الحوار وقبول الآخر والتغيير
تداعيات في الخيار الديموقراطي مقابل مثلث الطائفية الفساد الإرهاب
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
بين الفينة والأخرى وعلى مدى أيامنا والتفاعلات الجارية بها، نخضع جميعا لطبيعة ضغوط الواقع الموضوعية منها والذاتية، وربما تحكمت بنا أحيانا تلك الظروف وطبعت أساليبنا بالتوتر أحيانا والنزق في أحايين أخر؛ فجعلت من أحدنا جلفا خشنا في صيغة تفاعله مع مقترح أو بادرة حسنة النية طيبتها. ويزيد من هذا التأثر السلبي، ما نعتقد به من أفكار فإن مال أحدنا نحو القطبية الأحادية، المتعارضة بالتأكيد مع الاعتراف بتنوعنا الإنساني وتعدديته، فقد يصل مستوى تكفير الآخر ليس دينيا حسب بل وسياسيا وفلسفيا فكريا واجتماعيا سواء جاء التكفير بإسقاط العصمة على الذات أم بتوهم في مناقضة الآخر لنا وإضماره الشر بنا أو جاء التكفير ناجما عن محاولة إلغاء الآخر ومصادرته كسبا لمكان ومكانة ولحرب نتوهم صواب موقفنا فيها، لمجرد ادعاء خدمتنا المقدس كالنص الديني أو من نؤمن بعصمتهم وقدسيتهم، وهو ادعاء ليس بالضرورة صائبا من عدد من المداخل.. والأمر يشملنا جميعا ولا أقول كافة، أقصد أنّ احتمال وقوع أيّ منا به أمر وارد سواء كنا من فريق فكري واحد أم من فريقين متناقضين...
وللذكر لابد من القول: إنّ من يخوض في الشأن العام بحاجة لسمة التواضع والقبول بالآخر. لأن النظرة الاستعلائية جوهريا تلغي صحة ما نطلقه وإن كان صوابا في أصل وجوده المستقل، ولكنه الغلط المتأتي من وقوع الصائب في غير موضعه. أما القبول بالآخر فهو بديهة لانطلاقه من وجود بصمة مستقلة لكل منا لا يمكننا إنكار خصوصيتها واستقلالها. ومن الطبيعي أن تتفاعل هوياتنا الفردية المتعددة ثم هوياتنا الفرعية المتنوعة المتعددة بعضها مع بعض لتشكل الهويات الإنسانية المركبة..
وإجرائيا، نلاحظ في المجموعة أو المنظمة الواحدة من يقترح حلولا ومعالجات ولكنه يُفاجأ بردود تنكأ فيه جرحا لا علاقة له بأصل المقترح لأنَّ الردَّ يأتي في موضع آخر يحمل الريبة والشك بدل الثقة وربما يحمل زعم أن المقترح من صاحبه يشكل تهجما مبطنا وليس معالجة لقضية!؟ وقد يكون هذا مما يحصل هنا أو هناك ولكنه ليس أمرا مطلقا ولا يعقل أخذه بهذا المحمل بإطلاق الأمور على عواهنها وبلا شروط ومحددات..
فأي حوار يمكن أن يتم في إطار جمعية أو منظمة وكلما تقدم طرف بمبادرة قابله الآخر بخطاب يبحث عن خفايا متوهَّمة متخيلة بذهنية ظنية مريضة. وبدل استقبال المبادرة لإدارة حوار ينضجها يجري قطع الأمور وتحويلها باتجاه سجالات بيزنطية وسفسطة جوفاء بعيدة عن أصل الموضوع وعميقا في جوهر تصعيد معاني الاختلاف وتحويله لخلافات تناقضية مشخصنة بين ذوات تتوهم الاحتراب وتفتعله إحداها عن قصد أو غير قصد ولا دراية.. وفي أفضل الأحوال يصمت المبادر تجنبا للتالي من الإساءات والتالي من الانحراف عن أصل مبادرته وجوهرها وابتعادا عن الاحتراب السلبي الذي يخرب ويهد الجمعيات والمنظمات والجماعات والصداقات.. وربما سحب مقترحه سواء كان صائبا وكان ينبغي اعتماده أم خاطئا وينبغي الاستفادة من تجربة من بيَّنَ وينبغي أن يبيّن الخطأ فيه..
إذن، وقد بدأت في قراءة ما يتعارض والحوار بالأصدقاء والزملاء وبأعضاء المنظمة الواحدة وأصحاب الالتزام الفكري الواحد، لابد من القول إن الأمور ليست مقصورة على المتناقضين فكريا عقائديا.. ولكنها بسبب من الشيوع والانتشار ولأسباب أخرى قد تصيب أقرب الناس بعضهم إلى بعض.
أما عندما نتجه إلى حيث المصيبة الكارثة.. وأولئك الذين يتسقطون الأخطاء والهفوات مهما صغرت نكاية بالآخر، فإننا سنجد العجب العجاب. والمشكلة أن بعضهم يقدم مقدمات تتمنطق بالموضوعية وفي ذات الوقت تنزع عن الآخر موضوعيته. وما زلنا في حقيقة الأمر لم نرتقِ إلى مستوى الابتعاد عن الشخصنة وإلصاق الخطأ في موضوع بعينه بالخطأ في الشخص ووجوده أو إلحاق الخطأ برأي بالنقص فيمن أبدى الرأي، وربما بصيغة أخرى أبعد سوءا، بالانتقاص من الشخص لأنه أبدى رأيا غير صائب!
في الحوار، الأصلُ أن يوجد طرفان وأن يعترف كل طرف بالآخر في كينونته إنسانا، يتساوى في الحقوق والالتزامات، حيث الأنا والآخر، يتداول كل منهما الفكرة بآلية تنهج لإنضاج الأكثر صوابا ومناسبة وصحة. لكن الادعاء والزعم ما زال سيد الموقف. فأحدهم يدعي ويزعم موضوعيته ومن غيره ليسوا كذلك!؟ وإذا تفضل وتقدم بفكرة وأمر خارج الشخصنة والاتهامات وأشكال التعريض والتجريح فإنه يتوقف عند وصفيات إنشائية من مجموعة أوهام لا علاقة لها بمجريات الموضوع في خلط للأوراق وابتعاد عن الدقة والموضوعية.
فالقائد الضرورة يتحدث عن فوزه بالانتخابات بنسبة 100% وعن انتصاراته في الحرب وهز الشوارب فيما قوات الاحتلال تدوس آخر معاقله في قصره.. واليوم يتشدق بعضهم بأنهم حصدوا الأغلبية بالانتخابات ويصفون انتخاباتهم بالديموقراطية على الرغم من أن فدائيي الملابس السود هم أنفسهم الذين يرتدون طاقما جديدا مع اختلاف بتصميم الزّي ولونه.. فالميليشيات التي كانت تفرض التصويت انقسمت لتظهر لنا التعددية وتفرض تقسيما ومحاصصة بتوزيع الأصوات ديموقراطيا! ومن ينتقد ويحاول كشف الأوراق كالمعتاد يجري تخوينه ووضعه في خانة العمالة والتهم الجاهزة ما يشيع اليوم هو تهمة الإرهاب.. وبعد أن انتهينا من مواد تخوين أعداء القائد الضرورة، بتنا مع أعداء ديموقراطية السيد والولي الفقيه المعصوم والمادة 4 إرهاب جاهزة مثلما كانت المادة 41 ايام زمان...
لست أفهم كيف يمكن للديموقراطية أن تتحدث عن الزعيم الذي لا بديل له. وعن حق التمسك بشخص وجعله هو الثابت وكل ما عداه يحكم عليه في ضوء ابتعاده عنه أو اقترابه منه بمعنى الخضوع له.. والحكاية تتعلق بأنصار السيد رئيس [مجلس] الوزراء، نوري المالكي وغيره ولكننا هنا بشأن السيد المالكي من دون هذا الغير.
في مختلف بلدان العالم عند حدوث واقعة يذهب فيها ضحايا لإهمال أو نقص أو ثغرة في عمل مسؤول يستقيل أما نحن وعشرات يتهاوون يوميا فليس من يستقيل ولا من يقبل النصح والشراكة في رأي وجهد! إننا مرة أخرى مع شخصية لا ترى الحل إلا في فردنة القيادة وجعلها بأمره الخاص المنفرد واحتكار كل المسؤوليات الأمنية والعسكرية وغيرها أيضا ولا حوار إلا في ضوء هذه الأساس المفروضة مسبقا والمحسومة سلفا...
هنا أتحدث عن أقلام طبالي السلطان حيث يبررون له ويهاوشون عنه بخلط الأوراق فأنت عندما تسرد الوقائع بالمختصر المفيد أو بتفاصيله وتتحدث عن المآسي الجارية يوميا بحق البسطاء من أبناء الشعب يحيلون جرائم التقتيل ملقينها على (الإرهاب) كما يلحقون الإرهاب بقائمة انتخابية مقابلة بل يحملون (طائفة) باكملها بالأمر ويعدونها حاضنة للإرهاب! وحين تتحدث إليهم محاورا بأن وهم الطائفة هو مجرد اختلاق فرضته أحزاب الطائفية السياسية فيما المجتمع العراقي يتركب من نسيج اجتماعي موحد بنته مسيرة تاريخ من 10000 سنة ومن حوالي القرن من نشوء الدولة الحديثة، يتغافلون عن هذا ويتحدثون عن شرعنة الصراع الطائفي باستبدال أحزاب الطائفية السياسية واقتتالها بالشعب حيث يوصف الشعب بكونه (طائفة) سنية وأخرى شيعية وأنهما محتربان بدليل الاقتتال الذي يديرونه بأنفسهم وبأدواتهم...
لا يمكن للحوار أن يبدأ بين قوى يقوم وجودها على لغة التقاتل والتناحر.. كما لا يمكن للحوار أن ينطلق بين هذه القوى بطرفيها الرئيسين وأطرافها الفرعية من جهة وبين ممثلي الشعب الحقيقيين.. بالمناسبة هؤلاء المنفرط عقدهم بلا تنظيمات جدية فاعلة موحدة ترتقي لمستوى مهمة تنظيم مجابهة عمليات تفكيك المجتمع وتوزيعه بصيغة حصص بين أحزاب الطائفية السياسية!
إن القوى المدنية، الوطنية الديموقراطية لا تمتلك حتى اللحظة صلاتها المباشرة بجمهورها العريض بسبب من اعتقال هذا الجمهور في سجون الطائفية السياسية: وهذه السجون موزعة بين التصفيات الجسدية وإرسال الناشطين إلى غياهب الموت أو وضعهم خلف قضبان سجن فعلي أو قضبان الحصارات والتصفية المعنوية عبر عشرات من الفضائيات والحصف ومئات الأقلام المشتراة حيث دور الفساد ومهام المال السياسي. أما السجن الأوسع فيكمن في إحالة الوطن إلى سجن كبير عندما يعتقلون الشعب ويوزعونه على غرف هذا السجن أقصد الكانتونات الطائفية المفصلة على وفق ما يشرعن لأحزاب الطائفية وميليشياتها ويبيح لها جرائمها...
لا حوار بين قوى الديموقراطية والسجان الطائفي لأنه سيدخل في لعبة شرعنة تحكّم الطائفي بالنظام العام وتجييره لانتهازية السرقات والفساد وأفعالهم الإجرامية التي لم ولن تجد حسابا فعليا ما لم يتغير النظام برمته ويتحول إلى نظام المؤسسة والقانون وحرية الناس وانعتاقهم من سطوة التقسيم بكانتونات الطائفية المحتربة...
الحوار يقوم بين القوى الديموقراطية والمجتمع المدني وفعالياته من ممثلي الفئات العريضة من نصف المجتمع (حيث النساء) المستعبدات هذه المرة لا في أجورهم وتعطيلهن عن العمل المنتج بل حتى في أجسادهن التي باتت تباع وتشترى في سوق (المتعة) الحلال لمشايخ الفتاوى الجاهزة وقشمريات التأسلم المزيف الكاذب. والحوار يجري مع ممثلي الشبيبة وبهم حيث مكانهم في قيادة التغيير.. والحوار مع القوى التحررية الممثلة للمجموعات القومية والدينية التي استبيحت طويلا والتي ارتكبت بحقها جرائم الإبادة الجماعية وغيرها من جرائم ضد الإنسانية...
الحوار لا يجري مع قوى لا تعترف بالآخر إلا تقية وتسترا على مسيرة تمسكن حتى تتمكن.. والحوار لا يجري مع من يهيئ لجرائم قمعية جديدة فضلا عن جرائم الاستبداد والقمع الجارية بوساطة ميليشياته والقوات الشرطوية المجيرة لحزب وآخر من أحزاب باتت تسفر عن طبيعتها الشمولية التي لا تعترف بتداولية ولا بآليات ديموقراطية سوى تلك التضليلية التي تعود بها للكرسي وسلطته مجددا...
إن تلك الجهات لا تنصح ولا تناشد، ولكن تجابه بمطالب الشعب الحر ويجري معها حوار النضال الوطني وكفاح المسيرة الديموقراطية حتى تستطيع القوى النزيهة الممثلة للشعب حقا أن تفرض مطالب الشعب وحقوقه وتلبي حرياته وتبني النظام المعبر عن تطلعاته في دولة مدنية ديموقراطية تحترم التنوع والتعددية ومبدأ تداول السلطات ووحدة البلاد ديموقراطيا فديراليا بلا إكراه ولا خطابات شوفينية استعلائية أو استعدائية تحريضية قمعية...
الحوار يقاطع قادة مثلث الطائفية الفساد الإرهاب ولكنه يتجه إلى جمهور اعتقلته هذه القوى ليس بالقوة والعنف حسب ولا بالمال السياسي بل بالتضليل واستغلال التجهيل ومنع وصول الحقائق إلى هذا الجمهور بما يشل إمكانات اتخاذه القرار الصائب أو يمنعه عن اتخاذ هذا القرار.. إنه يتجه إلى جمهور يستحق الحياة الحرة الكريمة، يستحق العيش بأمن وأمان وفي ظل السلم الأهلي المنشود.. وهو جمهور بالأساس يعيش روح الجيرة والعلاقات الإنسانية الصادقة في إطار الوطن ولكنه لا يسمح له بهذه العيشة لأن ذلك يزيح قادة الطائفية الفساد الإرهاب عن السلطة والتحكم بالمجتمع..
إذن لابد من التفكير بكسر الحواجز بين القوى الديموقراطية وضمنها قيادات المجموعات القومية والدينية المهمشة المصادرة في حقوقها ووجودها وبين جمهور الشعب الماسور.. لابد من التحدث مباشرة إلى تلك الجموع لإعلامها بالحقائق من جهة ولكشف التضليل الواقعة فيه وفضح الأسر الذي يعتقلها ويجيرها لمصالح انتهازية مرضية معادية لوجودها.. لابد من تعريف فئات عريضة بأن ما تتطلع إليه لا يكمن في الاستكانة لقيادات الطائفية الفساد الإرهاب ولا يمكن لوعي الشعب أن ينحدر عما يعاني منه من آلام ومواجع وانعدام خدمات وجرائم تفتك به..
الحوار المفتوح ليس بين ديموقراطي وآخر ولكن بين الديموقراطي وجمهوره الحقيقي الماسور هناك.. يجب أن نساعد الناس على التحرر من اسرهم خلف أسوار الخرافة وتضليلها. يجب أن يعرفوا أن الفقر المدقع ليس قسمة من الله بل جريمة ناجمة عن سياسة استغلالية وبأن انعدام الأمن والسلم الأهلي ليس لاندساس فرد أو آخر في الأجهزة الأمنية ولا لجريمة إرهابي بل هي لفشل قيادة الطائفية الفساد في الانفصام عن الإرهاب رديفها والمكون الثالث لقوى الجريمة المتحكمة برقاب الناس..
الحوار المنتظر يمتلك أصوله من صواب اختيار أطرافه ومن صحة اختيار أساليبه وبرامجه ومن دقة توالي إجراءاته.. وهذه ليست سوى تداعيات آمل أن تستطيع إثارة محاور وأسئلة ترقى لمطالب الأبرياء من ضحايا مثلث الطائفية الفساد الإرهاب والانعتاق من إسار قادة الجريمة الجارية بحق العراقيين جميعا... فهل من حوار إيجابي بناء يثمر؟