المصالح العليا للشعب بين سموها الدستوري والمضاربات السياسية؟
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
ما من شك لدى أيّ خبير صاحب رأي، أنّ السمو الدستوري يكمن في تحقق سلطة الشعب وتلبية مصالحه والاحتكام له ولمطالبه وحقوقه وحرياته. وعراقيا جرت صياغة الدستور بعجالة خضعت لأولوية الأسقف الزمنية؛ فمرّ في بعض مواده بما عكس كتابتها بخطاب سياسي بحت! وكنتُ وغيري أكدنا على أهمية أن يُكتب الدستور بخطاب قانوني متجرد من أي اختلاط أو تشويش؛ وألا يكون من يكتب الدستور من الساسة بل من خبراء القانون الدستوري تحديدا...
ولقد اعترف الشارع (كاتب الدستور) بالأمر فوضع سقفا زمنيا لمراجعة المنجز وتعديله حدده بستة أشهر، باتت اليوم ست سنوات ويزيد عليها بأخرى. وما نحن فيه اليوم، من حيص بيص أغلب السياسيين، قد يكون مردُّ بعض مفرداته الاحتكام لدستور جمع بين دفتيه ملامح خطاب سياسي من جهة وتعددا في المذاهب القانونية وفي محتويات مواده مما سمح بالتأويل وبأن تكون تلك المواد حمّالة أوجه متناقضة!؟
واليوم أيضا، في ظروف التناقضات والصراعات السياسية يبرر بعضهم سلوكه باستناده إلى الدستور في ذات الوقت الذي يسوّغ الطرف الآخر النقيض باحتكامه هو الآخر إلى الدستور. وبهذا فإن الدستور الذي يمثل المرجع الذي يحسم المواقف المتعارضة هو الآخر بات منقسما.. فمن جهة يقع في مزلق الخطاب السياسي المشوش لا القانوني الدستوري ومن جهة أخرى يعبرعن أكثر من اتجاه ما يعمق أزمة الصراع وطبيعة الاحتكام القانوني؛ ويوجِد فضاء للمشاغلة بعيدا عن الهدف الأسمى من وجوده...
وإذا كان هذا الأمر جليا في المستوى الوطني العراقي أو الفديرالي بعموم الدولة؛ مثلما هي الصورة مع الانقسامات بشأن الثروات الوطنية ومنها النفط والغاز.. وبشأن قضايا سياسية شائكة كما في المناطق المتنازع عليها بعموم البلاد وأوضحها ما يخص البلدات الكوردستانية التي جرى تعريبها في زمن النظام السابق.. ومثلهما ما يخص محددات النظام الفديرالي وتقاسم الصلاحيات والسلطات التي مازالت منقوصة التركيب مثل عدم وجود قانون يستكمل نصف السلطة التشريعية أقصد مجلس الاتحاد المنصوص عليه في مواد دستورية بعينها... وهكذا دواليكم من أمور تقف عند تخوم لا قوى سياسية حسب بل زعامات وأفراد يتحكمون بالسمو الدستوري لصوت الشعب وإرادته!؟
ولعل قوى وحركات سياسية (في العاصمة الاتحادية بغداد) لعبت ومازالت تلعب سياسيا، مستغلةََ تلك الثغرات الدستورية حتى اللحظة، بالاستناد ليس إلى احترام الدستور بقدر ما هو إلى تجييره؛ بما يخدم خطابها السياسي المرضي الذي اتسمت مفرداته بانتمائها لعهود الاستغلال والطغيان وابتزاز القوى الشعبية وقمعها؛ وهو الأمر الذي وقفت القوى الوطنية المخلصة ضد محاولات فرضه على أداء الحكومة الاتحادية ببغداد وضد محاولات الانفراد بتوجيهها.
وإمعانا في هذا الخطاب وبدلا من الحديث عن تعديلات الدستور وتخليصه من تلك الثغرات المعروفة لخبراء القانون وللساسة أيضا.. يتجه (بعض) الساسة في كوردستان للحديث عن تفصيل دستور إقليم كوردستان على مقاس الدستور الاتحادي بكل ما فيه من ثغرات.. وهؤلاء حتى في حسن النية تجاه ما يرومون طرحه والأمر كذلك بالتأكيد؛ حتى في مثل هذه الحال من حسن النية، فإنهم يعمِّقون من جهة أخرى شرخ إتباع الدستور ومفرداته القانونية المحضة للخطاب السياسي بذريعة التمسك بالدستور الاتحادي ووحدة مضامينه ومعطياته.. والإشارة هنا بدقة إلى طروحات تقضي أو تستهدف تغيير نص دستور كوردستان بما يخص النظام الرئاسي وتحويله لنظام برلماني..
إنّ أصل صياغة الدستور هي أنها ينبغي أن تجسد السمو (الدستوري) لصوت الشعب. وهنا يجسد الدستور إرادة شعب كوردستان وخياراته التي ظهرت في تصويته الأخير. حيث أنّه صوّت للرئيس مثلما صوت للنظام المعمول به. وإنّ أي تغيير ينبغي أن يكون مسببا موضوعيا وأن يكون بالعودة لصوت شعب كوردستان وإرادته حيث يمثل السمو الدستوري الأخير...
كما أن الأمور لا تقاس فيما يتحدث عنه نص يُفرض مركزيا من خارج وجود الإقليم ومصالح الشعب. ومثلما جاء اختيار شعب كوردستان للفديرالية وللبقاء في إطار العراق الجديد، ينبغي أن يأتي خياره الدستوري من صوته المباشر وليس العكس فالتصويت للفديرالية يتضمن مبدأ حصينا هو إنهاء خطاب المركزية والتبعية وتفصيل الأمور على مقاس العاصمة الاتحادية كما يجسد ضمانة لحاجز ضد احتمالات التفرد ممن يتحكم بالقرار في العاصمة بغداد واحتمالات استلاب منجزات الانعتاق التي تحققت لكوردستان.
من جهة ثالثة فإنّ الدستور ليس قانونا مؤقتا أو تكتيكيا ولأنه يعبر عن الخطوط الاستراتيجية العامة للعقد الاجتماعي لأي شعب فإن التغييرات لا تأتي بمبررات عاجلة بل تحتاج لدراسات قانونية معمقة ومسببة موضوعيا وتنطلق من مصالح الشعب وإرادته وصوته. فلماذا يجري التغيير اليوم؟ ما الذي يبرر تغيير النظام الدستوري المعمول به وهو خيار شعبي؟
قد يكون من الحق اقتراح التغيير من منطلقات خطاب الديموقراطية؛ ولكن خيار كتابة الدستور بخطاب سياسي لأي طرف كان، يتعارض تماما مع طبيعة الصيغة القانونية البحتة لخطابه وسموه. ولمن يقترح تغييرا عليه أن يعد مداخلاته في القانون الدستوري وضروراتها التي دعت إليها من غير تلك التي تحتكم للسياسي البحت بل للدستوري الأسمى.
وبمراجعة ما تمّ تقديمه، فإنّ الحديث عن تفصيل دستور كوردستان بمقاس الدستور الفديرالي أمر غريب بلغة الدساتير المعبرة عن صيغ العقد الاجتماعي لكل شعب. أما عن كيف تحل إشكالية نظام برلماني ونظام رئاسي؟ وكيف تحل بعض الاختلافات التي تظهر هنا وهناك في التفاصيل فهي بالضرورة مكتوبة في دستور البلاد ودستور الإقليم ولها فقهاء يعالجونها، وليس ساسة أحزاب ولا أعضاء برلمان يعودون في قرارهم لمطالب الحزب قبل مطالب الشعب...
القضية الأخرى، التي ينبغي الانتباه عليها، هي قضية تجنب حرق المراحل والقفز في فراغ أو فوق رمال متحركة.. إذ يجب التدرج في التقدم نحو مفردات وصياغات تعكس واقع الإقليم الراهن وتطلعاته المستقبلية.. ولا توجد مشكلة أو عقبة في النظام الرئاسي نفسه. فدول ديموقراطية عريقة تمضي به كما الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها ولا تشكو تلك الدول من مشكلة دستورية..
ولربما لو جاء المعيار والقياس لا على تفصيل دستور الإقليم بحسب الدستور الاتحادي بل على وفق خيار شعب كوردستان لكان الأجدى أولا الإبقاء على النظام الرئاسي لمراحل أخرى ولربما جرى الانتقال بعدها لنموذج يجمع بين النظامين البرلماني والرئاسي أقصد أن مقترح خيار النظام البرلماني ليس بالضرورة هو الخيار الأوحد والأنسب ومن سيحدد هذا الأمر هو شعب كوردستان وصوته السيادي الأسمى..
إنّ من حق ايّ مواطن في كوردستان أن يناقش صيغة العقد الدستوري.. ومن حق شعب كوردستان أن يؤكد خياره أولا وأن يشير إلى أنّ التعرض لجوهر الدستور ليس سوى مشاغلة غير مفيدة إذا لم تقترن بتسبيب موضوعي لضرورة قد تظهر في ظرف أو آخر تدفع لتلك المراجعة. وسيكون من الأفضل وجود مغايرة دستورية تجسد خصوصية شعب كوردستان واستقلالية قراره على أن يجري تفصيل الأمور على وفق الجاري في خارجه [أي ببغداد]... وهذا سيمنحه فرصة أخرى لتوكيد دور أكبر في الدفع باتجاه تعميق التجربة الديموقراطية ومعاني الاعتراض على المركزية والفوقية والتبعية التي دامت لعقود طويلة بكل أضرارها وما جلبته من كوارث..
إن فاعلية الإقليم عبر هذا المدخل مهمة ومفيدة لشعب كوردستان وللعراق الجديد يلزم أن يتمسك بمفردات التغيير الديموقراطي والفديرالي. وهذا ما ينبغي التفكير فيه أولا وهو ما أثق بوعي جميع الأطراف الكوردستانية وانتباهها الكبير إليه وللمرامي البعيدة حيث ينبغي دائما التفكير بحماية شعب كوردستان من أية احتمالات بالأساس هي ليست من داخله بل من خارجه؛ ما يدفع لأعمق وحدة للجبهة الكوردستانية بصيغة الاتفاق القائم موضوعيا اليوم بمزيد من معاضدة النظام المعمول به وتطويره بقوانين داعمة بدل البحث في ارتداء قمصان مفصلة من خارج كوردستان وليس على مقاسها...