عسكرة وتسليح، وليس من إجابة للشعب تريح!
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
من يتابع الأخبار المعلنة وتلك الأخرى التي تحاول التخفي عن أعين الشعب المستباح والتفنن بالسرية على ممثليه؛ يرصد جهودا محمومة باتجاه صفقات التسلح الكبيرة منها والصغيرة. فصفقة تخص البنادق والمدفعية وأخرى تخص الدبابات وثالثة تخص طائرات الهليكوبتر ورابعة تخص الطائرات الحربية القتالية وخامسة وسادسة بمتنوع الأسلحة في السوق الدولي! ورئاسة (الحكومة الاتحادية) التي تحتفظ بوزارة الدفاع والداخلية لا تميز بين دول شرقية وأخرى غربية في الصفقات.. فأوكرانيا وروسيا والصين من هنا وفرنسا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية من هناك ولا تستثنوا دولا ليس لها ناقة ولا جمل في سوق التجارة الدولي إلا أنها مشمولة هي الأخرى بصفقات شراء الأسلحة الخردة طبعا!!
الدول ترى أنَّ أساس الأمن فيها هو الارتقاء بالوضع الاقتصادي وحل مشكلات الفقر والبطالة والارتقاء بالوعي والثقافة ومستوى المعارف والعلوم، بتحسين نظم التعليم المدرسي والجامعي ثم أخيرا تنتقل إلى الشرطة والجيش وميزانيتيهما. وكثير من الدول باتت تتجه لمعاهدات التعاون وحسن الجوار واتفاقات السلام وتطبيع العلاقات والانضمام إلى الأسرتين الإقليمية والدولية من بوابة القانون الدولي وحفظ السيادة عبر الدبلوماسية ومفرداتها وكل ماعدا السلاح والحرب... ونحن هنا نتحدث عن دول مستقرة وقليلا ما تعترضها المشكلات!
أما في العراق، الخارج من ويلات حروب، الداخل في أزمات نتائجها؛ وفي هزات الدمار الشامل لقوانا البشرية والخراب الشامل لجغرافيا الوطن، فإنَّ حكومته (المنتخبة) من أجل إعادة إعمار الوطن والناس، لا ترى الإعمار يبتدئ بأمر يخص إعداد العقل العلمي ولا تحديثه وعصرنته.. ولا تراه في بناء مدرسة أو جامعة ولا في تلبية بناء مستوصف أو مؤسسة ماء أو كهرباء وإنما ترى البداية بالمقلوب؛ إنها تراها تبدأ من المؤسستين (الأمنية) و (العسكرية).. ولكن السؤال الذي يفرزه الواقع بعد كل صفقات السلاح تلك وبعد كل الأموال المليارية المصروفة: أين كل تلك الملايين المنضوية تحت المؤسستين وظيفيا؟ وأين أسلحتهما بمواجهة الاختراقات الأمنية التي مازالت تطيح بعشرات الضحايا البريئة يوميا إن لم نقل مئاتها؟
ثم هل حقا أنّ كل الأسلحة التي تُشترى توضع بأيدي (رجال) المؤسستين؟ أم أننا بمجابهة واقع جديد يتمثل في شرعنة وجود قطع السلاح في البيوت كما تجسد بقرار رئاسة (مجلس) الوزراء!؟ الأنكى في الأمر وجود أسلحة متوسطة بل ثقيلة أيضا بأيدي ميليشيات منفلتة تابعة لأحزاب وحركات (رسمية!)؟
إنّ المشكلة ما عادت كما كانت في عهد الطاغية السابق بعسكرة المجتمع عبر جعله في سلم الأولويات التالي بعد الجيش والشرطة ومؤسسات الأمن عفوا (القمع)؛ ولكنها باتت أيضا عبر تسليح قطعان من الصبية المجهَّلين، مغسولي الأدمغة، المهيّئين بـ (ثقافة) العسكرة والسلاح (ثقافة) العنف وهمجية استعداء أولئك الزعران على مجتمعهم!
العسكرة ليست زيادة في الانفاق في الموازنة العامة على الجيش لضرورة يقرّها المجتمع نفسه ومنطق الأمور، ولكن العسكرة التي نحن بصددها، هي حال من بروز ثقافة بعينها وطغيانها على برامج أحزاب الحكومة الاتحادية وإشاعتها مجتمعيا بطريقة تجعل من أبسط الاختلافات بين طرفين رهن المجابهة العنفية (المسلحة) بأسلحة تتناسب وحجم الطرفين (عسكرتاريا)! والغلبة في ميادين الصراعات العنفية للأقوى تسليحا والأكثر مرانا عسكريا...
العراق من قبل هذا وبعده، بحال مزر من الوضع الإنساني.. نسبة الفقر على وفق إحصاءات حكومة العسكرة هي قريبة من ربع السكان [مع إخفاء حقيقة النسبة التي تصل نصف السكان].. وهي في القسم العربي تصل ببعض المناطق إلى 89% أي أنّ من يمتلك القدرة المادية للعيش لا يزيد على 11% فقط ربما أغلبهم من مجموعة المنتفعين الطفيليين الجدد من الانتهازيين! أما جمهور الناس فلا حول ولا قوة لهم!! وطبعا في مثل هذه الأوضاع وشيوع الفقر وسوء فجوته بكثير من المناطق سيكون إرسال الأبناء إلى الميليشيات وسلكي الشرطة والجيش اضطرارا مباحا!؟ وسيكون قيادهم أسهل!
البطالة الكاملة والمقنعة هي الأخرى تحتل نسبة على وفق حكومة أولوية الجيش والشرطة، تصل إلى 30% وهي في الحقيقة تتجاوز الثلثين من طاقة العمل الفعلي وربما تزيد بحساب تعطل الصناعة وخراب الزراعة.. فإلى أين يرسل الأبناء من أجل لقمة العيش؟ اضطرارا مرة أخرى إلى الجيش والشرطة والميليشيات...!؟
طلبة المدارس لا تستوعبهم المباني الخربة المتاحة.. وخريجو المدارس لا يحظون بمقاعد جامعية بنسبة تتجاوز ثلثهم والتسرب بالنتيجة فضلا عن تخريج أنصاف المتعلمين وأميين معرفيا ثقافيا سيكون سببا للانخراط في التجييش والعسكرة دع عنك عسكرة مؤسسات التعليم والعمل أيضا....!؟
إنَّ البلاد والعباد ليسوا بحاجة لمزيد من أطنان سلاح يأتينا من سوق الخردة الدولي ومن الأجهزة المزيفة وما يحمل أشكال الخلل والنقص الخطير كما في فضيحة أجهزة الكشف عن الأسلحة التي تمثل عبثا ولعب أطفال مازالت مستخدمة حتى بعد انكشاف الأمر! وكما فيما ورد من أسلحة من أوكرانيا ودول شرقية أخرى وكما في الطائرات الكندية وعبث مستمر من خردة السوق الدولي مقابل مليارات الدولارات والأتاوات والرشاوى التي تمر إلى جيوب المستفيدين.. أما العراق وجيشه فلا شيء ومازالت الحدود غير محمية والسماء فضاء مباح ومياهنا فخ لصيادينا تعتقلهم دول الجوار حتى من مياه موانئنا!
أية قشمريات عن أسلحة تشتريها الحكومة؟ وأية قشمريات عن جيش تصطنعه فيبلي (بلاء حسنا) بساحات تظاهر الشبيبة والاعتداء على البيوت الآمنة في المداهمات العشوائية الليلية والنهارية فيما لم يصد خرقا لحدودنا لا في مياهنا حيث تم ويتم اعتقال صيادينا وزوارقنا المتخلفة لا سفن لنا! ولا في أراضينا حيث سرقة حقول النفط جهارا نهارا وحيث تغيير العلامات الحدودية وحيث القصف الذي طاول مدنا وقصبات تم تهجير سكانها وتخريب مبانيها ومزارعها وليس من يتحدث!؟
عسكرة المجتمع إذن.. وتسليح الجيش.. لم يأتِ منه لا حماية حدود وسيادة ودفاع عن الشعب ولا ضمانا لأمن هذا الشعب في ميدان أو مؤسسة أو حتى في بيت! العسكرة والتسليح حتى هذه اللحظة مجهولة الهدف؛ وفي الحقيقة هي تحاول أن تخفي الأهداف.. ولكن توجيهها إلى صدور أبناء الشعب وبناته في ميادين خرجوا فيها للتعبير عن أنفسهم ومطالبهم يعني أنها ستتسع في الغد لتعيد جريمة الإبادة الشاملة وتكتسح مدنا وقرى يجري التهديد ليل نهار بأنهم سيطالونها لأنها لا تخضع لأوامرهم ولجرائم فسادهم وسطوة إرهابهم.. إن التصريحات الرسمية والرسائل الرسمية (لمن يتربع اليوم على هرم الحكومة الاتحادية) تم توجيهها إلى كوردستان والتداعيات تشير إلى أن الأوضاع الإقليمية تشي بنُذُر حرب جديدة إذا ما أتيحت أو حانت الفرصة!!
فلا تأمنوا لمن يتسلح اليوم بطائرات وعتاد ليس لحماية السيادة ولا قدرة لها في الاعتراض على اعتداءات على الحدود.. لأن تلك الأسلحة يجري اختزانها ليوم هو نذير شؤم آخر، تجري الاستعدادات له في أجواء محمومة مما يسمى عسكرة المجتمع والدولة!
لا تأمنوا لعسكرة يغذون السير ليل نهار للانفراد بقيادتها.. ولا لعسكرة ليس فيها ما يطعم جائعا أو يمنح فرصة عمل منتج لإنسان.. إنها عسكرة تعني استغلال الناس، جموع الناس في سحق جموع أخرى؛ والعاقبة لمن اتعظ من دروس عشناها بالأمس القريب الذي مازال يحيا بين ظهرانينا بوجوده وكلكله ووطأة أوجاعه وآثار جرائمه..
لنقل معا وسويا. لا لاستمرار ميليشيات أحزاب الطائفية السياسية ونزعاتها ومخططاتها للاقتتال. لا لعسكرة المجتمع. لا لعسكرة مؤسسات الدولة. لا لأولوية الجيش والشرطة وثقافة استعدائهما على المجتمع. لا لأسلحة خردوات السوق الدولي. لا لأسلحة الفساد وجرائم السرقة والنهب.
إن بناء الجيش الوطني والشرطة الوطنية سيكون مفردة داخلة في ثقافة بناء الوطن واستعادة عافيته ببناء الإنسان وثقافته وبتوفير الخدمات وفرص التعليم والعمل وبأولويات إطلاق الدورة الاقتصادية ومشروعاتها الاستراتيجية وبتوجيه الجيش والشرطة لأداء قانوني يحترم الحقوق ويدافع عنها ويتصدى لمهماته في حماية السيادة والنظام الفديرالي داخليا دستوريا وخارجيا ضد من يحاول الاعتداء على العراقيين ووطنهم الحر المستقل. فـ نعم لإعادة إعمار العراق، و لا لعسكرته ولا لاستعداء جيشه وشرطته ضد مواطنيه وتركيبته الفديرالية.