البارزاني وقيادة حركة التحرر الكوردي: الدروس والعبر
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
في الثورات ما قد يسِمُها بالانطلاقة الجماعية بعنفوان قيادات ميدانية تبرز من رحمها آنيا وفيها ما قد يميّزها بوجود قيادة محنكة وزعامة كارزمية تمنحها دقة التوجه في التكتيكات وصواب التفكر في العمق الاستراتيجي.. ولظروف وشواهد تاريخية متنوعة يمكننا القول: إنّ حركة التحرر القومي الكوردية أنجبت أبطالا وزعماء قادوها على أساس وحدة أمة عاشت وتعيش في وطنها كوردستان بمختلف أرجائه.. ولطالما لمع بينها اسم الزعيم الملا مصطفى البارزاني الذي نشأ في مدينة عانت الويلات من النظم السياسية المختلفة وجرى تخريبها ومهاجمتها ما ينيف على العشرين مرة.. إلا أن أبناءها لم يكتفوا بإشادة الأرض المدمرة بل ومواصلة بناء الشخصية الثائرة وطبع اسم البارزاني الخالد تلك المسيرة لعقود طويلة من تاريخ الثورة...
أما مسيرة البارزاني ملا مصطفى فقد عانى مذ طفولته الأولى يوم اعتقاله ووالدته وإعدام أحد أخوته الأمر الذي دفع لتربية نضالية عنيدة دفاعا عن الحقوق والحريات. فشارك في صباه في الثورة الكوردية ضد الطغيان التركي وبانتفاضة الشيخ محمود الحفيد في العقد الثاني من القرن العشرين وبحركات بارزان منتصف الثلاثينات وطبعا في وقت لاحق بإشادة أول جمهورية كوردية في مهاباد، وتخلل هذا السِّفْر أزمات الاعتقال والسجن والنفي ودروسها؛ فكانت تلك المعارك السياسية والحربية قد شكَّلت أهم الدروس التي أعدّته لمساهمة جدية فاعلة في تأسيس الحزب الديموقراطي الكوردستاني ولا ننسى هنا منفى الاضطرار طوال 12 سنة في الاتحاد السوفيتي حتى العودة بُعيْد ثورة 14 تموز 58 حيث العمل المثابر لترسيخ علاقة نوعية مختلفة بين الكورد والعرب الأمر الذي انتكس يومها مع انتكاسة الثورة.
وعلى المستوى الوطني العراقي كان البارزاني وجودا لا يمكن تجاوزه في حسابات السياسة العراقية لطالما كان في هذا الاتجاه الركن الأمين لبناء العلاقات الوطنية على أسس سليمة صائبة وعلى المستوى الإقليمي كانت علاقته بمصر وبزعيمها ركنا آخر لبناء العلاقات الكوردية العربية بأسسها التاريخية المكينة الصحيحة.. بالمقابل عملت السلطات الانقلابية في البلاد على التعامل بروح عدائي قمعي الأمر الذي كان دائما مدعاة للإخلال بالعلاقة الطبيعية بين العرب والكورد.
من جهة أخرى ولقراءة أعمق لهذا الرمز النضالي الكبير، ينبغي التوكيد على أنّ ملا مصطفى البارزاني لم يكن اسما عابرا ولا شخصية عادية في تاريخ القضية الكوردية بل كان زعيما عاش هموم أمته في كل أرجاء كوردستان بدليل مشاركاته المهمة في الانتفاضات والثورات بكل أجزاء كوردستان الشمالية والشرقية والجنوبية، كما أنه كان قريبا من أبناء الشعب الأمر الذي جعله رمزا قوميا ليس للثورة حسب بل لمعاني الكرامة والدفاع عن الحقوق والحريات والشخصية الكوردية الجمعية والفردية.. ولهذا نلاحظ جموع الزائرين السنوية لضريحه رمزا للوفاء لا الاسمي الطقسي بل لاستذكار مبادئ سامية حملها وتركها في ضمير كل كوردي يعيش إنسانا حرا كريما وهو الأمر الذي يحمل لهذه الأسباب موضوعيته وصواب تركيزنا على الاحتفاء بهذه المناسبة واتخاذ جهود الزعيم البارزاني نموذجا وعلما سواء للكورد وهو حقهم بالفخر أم لنا في مجموع الشعوب والأمم الأخرى احتراما وتقديرا للمنجز التاريخي الذي قدمه بخاصة للعلاقات الإنسانية الأسلم والأنضج...
ويمكننا من جهة أخرى إبراز سمات مهمة عديدة تمثل جزءا من الدروس والعظات التي نشير إليها؛ فروح التسامح والطبيعة السلمية لسياسته على الرغم من كل العنف الذي ربما فرضته ظروف الصراع المسلح ومحاولات الاغتيال التي تعرض لها شخصيا، هي التي جعلته قريبا من قلوب الجماهير ليس الكورد حسب بل وجموع غفيرة وكبيرة من الشعوب الأخرى التي كان يكنّ لها الاحترام في تعبيره عن مبدأ أن احترام امرئ لأمته يفرض عليه أيضا احترام الأمم والشعوب الأخرى ومبادلتها العلائق الإنسانية الأعمق والأصدق. وأشير هنا إلى أنّ الثورة الكوردية المسلحة تجنبت أعمال التخريب والتفجير والاغتيالات التي كانت ستؤدي إلى ضحايا من الأبرياء وهو الأمر الذي جعل بعض الساسة الأوروبيين يصفون الثورة الكوردية التي قادها البارزاني بالثورة النظيفة.. وبخلاف قوى سياسية اصطرعت مع النظم الدكتاتورية المتعاقبة في العراق مُستخدِمة أساليب الاغتيالات والتفجيرات رفض الزعيم البارزاني حتى الرد على محاولات اغتياله بمحاولة شبيهة بناء على موقف راسخ في أنه لا يقابل خصمه بممارسة جرائم ما يرتكبه ذاك الخصم بل بأداء نضالي لثورة تعرف أهدافها بدقة وتضبط ممارساتها وأساليبها بموضوعية وبروح إنساني سليم..
ومن دروس الثورة وتعاليم الزعيم ممارسة المرونة من جهة وأسلوب التسامح والعفو مع الآخر على الرغم من أخطائه سواء تجاهه أم تجاه الشعب والأمة؛ وقد عفا يومها عن أولئك الذين عادوا عن نهج الخيانة وتركوا جحافل (الجحوش) التي آذت الشعب الكوردي. في محاولة منه لتوكيد درس تصحيح الأخطاء بوسائل سلمية وبأداء إنساني يجنِّب الشعب مزيدا من الصراعات وحالات الانقسام العدائي.. فكان بديله في الوجود الكوردي وحدة في التنوع وقوة في بناء أسس السلام والتعايش والاعتراف بالآخر وتصحيح ما ارتكبه سلميا...
وتأسيسا على هذا كان منطلق الاتفاقات مع الحكومة ببغداد وأهمها اتفاق آذار 1970 الذي جسد لأول مرة صورة مقبولة للعلاقة الكوردية العربية. على أن الدرس الأكيد في هذا الإطار كان يتمثل في أن الأمور لا تكمن في النصوص وإنما في بناء مؤسسات ديموقراطية ضامنة لتطبيق تلك النصوص بدليل ما جرى لاحقا من تنصل حكومة بغداد من الاتفاق بل توجه الدكتاتورية للغدر وتجديد العدوان على الشعب الكوردي الآمن حتى وصلت الأمور في وقت تال لمحارق الكيمياوي المعروفة وجرائم الأنفال.
ومن هنا فإن درس العلاقة الفديرالية في العراق الجديد لا يمكن في ضوئه، أن توجه سهام التهجم عليها [أي على الفديرالية] كونها على وفق وصف بعضهم إياها بأنها مقدمة (انفصال) ومن ثمّ فلا يمكن ضمان تلك العلاقة [الفديرالية] في ظل تلك الفلسفة العدائية الغريبة.. وإنما الضمانة الحقيقية تكمن في تطبيق الديموقراطية الحقة في عموم البلاد وفي وجود أنضج لمؤسسات الديموقراطية.
وكما هي وصايا البارزاني الخالد والدروس المستقاة من سياسته، تكمن الضمانات في الشراكة الفعلية التي لا يكتنفها التردد في قضية قيادة مؤسسات الديموقراطية [عراقيا] معا وسويا بطريقة لا تقبل التراجع و\أو الغدر كما حصل في نكث العهود والاتفاقات السابقة وكما يدعو للقلق اليوم عندما يُنظر إلى النكوص عن اتفاق أربيل بما يوحي باحتمالات سلبية شبيهة..
إن المشكلة ليست في صياغة دستورية للعلاقة بين العرب والكورد. فالدرس المستفاد يشير إلى أهمية المسارات العملية الواقعية في رسم نهج نوعي مختلف حيث مؤسسات اتحادية سليمة البنية سليمة البرامج، تقوم على إقرار ثابت واستراتيجي حاسم ونهائي بحق تقرير المصير وبالأساس الاختياري الحر للاتحاد؛ وبضمان الحقوق والحريات بلا تلك التدخلات والمنغصات التي لا تنمّ إلا عن إمكان التراجع والالتفاف حتى على الأسس الدستورية التي مازالت تخضع لصراعات غير خافية على النبض الشعبي الحذر من الوقوع أسرى جرائم تصفوية كارثية جديدة..
إنّ إزالة أسباب الحذر لا يأتي من التهجم على الخطاب الكوردي القائم على تلك الدروس والعبر المستقاة من تجربة البارزاني الخالد وسياسته ولا من محاولات التشويه وربما التضليل أحيانا من بعض الأطراف بل يأتي من معالجة أخطاء الماضي والانتهاء بشكل حازم من السياسات الشوفينية الاستعلائية وبقاياها ومن ترسيخ التحالف بين الديموقراطي الكوردستاني والقوى الديموقراطية الأخرى كوردستانيا وعراقيا وفي المنطقة بما يعمِّد فلسفة التحالفات الاستراتيجية من جهة وبما يجعلنا نستفيد من تلك الدروس والعبر بطريقة جوهرية لا شكلية وبأسس متينة راسخة لا تكتيكية ولا تضليلية كما تفعل بعض الأطراف الفاعلة ببغداد اليوم..
إننا في الوقت الذي نلتقي فيه اليوم احتفاء بهذه الذكرى التي يمر عليها 33 سنة إنما نستوحي من مسيرة خبيرة فذة قادت إلى انتصارات نوعية نشهدها بحاضرنا.. لكن من الأهمية بمكان أن أقترح تعزيز الدراسات الخاصة بتلك التجربة الكبيرة المهمة ولربما بإقامة مراكز بحثية تحت هذا الاسم البارز لأنه في وقت انشغل بالثورة ومسيرتها وبخطابيها السياسي والعسكري إلا أنه لم يهمل الجانب المعرفي والخطاب الثقافي الفكري للشعب الكوردي ومنتجي خطاباته بتنوعاتها.. وسيكون من بين أبرز الدروس المميزة هو الاحتفاء باسم هذا القائد الكوردي الشجاع والمتنور بتبني تجمعات ثقافية ومراكز بحثية وجهود أكاديمية جامعية متخصصة، توجهاته لإعلاء الفكر التنويري والثقافة المدنية التي تقوم على التفاعل مع منطق العصر وعلى إقامة أفضل العلاقات مع دول العالم المتقدم ومع حضارات الشعوب والأمم الأخرى بمنطق معاصرتها وحداثتها وبأسس التقدم والتطور... فهلا كان وسام البارزاني الأول هو وسام إعلاء المعارف وأنشطة الثقافة كما كان يعمل بدأب وتميّز من أجله؟ ثقتي أنّ ورثته لن يتخلوا عن هذا الاتجاه سواء في الوطن أم في المهجر وثقتي أن هذه الدعوة ستلقى استقبالا حافلا وحيوية فاعلة كبيرة مثلما يجري عمليا وفعليا منذ أول مشوار البناء السلمي بكوردستان يوم انتصار الثورة في تسعينات القرن الماضي حتى يومنا...