اليوم العالمي للأم بين تعزيز قيمه الإنسانية والمتاجرة بها؟
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان
في الحضارات البشرية القديمة كان للأم مكانتها التي جاءت انطلاقا من أسس متنوعة عديدة. ومنها على سبيل المثال تلك القدسية التي حاولت بعض تلك الحضارات إسقاطها على الاحتفال كما كان يرمي إليه عيد سيبل في اليونان القديمة حيث ربط الاحتفالية بطقوس دينية وبالآلهة، الأمر الذي تناقلته واحتفلت به أمم أخرى. وبقي الإحساس بمكان الأم ومكانتها ثابتا في الثقافة الإنسانية لدى جميع الشعوب وأجيالها المتعاقبة تاريخيا... فوجدنا الأحد الرابع مخصوصا للأم في بريطانيا والأحد الثاني في الولايات المتحدة وتعددت الخيارات في المواعيد؛ كما انضافت أسباب معاصرة دعت لهذا الاحتفال كما في توظيف آلام الأم وكفاحها من أجل السلام ورفض الحروب وفواجعها ونكباتها.. ولم تشذ المجتمعات الشرقأوسطية عن اتخاذ يوم في العام تحتفل به بالأم بوصفها مركز العائلة الذي تعرض أحيانا للجفاء لأسباب مختلفة منها آليات العيش المعاصر والخضوع لضغوطه التي عصفت بالعلاقات الحميمة كما العلاقة بالأم..
إنّ ظروف التمزق الاجتماعي للعائلة وانهيار تلك العلاقات الإنسانية ما كانت ناجمة إلا عن سياسات مرضية أصابت المجتمع في الصميم. فمطاردة الشبيبة في ظروف القمع السياسي والمعتقلات والتصفيات والحرب من أجل إخضاع الجيل الجديد لفلسفة النظام القمعي، هي واحدة من أخطر أسباب التمزق والابتعاد الاضطراري للبنات والأبناء عن أمهاتهم.. ولربما حاجات العيش والبحث عن العمل بعيدا عن أماكن السكن وإقامة العائلة هي من جملة الأسباب ولكن تجييش الأبناء في حروب الطغاة وتصفيات الحرب الضروس لحيوات أولئك المنكوبين لم تكتفِ بإبعادهم ولا بحرمان أمهاتهم منهم بل أودت إلى أبشع استغلال لهنّ الأمر الذي أشاع الفلسفة الذكورية التي اندفعت أبعد من قمع الإنسان ممثلا في الأم باتجاه أشاع الجحود بحقوقهن في الحياة الحرة الكريمة الآمنة...
لقد عانت شعوب عديدة من هذا، ومن هنا كانت ردود الفعل بين الشعوب الأوروبية والأمريكية من أجل السلام بتوظيف أيام نضالية ووقفات استذكار واهتمام ورعاية كما في يوم الأم بأمريكا وما أضيف له من معاني بأمريكا في مرحلة سبقت ورافقت وأعقبت الحرب العالمية الأولى ثم الكونية الثانية. وفي بلدان الشرق الأوسط خيضت حروب ومعارك غير ممكن تلخيصها هنا لكثرتها وهول مآسيها، فبعضها دموية وأخرى مجتمعية عاصفة، نجم عنها عميق الجراحات التي مازالت فاغرة حتى اليوم.. إذ مَن يُعيد للأم ابنها الذي لو عاش اليوم لكن أخا حانيا ولشهدت أحفادها منه أو أنها اضطرت لاستذكاره في الأحفاد الذين تركهم بلا معيل؟! ومن يغيِّر في أساليب العيش وسلوكياته التي بدت اليوم بين سلبية اضطرارية وبين تشوهات سلوكية جاحدة بكل قيم العلاقة المقدسة بالأم؟!
إنّ مسؤولية المجتمع الإنساني المعاصر باتت تمرر وقفة الاحتفال بعيد الأم ببطاقة بريدية ترسل من دون أن تستطيع الأم ضمّ الأبناء! وهذا بحد ذاته بات بارزا حيث يُستغل من وجه آخر المناسبة استغلالا تجاريا بحتا لا علاقة له بمعاني الاحتفال بهذا العيد الذي ينبغي أن يكون تذكرة جوهرية بدلالة عميقة في النفس ربما اختفت وسط زحام معصرة راهنية للمجتمع برمته.
إننا بحاجة للاحتفال بهذا العيد بقدسية وجود الأم، وبقدسية العلاقة معها، وبقدسية مرورنا الحافل بها بكل تفاصيل اللقاء المباشر وإحاطتها بما ينبغي أن يكون على مدار العام وليس في لحظة تمر بلا عبرة ولا عظة ولا نشاط يحيّي فينا ما أغفلناه أو تناسيناه طوال أيام تركنا فيها الأم بوجلها وبلهفتها وبمشاعرها والضغوط التي تطحنها كل يوم وساعة ولحظة، تتابعنا في أحلامها فيما ينبغي أن تلمس وجودنا مباشرة.. والأمر الذي نحن بصدده في معاني يوم الأم، لا يكفي أن يكون سلوكيا أخلاقيا في ممارساتنا..
ولكنه، ينبغي أن يكون بقراءة إحصاءات معتمدة لوجودهنّ بكل تفاصيله وبكل تفاصيل ما يجابههنّ من عقبات وآلام وما يمتلكن من أسئلة ومطالب؛ لكي نستطيع مجتمعيا رسميا أن نرسم الخطط التي تتناسب والتفاعل الإنساني الأشمل مع الأم بوصفها إنسان يستحق لا وقفة احتفالية رمزية عابرة بل احتفالا متصلا نعيشه يوميا بوسائل ومفردات تتناسب وعيشنا المعاصر...
أتساءل هنا عن أدوار المنظمات المعنية سواء النسوية أم الحقوقية، المدنية أم الرسمية؛ وعن الخطط والأرقام المتاحة بشان تطلعات جدية يمكنها أن تقول: إن المناسبة التي نصنعها ليست ضيقة أفق بمسمى بيولوجي هو الأم. ولكنها قضية إنسانية تتسع لتشمل التأسيس لمنطلقات صنع السلام في عالمنا وإيجاد آليات موضوعية تستطيع معالجة أسباب الجفاء وربما الجحود في العلاقات الإنسانية الحميمة وكذلك تؤسس لعالم جديد يستعيد الصحة في القيم السامية النبيلة مستردا إياها لتكون قيم المجتمعات الحريصة بحق على احترام أوليات وجودنا الصحية الصحيحة ومبادئ عيشنا السليمة الكريمة ممثلة بالأم ومعاني وجودها...
ومن أجل هذا أيضا، نتساءل عمّا فعله [جوهريا] كل منّا تجاه الأم في يومها وليس [شكليا] تجاه يوم الأم الذي بات يتحول عند بعض من يلتفت إليه لمناسبة مادية تجارية بحتة!! والأبعد من ذلك، ماذا فعلت الجهات الرسمية والمدنية؟ هل أجرت إحصاءاتها المنتظرة؟ وهل أدت واجباتها ومسؤولياتها؟ أي نوع من التقصير بل من الجرائم التي ترتكب بحق الأم فيما يُجمعن قسرا بين الفينة والأخرى للاستماع لخطب رسمية معتوهة ملأى بالازدواجية والانفصام بين الكلمات والأفعال؟
إن سلوكا إنسانيا حيا واحتفالا بالأم ويومها لا يأتي من التزويق وفلسفة المتاجرة والادعاء ولا يأتي من عبثية الجريمة بحقها ولكنه يأتي من إعلان إحصاءات المنجز فيما انصرم اقترابا من قضية هذا اليوم الأممي المهم كونه يوما للسلام والكرامة والطمأنينة وللصحة السلوكية والنفسية وللسلامة التربوية وللصواب القيمي ولاستعادة إنسانيتنا المستلبة في استلاب هذه الكينونة الأبرز في وجودنا الفردي والجمعي أي الأم... فهلا استذكرنا الأم في يومها بلا متاجرة مادية مالية؟ وبلا متاجرة انتخابية لحزب أو منظمة أو جمعية؟ وبلا مصادرة تتسلل إلى وجودنا الحي وتنسفه وتلغيه لمصلحة استذكار اسم شخصية نسوية لو عاشت لرفضت أن يكون الاحتفال بها إلغاء للاحتفال بوجود الأم كائنا حيا يلزم أنسنة كل مفردات برامجنا وثقافتنا في التعاطي مع جوهر الاحتفال به....
تذكروا أنّ من متطرفي بعض التيارات بخاصة هنا الدينية ومن أدعيائه باتوا يفرضون علينا الاحتفال بشخصية ذات مكان ومكانة تاريخية وهم في الحقيقة لا يحتفلون بتلك الشخصية بقدر ما يعملون على اختلاق طقوس شكلية تستغل البسطاء ومشاعرهم وتتاجر وتدعي وتزيّف بغاية العبور على ظهور المستغلات في يومنا وتمرير أشكال استغلالهنّ والممارسات القمعية سواء بفلسفة ذكورية تقمع النسوة، وأسماهنّ الأمهات، وتقمع الحقوق الإنسانية وأولها للأمهات خالقات حيواتنا ووجودنا!!!
لقد عزفت مجتمعات استسلمت لتحكّم طغيان الاستبداد باسم الدين على سبيل المثال عن جوهر القيم الإنسانية.. وباتت تلك المجتمعات تعيش القهر والحرمان والاستغلال بأبشعه والمبرر النص الديني (المشوّه بالتأكيد) لخدمة مصالح أحزاب التدين.. وها هم لا يحتفلون حقا بفاطمة وزينب وسكينة ولكنهم يختلقون طقوسا شكلية تستدر الانفعالات ولا تلبي ما أرادته تلك الشخصيات وما اعتنقنه من قيم بل هم يستبيحون يوميا تلك القيم ويدنسون آليات احترامها بالاعتداء على الأمهات بكل أشكال الهمجية ووحشية آلياتها الاستغلالية.. ويوميا نشاهد عيانا معاني أن تقف الأمهات في طوابير الحاجات المنزلية والمعيشية! ويوميا نشاهد عيانا الاعتداءات الإجرامية العشوائية العبثية!!! ويوميا نعيش الجرح حيث لا نسطيع الوصول إلى أمهاتنا لنضع وردة في حجرهنّ أو حتى على قبورهنّ؛ بسبب مآسي الحكم بآليات استباحة الإنسان وقيمه وأخلاقياته السليمة..
نمتلك مع محاولاتنا وجهودنا، أمنيات نقدمها لأمهاتنا في رحيلهنّ الأبدي، وأخرى لأمهاتنا يَحيّين أياما صعبة منهِكة مستنزِفة أن يحظين بعالم جديد هو عالم السلام لا الحروب وعالم الإنسان الحر مكتمل الحقوق صحيح العلاقات فرديا جمعيا... وكل عام وجميع الأمهات بخير وهو الأمل الذي نسعى لأجله في أوسع حركة توعية وتثقيف بمعنى يوم الأم لا عبر خطب ساسة التأسلم والتطرف والتشدد والادعاء والتضليل بل عبر كسرة خبز يطعمها صبي يشقى طوال يومه ليضعها في فاه أم مريضة ثكلى في زوجها شهيد الإرهاب أو معتقلا في أقبية ظلم الطغاة، الجدد شكلا القدامى جوهرا وآلية؛ وعبر شابة يافعة تكافح ضد استبداد مجتمعات الضيم ولغة التكفير الدعية، تقف سندا لأمها تشد أزرها من أجل صنع عالم جديد، عالم السلم والحرية والمساواة والعدل... وبورك يوم الأم عيدا إنسانيا أصيلا كبيرا بين أعيادنا المقدسة حقا والأهم والأبرز في وجودنا وممارساتنا.
وتحية للمنظمات النسوية والحقوقية تقارع الضيم لتصنع أجواء الاحتفال انتصارا.. وتحية لأقلام ساهمت وتساهم في حملات التوعية والتثقيف بقضايا عميقة بوجودنا.. وتحية لمؤسسات تفضح ما يجري طمطمته تحت (الكساء) استباحة لحرمة طهر إنساني زكي نقي ولعلنا بهذا الكشف نصل الحقيقة من أجل يوم حافل بقيم الصواب لا الزيف وتبقى أمهاتنا الأصائل فعلا للسلام والعالم الأفضل والأجمل.