التجربة الشخصية السليمة في الشأن العام تبقى متطلعة لدور الآخر في تقويمها
تداعيات تنتظر تفاعلا يقوّمها ويشيع ما أصاب منها
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
أكتبُ في الشأن الثقافي والمعرفي منطلقا من واجبي الإنساني في الاشتراك بحوار موضوعي؛ القصد منه الوصول إلى أفضل الرؤى والأفكار التي تعالج تفاصيل حيواتنا البشرية ومطالبها المادية والروحية. وإنني لأرجو ممن تقرأ و\أو يقرأ نصا لي، كسرا للحواجز المصطنعة، ألا يضعاني في خانة يسار أو يمين، بل أتمنى على قارئتي و\أو قارئي الكريمين أن ينطلقا من كوني إنسانا أنتمي للمجتمع بكل أطيافه ومكوناته .. وأتطلع أن أكون الأقرب إلى الجميع المصيب منهم والمخطئ؛ الأقرب إلى المصيب تفعيلا لخطوات السير في طريق الصواب والحكمة والرشاد والأقرب إلى المخطئ من خطئه إليه لربما استطعت مساعدته في تجاوز الخطأ و\أو العثرة ليواصل مع الجمع الإنساني مسيرته، وربما الأدق تعبيرا أن أكون قريبا من الآخر الذي يجدني متفقا معه فكريا سياسيا أو الذي يجدني مختلفا معه، ذلك أننا جميعا نعيش في ميدان إنساني واحد يحتضن كثيرا من القواسم المشتركة...
وأنا [بوصفي تجربة شخصية] قبل ذلك وبعده، في نصي، تجربة جمعية مختزلة ملخصة في كينونة تجسِّد وجودا إنسانيا يؤمن بالتعايش السلمي، وبالتسامح وبالوداد والإخاء والصداقة وبكل ما يضعنا معا وسويا في طريق بناء المسرات والسعادة البشرية للجميع...
ومن طبيعة بني آدم أنهم قد يسهون أو يخطئون أو يقعون في عثرة أو ثغرة أو مثلبة أو هفوة أو ما شابه من نقص في وجودنا الفردي، ولا عصمة لنا من ذلك كله بل جمالنا وحكمتنا لا تتبدى إلا بتفاعلاتنا بنائيا إيجابيا وبإيماننا الراسخ بأننا لا نكتمل ولا تنضج تجاريبنا من دون الآخر..
إنّ العلاقات الإنسانية تتوطد من هنا، من حيث تبادل النصيحة والعظة والرأي والمشورة ومِن عدِّ هذا التفاعل النقدي البنَّاء (احتراما) لنا لا منقصة ولا استهانة. إنّ تقدم الصفوف لا يكون لشهرة عبثية أو منصب يُغتصَب أو مكسب مادي رخيص يُقتنَص، ولكنه يكون إشارة لاختيار المجموع شخصية يمكن تكليفها بواجبات تؤديها أو منحها مكانة تجسد عبرها دورها في خير تصنعه بمحيطها وتخصصها...
والمسؤول [راع] لا يسرق كرسي المسؤولية ولكنه ينبغي أن يكون صالحا لهذا الكرسي بعلمه وبخبرته وبجاهزيته نزيها مخلصا لواجباته وللجمع الذي كلفه بمسؤوليته.. والقائد و\أو المميز الذي يتقدم الصفوف في منظمة أو جمعية أو حركة ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو فكرية هو ذياك الذي تسامت جهوده وتضحياته ونكران الذات عنده فتميز بمنطق عقل علمي وبقدرات نفسية واجتماعية تمكِّنُه من التصدي لمهامه وإنجاز قيمة إبداعية أو برنامج بناء وتقدم بالجمع الإنساني في تخصص أو مهمة أو غيرهما...
شخصيا بتجربتي المتواضعة بعد حوالي الأربع عقود من الكتابة والمشاركة في الشأن العام، مازلتُ أقدم الرأي بوصفه مقترحا؛ فإن أصبتُ فهذا من انعكاس التجاريب الإنسانية وصحة توظيفها ومن وجودي وسط الآخرين وجهودهم الجمعية المتفاعلة وتمثلي لصواب ما يقدمون.. أما إن أخطأت فلربما لضعف في حجتي وثغرة في خطابي البرهاني وفي ضوء ذلك فإنني دوما أتطلع شاكرا ممتنا لمن يكشف لي موضع الخطأ ويقدم البديل، فالعبرة ليست بالتشدق بنص أو قراءة أو معالجة أو كشف وريادة فيه بل في مقدار صوابه وصحته ومنفعته للجمع الإنساني وقبوله منهم...
إنّ تنكّب مسؤولية العمل العام يوجب التخلي عن كل ما من شأنه اختلاق التناحر والصراع التناقضي السلبي، فهذا يورّط الناس في خسائر وتضحيات بلا طائل، بينما كلما اتسعت دائرة من يعمل معا وسويا وبالإيجاب، سهَّلَ مسيرة التقدم وبناء صروح السعادة والسلامة والاستقرار...
إن المجتمع المتحضر المنتمي للعصر وقيمه هو الذي تتسع فيه نسبة من يؤمن بالحوار وبالاعتراف بالآخر واحترام تفاعلاته ووضعها موضع الاختبار والمقارنة بالتجاريب الخاصة من أجل الاحتكام إلى الأنسب والأنضج.. والتواضع في تقديم قراءاتنا ومعالجاتنا بل الإبقاء على كونها مجرد مقترحات لا استعلاء فيها ولا ادعاء لعصمة أمر أو رأي..
وإني لأقترح على شبيبتنا وجمهورنا الانتباه على خطاب من يطالعون في تجاريبه وتعاليمه؛ أهو خطاب وصايا وأوامر فوقية و رؤى تصادر حقوقهم في الحوار والمساءلة أم هو مقترحات متفتحة تقرأ بيئتهم ومطالبهم وتنتظر أدوارهم الفاعلة المؤثرة؟
عادة ما يبرر بعض الأدعياء في عصرنا أن خطابهم أوامري فوقي كونه مقدس معصوم وهذا إسقاط من هذا (البعض) وزعم لا يصدق فليس من خطاب معصوم غير النص المقدس.. وكثرما يكتشف العاقل المتمعن علامات خطاب الخرافة في تلك الأوامر الدعية وكثرما تضعنا في تعارض وتناقض مع الآخر وتفرض علينا كرها التخندق الضدي والاحتراب.. إلا أن الواعي يعرف بفطنته كيف يوقف تأثير الأوامر ويتخلص منها.. وكيف يمنح نفسه الحرية والانعتاق من الخضوع السلبي للتسلطي من أي جهة جاء..
ومهما كنا في مبتدأ طريق تجربتنا، فإننا نمتلك ما نحتكم إليه في منطق عقلي تنويري يضيء دروب الحوار ولا يسمح للظلمة أن تضللنا وتأسرنا. ولربما أشارت تجربتي المتواضعة وما اكتسبته من معالم يومنا ومعارفه إلى أنّ: لكل منا حريته في إبداء الرأي وحقه في التعبير عن نفسه وفي مساءلة الآخر ومحاججته وإبداء التفاعلات السليمة قبيل الوصول إلى موانئ الحكمة والرشاد.
ها هي الشخصية وجودا ذاتيا لا يمكن إلا أن تندرج في إطار ممارستها الشأن العام في مسار احترام الآخر والتطلع إلى تفاعله على أساس المساواة والتبادل الإيجابي للخبرات.. فهلا تخلينا عن عبث توزيع أنفسنا على خانة جهة أو حزب أو طرف؟ وهلا توقفنا عن التخندق السلبي خلف متاريس التعصب؟ وهلا فتحنا الصدور عامرة مرحبة بالآخر ورؤيته؟ هلا اتجهنا إلى خطابات التسامح والتعايش السلمي؟ وإلى تقديس فكرة واحدة هي أن نضجنا وعصمتنا من الزلل لا تأتي من وجودنا فرديا معزولين عن الآخر وهي لا تأتي من تخندقنا خلف الفرد الزعيم الآمر المطلق كما لا تأتي من التسليم بالأوامر بلا مناقشة وتفكر وتدبر إنها تأتي فقط من احترامنا الآخر وأيجادنا المساحة المفتوحة الأرحب للتفاعل الإنساني الأسلم واحتفالنا بتبادل التأثير وعدم الاكتفاء بالاطلاع على عناوين طروحات هذا الآخر؟ تأتي يوم نتخلى عن العدائية تجاه الآخر وإعلان الإخاء وفتح بوابات الحوار.......
هذه كلمات جاءت بتداعياتها في محاولة تذكير للذات ألا تقع في تحليل أو قراءة أو معالجة تنظر في ضوئها سلبيا استعلائيا إلى الآخر.. ولربما أتاح هذا لمن يتخندق في متاريس فكرية أو سياسية أو اجتماعية، أقول ربما أتاحت هذه الوقفة فرصة مراجعة.. واستنتاج باتجاه التفاعل حيث يقرأ من مختلف الاتجاهات ويقرر لا أن يحاصر نفسه بمتاريس فلسفة أو فكر أو سياسة.. أنت حر واختيارك متفتح ينتمي للعقل ولشخصيتك عندما تكون اطلعت فعليا على ما يعد نقيضا لمن تخندقت خلفهم..
فهلا فتحنا لأنفسنا فرصة مراجعة الذات؟ هلا راجعنا خياراتنا؟ هلا غادرنا الفردنة والأحادية والاستعلاء؟
ربما
لكن بجميع الأحوال لتسمح لي قارئتي وليسمح لي قارئي الكريمين أن أقدم لهما التحية والشكر ولمن أدرك رسالتي ومقاصدها ووجد فيها ما يستحق التفاعل والتقويم.. وتحياتي لقرائي من مختلف الاتجاهات والأطياف ...