الشعب سحب الثقة من المالكي بتظاهرات التحرير.. فمتى يستجيب البرلمان لقرار الشعب ويسحب الثقة منه؟
سحب الثقة طالبت به التظاهرات الشعبية وتم الالتفاف عليها بوعد المائة يوم.. فهل ينتظر سحب الثقة النيابي وعودا تلفلفه؟
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
طوال تسع سنوات عجاف من الخلل والمشكلات المعقدة ومن عجز تام عن تلبية مطلب حيوي للشعب، كان المشهد السياسي المؤسسي يتعكز على ترقيعات أجلت دائما لحظة التغيير النوعي الذي يمكنه أن يرتقي لمطالب الناس وأن يحولهم من واقع ضحايا النظام إلى بناة النظام البديل الجديد.
وعندما خرجت الجموع في مظاهرات مطلبية محددة كانتفاضة الكهرباء أو احتجاجات نقابات النفط والموانئ جوبهت ليس بقمعها حسب بل بالتهديد باستخدام ((الجيش)) ضدها إذا ما تكررت.. وأبعد من ذلك صودرت النقابات بقوانين النظام السابق الذي لا يعترف بوجود عمال! ولكن الشعب ردّ بتصعيد احتجاجه لمستوى وطني عام لم يتحدد بالشؤون المطلبية بل بتحميل أداء الحكومة الاتحادية بشخص رئيسها المسؤولية وتحديدا في مطالبة الاحتجاجات بإقالة رأس الحكومة المنفرد بالسلطة من جهة والمحاول إعادة شكل للاستبداد وآليات عمله...
والتف السيد رئيس [مجلس!] الوزراء على الأمر بوعد المائة يوم. وطبعا لم تكن المدة أغنى من السنوات، بمئات أيامها وآلافها، كافية للسيد المالكي؛ وبهذا نسيت الناس مواعيد عرقوب وباتت تتحدث بوعد المالكي بل تعهداته ووعوده!
لقد أعلنت جموع الشعب سحب الثقة من المالكي بأعلى صوت. ولكن البرلمان اختار مساءلة وزراء في حكومته قدمهم كبش فداء لتمسكه بالكرسي الذي أعلن في غير مرة أنه (أخذه ولن يعطيه!).. أما الوزراء المساءلون فما كانوا في حقيقة الأمر يملكون أن يقدموا أو يؤخروا من دون قرار (دولة الرئيس) وأمره. وهكذا منح البرلمان فرصا وتمديدات مضافة متعاقبة للمالكي فربما استجاب للمطالب الشعبية ولتحسين الأداء الحكومي.. ولكن الأوضاع بقيت على ما هي عليه وأسوأ فيما تعكز السيد المالكي على اتهام الآخرين بعرقلة جهوده وبرامج البناء التي قررها في برامجه.
و لتطبيق وعده الوحيد الذي صدق فيه، أي الوعد الذي قال فيه: "إنه أخذها وبعد ما ينطيها" احتفظ بجميع الوزارات السيادية الأمنية من دفاع وداخلية وأمن وطني ومخابرات؛ لعدم ثقته بخنوع كل من تم ترشيحهم للمناصب تلك ولعدم ثقته بالشركاء أصلا فقد وضع نفسه وصيا كما قرر أنه المعيار وهنا بات المالكي الخصم والحكم بعد أن وضع كل شيء بين يديه..
ومع سطوته على كل السلطات الأمنية ومفاصلها، فإن الوضع الأمني مازال يشكو من الانفلات. فلا وزارة الدفاع صدت خرقا للحدود الوطنية وحمت سيادة تراب البلاد، فالحدود الأكثر انفلاتا منذ ولادة الدولة الوطنية حتى اليوم! ولا الداخلية ضبطت وضعا أمنيا في مساحة عملها خارج كوردستان! ولا الأمن الوطني ولا المخابرات ضبطت شبكة معادية في زمن بات العراق مرتعا لشبكات دولية ليس أقلها مافيا خلخلة وقلقلة الأوضاع... والميليشيات الأجنبية وعناصر الإرهاب الدولي المنظم، تعيث في البلاد فسادا!
أما الاقتصاد، فهاهي عشرات الروافد يسرقونها جهارا نهارا ويكاد النهران يجفان وليس من مغيث! والمزارعون يعملون بشحيح ظروفهم المأساوية ولكنهم حتى بمنتجهم الذي يقارع أزمات الزراعة والرِّي يجابهون عقبات كأداء في التسويق إذ تفتح الحكومة بوابات الاستيراد السلبي رافعة الحماية بل رافعة أية فرصة للمنتج الوطني ليس في الزراعة بل في كل الميادين!
إذن، أسباب لها أول وليس لها آخر في ((سحب الثقة)). فليس أولها الفشل التام في تلبية أبسط حقوق الناس وهو الحق في الحياة ثم الحق في الأمن والأمان ثم الحق في لقمة عيش صحية نظيفة وبقية الحقوق في التعليم وضمان كرامة الناس تتوالى.. فأية كرامة والمداهمات الليلية شبه يومية! والاعتقالات الكيفية بلا غطاء قضائي وإن جاء فبتشويه وافتعال مفضوح..! أية ظروف أمنية والسرقة والاختطاف والاغتيال تتم جميعا ليس تحت بصر حاميها حراميها بل بأدواته وبعناصره.. أية كرامة ولا مأمن لا في بيت ولا في شارع؟!!
سحب الثقة قرار شعبي صدر وليس فيه من منفذ للرجوع، وإذا وجد الشعب أن مؤسسات الدولة غير قادرة على الأداء والتفعيل فإنه سينتفض هذه المرة لا على الحكومة ورأسها بل سيمتد قراره إلى مؤسسات أخرى.. إذ السيادة الدستورية الأسمى تبقى بيد الشعب والقرار النهائي الحاسم بيده. ومن هنا نشير إلى الشرعية الثورية أي شرعية التغيير الجذري الذي يقتلع الفساد برمته ومن جذوره حيث فساد مؤسسات الدولة ليس في أداء الرأس حسب بل في أتباعه وما جيَّره من مؤسسات، الأمر الذي يفرض التغيير الجوهري...
من هنا فإن إشكالية سحب الثقة رسميا يجب أن تستمر حتى تحقيق واجبها المباشر بتغيير من امتلأ سجله بخروقات جوهرية للدستور. وسيكون تحقيق ذلك علامة، وإن كانت بسيطة وأولية، لكل من سيأتي بأنه محكوم بدستور وسيكون القرار سابقة مهمة لتوكيد التداولية ومنع خطاب أخذناها وما ننطيها وهو خطاب رفضه الشعب لسلف سابق كان قد قال لن نتركها إلا خرابا وفعل.. فهل سنترك الأمر يتكرر؟!
يجب أن نضبط الآلية الدستورية للعمل في أعلى هرم السلطة وإلا فإننا سنعيد إنتاج النظام القديم ولا يجوز لشخص في العراق الجديد أن يكرر خطاب الأمس بأي طريقة ومبرر. يجب أن تمضي إجراءات ((سحب الثقة)) عاجلا سريعا لأن تأخيرها يمرر ضغوطا متداخلة محلية أجنبية فتمنح تلك الضغوط شرعية لتدخلات على حساب شرعية الإرادة الوطنية وعلى حساب شرعية إرادة الدستور مجسِّدا لخيارات الشعب..
ليتخلص كل مسؤول من تلك الضغوط باللجوء إلى المؤسسة التي يعمل فيها وإلى قرارها وآليات عملها القانونية .. فاستمرار العمل بمنطق خارج مؤسسي يعني قبول التفاعل السلبي مع الضغوط محلية وخارجية وقبول التنازل عن القَسَم والعهد الوطني والتفريط بشرف المهمة والمسؤولية المناطة به.. وهذه مرحلة من الفساد لا تقف عند سرقة مالية أو رشوة أو محسوبية بل تندفع باتجاه بيع للوطن والناس بلا مقابل..
لا ينبغي التراجع عن سحب الثقة لأية حجة ولأي حالة تعهدات يدرك المجرب أنها باتت تتكرر لتمرير خطوات أسوأ . بلى إن سحب الثقة يستهدف المالكي لا لفشله في أداء المهمة حسب بل لتجاوزه على الدستور بتجاوزه على الشعب ومطالبه وباستبداده بالرأي وبمحاولته إعادة إنتاج النظام القديم. فهل بعد هذا من ذريعة للتردد؟
من يريد أن يشارك بجريمة الاستبداد فليفعل ولكن عليه تحمل المسؤولية أمام الشعب وقواه الحية.. وقد فعل الشعب وأرسل رسالة واضحة صريحة وأسقط تخويله المالكي أية مسؤولية، وواجب البرلمان منذ أول لحظة قال الشعب كلمته فيها، العمل على تلبية المطلب الشعبي. لقد دقت شعوب المنطقة نواقيس التغيير وأخذت أمر التغيير بايديها والعراق أول تلك البلدان وأكثر استحقاقا واقترابا من انطلاقة شعبية عارمة للتغيير المنتظر. فكفى مزيد عبث بمصالح الشعب وكرامته وبحيوات بناته وأبنائه. ولا يمكن قبول تردد طرف أو آخر بشأن مهمة سحب الثقة، أيا كانت الذرائع سواء كانت مبررة بضغوط خارجية أم بوعود تستجيب لتحالفات الأمس ولفلسفة الاتحاد طائفيا. إن العراق سيكنس المحاصصة الطائفية من جهة وسيؤكد على العمق الوطني الفديرالي الذي لا يقبل بافتعال الأزمات التضليلية ومن لا ينضم للمسيرة اليوم سيكون في الغد من الماضي الذي سيشطب عليه الشعب.
الخيار واضح سحب الثقة إجراء أو خطوة وهو أمر ربما تفصيلي وليس رئيسا ولكنه يظل انطلاقة نحو تغييرات جوهرية تطمح للمؤسساتي [المؤسسي الجمعي] بديلا عن عبث الفردنة ومخاطرها.