بين العمل بالدستور والتوافقات السياسية والتهديد بالانقلاب
باحث أكاديمي في الشؤون السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
عاش العراق طوال سنوات خلت هزات راديكالية عميقة الغور كان أبرزها، إدخله كرها وقسرا في أتون الحرب الطائفية وممارسة عمليات التطهير الديني والعرقي في الأحياء والمدن ومحاولات محو التعددية الأثنية الدينية الموجودة تاريخيا في ربوعه.. فضلا عن مسيرة تراكمات سلبية من الاعتداء على القوانين الدستورية وتعطيل إصدار عشرات القوانين البنيوية الأخرى بمقابل تفعيل قوانين من زمن الدكتاتورية. ولم يخلُ الأمر من بروز ألاعيب حزبية قامت على فرض آليات المحاصصة ومصادرة حقوق الشراكة الوطنية وتشويهها..
وأبعد من ذلك كانت الأفعال تسبق الأقوال في السطو على المسؤوليات والمناصب وتوجيهها باتجاهات خاصة تجيّر بالمحصلة لجهة بعينها باتت اليوم معروفة. حيث انطلقت تصريحات من مثل "أخذناها وبعد ما ننطيها" و من مثل التلويح بـِ "تعطيل العمل بالدستور". وتدرجت تصريحات من نمط التعكز على الشراكة والتحول بها لمحاصصة لتمرير استبداد ما تعكزوا عليه زورا من حقوق الأغلبية التي ما تزال تئن بمظلوميتها من الإهمال ومن تفشي أعمق أشكال الاستغلال الأسوأ فسادا في عالمنا اليوم. وفي ضوء كل ذلك وفي ضوء اصطناع تقسيم المجتمع ماضويا على أسس طائفية مريضة تمّ حصر المسؤوليات الرئيسة بيد طرف استبداد جديد وبات اليوم يشير صراحة إلى توجهه لاحتكار كل المسؤوليات بذات الخطاب الذي عادة ما تعلنه الدكتاتوريات ويمارسه الطغاة وهو الخطاب الذي خبره الشعب بكل فئاته ومكوناته...
لقد كان الحديث عن تجميد العمل بالدستور بهذه العلانية من أخطر التوجهات السياسية لحزب [ولشخصية سياسية] باتت تتحكم بإدارة الدولة وبكل تفاصيل الحكومة الاتحادية. لأن تجميد الدستور لا يتم إلا بطريقين لا ثالث لهما أبرزهما يكمن في المتاح الآن حيث الانقلاب العسكري واستكمال حال الانفراد بالسلطة.
إن ما يستند إليه السيد المالكي تحديدا ومعه بعض رجالات حزبه، يقوم على أساس:
1. تشويه الآخرين وتخوينهم.
2. وعلى نفي وجود أية جهة أخرى تعمل لمصلحة الشعب وتمثيله.
3. وعلى امتلاكه لوحده صواب المعالجات والبرامج.
4. وعلى أنه الجهة الممثلة للشعب وإرادته كما فعل ويفعل كل الطغاة.
5. وعلى جعل نفسه الوصي على البلاد والعباد بفتاوى سياسية مصطنعة..
6. مع إسقاط القدسية والعصمة على سلطته بالتزلف لقوى دينية.
7. وعلى أنه صاحب الحل والربط النهائي لمعضلات الساعة ...
وبمراجعة تلك الطروحات، سنجدها لا تنتمي إلا لمنطق الدكتاتورية والطغيان وثقافتهما، حيث تعتمد في آلياتها على:
1. إلغاء الآخر ومصادرته...
2. ادعاء كون مصالح الشعب تكمن في انفراده بالسلطة...
3. وأن حماية منجز التغيير لا يكمن إلا في إجراءاته المخصوصة وإلا باستكمال حصر السلطة السياسية برمتها ووضعها بين يديه. إذ ماعادت سطوته على أبرز المناصب كافية له لتمرير سياسته.
ومن الطبيعي هنا أن نجد الأمور لا يمكنها أن تمرر الانفراد بالسلطة إلا عبر أداتين هما: أما أن تسلّم قوى بعينها له بهذا الانفراد عبر توافقات يفرضها ميدانيا تحت الضغط والتهديد وبمبادلة تتمثل في المال السياسي وفي فتات ما يقدمه لبعض الأطراف متوهما أن هذه المساومة تكفل له لمرحلة بعينها التمكن من مفاصل الحل والربط في البلاد.. أو الأداة الثانية أي أن يتخذ قرار تجميد العمل بالدستور بقرار انفرادي يقوم على تقديراته ومن حوله في إمكاناته العسكرية والأمنية والمخابراتية التي باتت واسعة فعليا مع اعتماد على القوة الخارجية الإقليمية ممثلة بالدور الإيراني المباشر ميدانيا أي بصيغة للانقلاب العسكري..
وعمليا تم التمهيد طوال المدة السابقة التي تُرك فيها يعبث ليصادر كل أدوات العمل العسكري الأمني المخابراتي مثلما ترك خارجيا يوجه الأمور بما تلتقي وما نجم عنه من نتائج حيث بات للسفير الإيراني حق التصريح باسم السيادة العراقية ولقائد فيلق القدس فرصة وحق الحديث عن إمكان تعيين رئيس وزراء الدولة وراحت القوات الإيرانية تتوغل في فعالياتها العسكرية لمسافات بعيدة دمرت القرى والقصبات وقتلت مواطنين عراقيين في كوردستان وغيرها وهي تسيطر على المياه الإقليمية وتعتقل وتتصرف على وفق الأهواء.. وهي تمارس إرادتها هناك ومن ضمن ذلك سرقة النفط العراقي بمئات ملايين الدولارات بل أن البنك المركزي بات يتعرض لاستنزاف الاحتياطي في ظرف تمويل إيران ضد الحصار الدولي.. ووصل الأمر إلى أن نائب الرئيس الإيراني يعلن عن وجود فعلي لاتحاد الدولتين والقصد الفعلي هو تبعية العراق لإيران كونه المحافظة 15 بعد أن أوجدوا للمحافظة 14 أي البحرين نوابا لها في برلمانهم وفي إطار هيكل دولتهم التوسعية...
إن المخاطر اليوم لا تكمن في انقلاب عسكري محتمل ولا في ممارسة تجميد الدستور مؤقتا بل فيما يتعرض له العراق أمام وضعه أسير محاولات العودة لنظام الحكم الفردي واستبداده. وهو ما يدخلنا في مغامرات عبث المصالح الضيقة التي ليس للشعب فيها لا ناقة ولا جمل. ولنلاحظ أن اللعبة بدأت بإثارة خلافات للتغطية بين القانون والعراقية ولأن اللعبة ماعاد يمكن أن تمضي أكثر في ممارسة التغطية اندفعت في مرحلة أخطر بالعبث عبر تهديد إقليم كوردستان وتحشيد قوات تأتمر بقيادة فرد [المالكي] لا بخطط وطنية ولا بآليات دستورية ما يعرض الأوضاع لانزلاق خطير بخاصة مع وجود ضغوط إيرانية على الحدود وممارسات مخابراتية مغامرة فضلا عن دفع بعض القوى [الإسلاموية] للزعرنة السياسية وللعب بأوراق التطرف وأعمال الحرق والسلب والنهب بغاية زعزعة أمن كوردستان من الداخل بشق صفوفها وإطلاق العنان لمغامرين وبلطجية كما حصل في الأيام الأخيرة بالتزامن مع تحركات قوات تأتمر للمالكي وليس لمصالح وطنية عراقية تهتم بالشعب وتأمين مطالبه وتطلعاته..
إن التلويح بوقف العمل بالدستور مؤشر آخر على فشل ذريع لسياسة السيد المالكي وحكومته التي يريد إحالة فشلها على الآخرين وهو الأمر الذي ورط العراق بمآس جديدة وأبعد من ذلك اليوم يمثل وقف العمل بالدستور تهديدا سافرا ومؤشرا بعيدا على فشل، برهن و يبرهن على عجز القدرات الخاصة [للمالكي شخصيا] في إدارة زمن الأزمة المستفحلة ودولة بحجم العراق.
وهذا يتطلب عدم الانتظار طويلا لبحث وسائل الحل الجذري. باللجوء للخبراء الأكاديميين لوضع برامج إنقاذ تطبقها حكومة تشارك فيها جميع القوى الوطنية بضمنها [القانون] مع إبعاد تام لمبدأ فرض الزعامات الفردية كما المالكي. ففي وقت لم يخل الشعب العراقي من العقل الوطني الخبير بتخصصه لا تخلو جميع القوائم من شخصيات يمكنها التصدي للمهام والمسؤوليات بمهنية عالية وبحرص وطني أكيد..
بودي اختزالا أن اقول: إن تحريك القوات في كركوك لن تكون لمصلحة أي طرف فيها كما أنها ليست مجلبة إلا لمنزلقات خطيرة للجميع ومثلما لم يبنِ ولم يخدم المالكي وحكومته من ادعى تمثيل تطلعاتهم في مدن الجنوب والوسط لن يكون للآخرين مصلحة في تحركاته وسياسته التي تتجه أهدافها بعيدا عن مصالح مكونات الشعب كافة. أنا أتكلم على نتائج على الأرض وليس عن فروض نظرية في الذهن وربما يكون الشخص عن غير قصد وعن غير عداء لكن سياسته ومنجزه أثببت الفشل الذريع والعجز عن إدارة الأزمة، الأمر الذي أودى بنا نحو منزلق خطير ينبغي لنا جميعا أن نتحمل مسؤولية تعديل المسيرة شعبيا ورسميا فلا أولوية إلا للعراقيين ومصالحهم والمالكي يبقى مواطنا عراقيا لكنه بخطابه وأدائه ليس الشخصية التي نربط مصائر ملايين العراقيين ومكوناتهم والعراق برقبته فتلكم أفكار رعناء أن نقدم الفرد على الشعب لأي حجة أو ذريعة.
لقد داهمنا الوقت وسقفه الزمني ولابد من قرار عاجل وحاسم لتغيير إدارة الحكومة الاتحادية، وإلا فلات ساعة مندم.