم منفردا بحكومة بغداد، من آلية المماطلة والتسويف في إجراء الإحصاء ومن ثم في تعطيل إعمال مفردات المادة 140 وبشكل أشمل، في تعطيل الاتفاقات بعد أخذ ما يخص طرف حزبي وترك البنود الأخرى بلا تطبيق في اشتغال يهز الثقة بل يعدمها..
وما بعد هذا الموقف الحازم المنتظر من التيار الوطني الديموقراطي وقواه المتنوعة يمكن التحول مباشرة لمعالجة جوهرية مكينة وراسخة لا تقبل التأويل والعثرات.. ومن هنا فإن المعالجة لن تتم بحصر الأمور بين زعامات أو هكذا يصورها أحد الأطراف بل بشمول الأطراف الوطنية الأوسع بمشاركة فاعلة مؤثرة مع وجود عامل إقليمي ودولي في مسار المعالجة من جهة توثيق الاتفاقات في المنظمات المعنية صاحبة العلاقة والتأثير إيجابا.
ولهذا التناول وقفة أخرى في ميدان القضية.