الحلول السياسية في العراق بين التكتيك والاستراتيج
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس سجامعة ابن رشد في هولندا
مشكلاتنا في التغيير ليست كلها ناجمة عن ممارسات وضغوط عدائية خارجية منها أم داخلية، بل هي أيضا ناجمة عن دقة معالجاتنا من عدمها وعن برامج الحلول التي نضعها للأزمات وما تتطلبه تلك الأزمات من تفاعلات، وهي ناجمة عن تكرارقوى التغيير إيقاع نفسها في خانة ردّ الفعل بدل أن تكون في موضع الفعل وتوجيه مسار الأزمة.
ولإدارة زمن الأزمة، لابد من قوى تمتلك صائب البرامج كيما يخرج الشعب منها بأقل التضحيات والخسائر. كما أن الشعوب لا تنتظر ولا يوجد بينها مَن يستهويه تقديم القرابين البشرية بخيار منه سوى أعداء البشرية.
وعراقيا، منذ هزيمة النظام السابق في منازلته العسكرية مع القوات الأجنبية سنة 2003، تطلع الشعب من جهة إلى البديل معوِّلا على القوى الوطنية الديموقراطية. لكن مجريات الوقائع فرضت اتجاها مخالفا لتطلعات الانعتاق وجاءت تداعياتها بصراعات أزموية نجمت عن سطوة ثالوث ((طائفية، فساد، إرهاب)) وإقصاء قوى وطنية وديموقراطية بعيدا عن مشهد الفعل ورسم البرامج للخروج بالبلاد من آثار ذاك الثالوث المرضي المتأتي من مخلفات الأمسين القريب والبعيد ومن عوامل الضعف الذاتي في تنظيم قوى البناء الوطني وإمكاناتها المتواضعة في ضوء استمرار عمليات المصادرة والاستلاب وإنْ كان بطريقة مختلفة، شكليا في الأداء...
إن قراءة سياسة بعض القوى في إطار حكومة الشراكة، يكشف أنها كانت مخترقة بنيويا. وقد نجم عن تفاعل الاختراق البنيوي مع خطل فلسفة الطائفية وسياساتها وبرامجها، تنامي اهتزاز الثقة بين أطراف الشراكة وربما دفع هذا شخصيات وزعامات بعينها للجوء إلى تحصينات توهمت أنها بوساطتها ستضمن نتائج أفضل لإدارتها الأزمة ومن ثمَّ وهم ضبطها الأمور وتوجيهها نحو الاستقرار..
ولكن النتائج، على الأرض مجددا وطوال السنوات التسع، أثبتت خطل تلك البرامج وما قدمته مما اُفتُرِض أنه الحلول؛ مثلما برهنت على رفض المجتمع لما تمّ التوهم أنه (تحصينات) فيما جوهرها ليس سوى استيلاد استبداد آخر بوجهه الكالح حيث آليات تلك التحصينات قامت على الانفراد بالسلطة وإقصاء الآخر الأمر الذي يعيد تجسيد نظام الدكتاتورية..!؟
والآن، فإنَّنا نرى الشعب قد خبر بالملموس أوضاعه المزرية.. واستنتج عبر معاناته الأسباب الحقيقية وراء كوارثه ونوازله؛ ونرى موقفه الذي عبر عنه لا في ردوده المطلبية بل في تحوله من المطلبي المحدود إلى انتفاضة عارمة تلك التي شهدناها في 25 شباط العام المنصرم. ولكننا بالمقابل ما زلنا نشاهد استمرارا لضعف خطير في الصلات بين القوى الوطنية والديموقراطية وبين الوجود الشعبي العريض سواء في هزال البنى التنظيمية والتحالفات المنتظرة أم في البرامج والخطط التي يمكنها استقطاب قوى سياسية أو حشد قوى جماهيرية حولها، بما ينقلها من التنظير إلى الفعل في الظرف الراهن..
إن التوازنات القائمة مازالت تنمُّ عن اختلال لصالح سطوة الثالوث المرضي في البلاد. ولم تنجز القوى الوطنية الديموقراطية أدواتها في التغيير الذي يتطلع إليه الشعب. وحيثما بقي الشعب محبطا من قدرات التغيير بخاصة في ضوء خسائره الميدانية يبقى الوضع العام تحت سطوة قوى ماضوية التفكير سلبيته...
وبـِ رصد المعادلة التي يستنطقها عنوان معالجتنا، سسنجد أن بعض القوى الديموقراطية مازالت لم تعلن قطيعتها الحقيقية مع عناصر الفشل. وقد اختارت توقيتا سلبيا في لقاءِ من تسبَّب في اخفاقات الحكومة الاتحادية فذهبت إليه ساعية بلقاء استعراضي لا يقف عند كونه لا يغني ولا يسمن ولكنه يندرج في خانة مَنْ يجيره لصالح رئيس الحكومة وسياسته التي أوقعت الشعب والوطن في مآزق خطيرة..
إنَّ اللقاءات والحوارات لا تنحكم بمضمونها حسب بل يأتي شكلها ومستواها وتوقيتها أيضا ليسجل اتجاه محصلتها الفعلية. من هنا فإنه في وقت كان ينبغي [ومازال الأمر كذلك] تشديد الضغط لوقف سياسة انفراد بتوجيع الحكومة الاتحادية خرجت علينا دعوات الموازنة والحيادية بين أطراف الشراكة وهذا في جوهره أمر خطير إذ يفيد يوحي بالوقوف على قارعة الطريق ورصيفه خارج المعركة الفعلية كما يوحي بالتنصل من مسؤولية التصدي للمهام المباشرة...
وفي ميادين الفعل والعمل لا مجال لحياد بيني طرفين؛ ولابد من حسم الموقف بتحالف ربما تفرضه تكتيكات الأحداث ومجرياتها. لأنّ المواقف الحيادية لا تعني السلبية بحجمها البسيط بل تعني العزوف عن ممارسة جهد مباشر يراه الشعب بالملموس ويحدد عبره موقفه التالي. كيف يمكن لقوة أن تمضي إلى أمام من دون تحالفات تنقلها لمواقع تشغيل برامجها البنائية..؟
إنّ الاشتغال على علاقة مباشرة مع جهات تتناقض فكريا سياسيا يمكن أن يجري عن طريق محدد العلاقة مع المؤسسات التنفيذية التي تحكمها سياسة مطلبية تعبر عن مطالب الناس في تفاصيل يومهم الملتهب، لكنها لا تأتي من علاقات ولقاءات تقبل التجيير لمصلحة زعامة ورَّطت الشعب ومؤسساته بفشل أوقع الجميع في مآزق تاريخية. إذن فالمجابهة الصريحة وقطع أي شكل للحوار ما لم يخضع لمطالب التغيير الكاملة..
لا وجود اليوم لما يسمى حوار وطني بين الكتل العاملة. وللحوار مع كتلة القانون ومنها تحديدا الدعوة لابد أن نلاحظ بعين فاحصة بصيرة طبيعة العمل داخل تلك الكتلة وتطورات المواقف في قيادة الحركة وعلاقتها بمطالب قواعدها وهي أمور اهتزت واكتنفتها الشروخ الخطيرة. وليس لقوة ديموقراطية أن تقبل لنفسها السير بطريق مؤداه دعم زعامة أخذت سنوات وفرصا متوالية من التجريب في شعبنا وأطاحت بعملية البناء وشاع في ظلها الفساد والإرهاب. ومن هنا فإن اي حوار وطني تكتيكيا واستراتيجيا لا يمكنه أن يتضمن القبول بشخصية فشلت في تصديها لمسؤولياتها ولا نحكم الشعب وتضحياته بمجاملة أخرى على حسابه! لأننا بذلك نشارك في جريمة وليسس في خطأ قانوني...!
الصفحة التالية، من مهمة سحب الثقة وطنيا شعبيا أي من قوى المعارضة الديموقراطية لا تقبل بلقاءات مباشرة في هذا التوقيت من الصراع السياسي. ولكنها تفرض واجبات التصدي الصريح المكشوف باسم القوى الشعبية. ربما لقوى الشراكة المحكومة باتفاقات رسمية مؤسسية بمستوى العمل الحكومي أن تستمر بتفاعلات مباشرة مهامها بالتوازي مع كشفها لما يجري من ممارسات وأخطاء خطيرة لكنه لن يكون مبررا للقوى الديموقراطية التي ظلت في حال إقصاء أن تعود للقاءات مع أطراف الفشل في أداء الحكومة الاتحادية.
إن تلكؤ عملية سحب الثقة برلمانيا لا يعود لعدم التوصل إلى العدد الكافي من أصوات القرار ولكنه يعود كما يعرف الجميع لضغوط خارجية مباشرة وأخرى بأدوات محلية على عدد كبير من الأطراف ومن أعضاء البرلمان الأمر الذي أودى بإمكان تحقيق سحب الثقة الآن. كما أن حال التردد لدى قوى المعارضة خارج البرلمان وأبقاها على خط شعاراتي ربما يصح بمنطقه الاستراتيجي إلا أنه أبعدها عن الاشتراك بالجهود الرامية لتحقيق سحب الثقة بوصفها خطوة تلبي تفعيل الدور المؤسسي التشريعي الرقابي بمعناه الواسع وتوقف فرص الانزلاق لاستبداد جديد فيما تؤكد سياسة تتجه لمأسسة العمل...
لقد نأت بعض القوى عن الصراع بين الكتل على أساس كونها البديل الاستراتيجي وأن طبيعة الكتل جميعا واقعة في خانتي التعنصر الطائفي أو القومي؛ وما كان هذا صحيحا في الأداء. ومن هنا يلزم مراجعة أداء القوى الديموقراطية في توزيعها مفردات فعلها بين التكتيكي والاستراتيجي، إذا ما أرادت أن تنهض بمهامها بمباشرة العمل ميدانيا بوقائعه وبالعمل في الشارع لا من على الرصيف...
إن أول الطريق للتغيير يبدأ من تحالفات متاحة وممكنة وضرورية أولها التحالف مع الحركة التحررية الكوردية والقيادة الكوردستانية كونها اليوم القوة المكينة فعليا لدولة مدنية مؤسسية في عراق ديموقراطي فديرالي جديد يلبي مطالب الشعب في مسيرة البناء وهذا لا يمكن أن يتم في ظروف التردد من جهة ولا في ظروف التعامل مع الآخر بلقاءات يجري تجيرها سلبيا...
الحوار الوطني، والنجاح الذي ينتظره محدد الأطراف واضح في برامجه وفي جدول أعماله. وفي وقت يجري إقصاء قوى الديموقراطية ومحاصرتها فإن الفعل لا رد الفعل هو الحل.. ورد الفعل أن نوقع أنفسنا في حوارات [ولقاءات] غير محسوبة بينما الفعل يكمن في أن نعزل شعبيا من اتجه إلى تخليق الاستبداد مجددا. وهذا الأمر طريقه مشمسة وإن كان وعرا السير في تياره إلا أنه الأكثر نضجا في معالجة قضاياه باتجاه أفضل الحلول... وسيجد من يختاره التفافا شعبيا وقدرات مضاعفة للتأثير في الحدث وتوجيهه.
ولمعالجتنا بقية