القانون بين روحه ونصه أو شكلياته المفرّغة
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
القانون ليس أوراقا أو قواعد لتبرير أعمال أية سلطة!؟
أداء شكليات الإجراءات القضائية لا يكفي لتحقيق الهدف الأسمى للقانون
بعض المتهمين لا يمتلك قدرة إثبات براءته ويقع ضحية اختلال التوازن وشكلانية الممارسات القضائية المنحازة وربما الظالمة غير العادلة
بعض الاتهامات قد لا تعدو عن كونها تلفيقات لتصفية حسابات سياسية واختلاق مشكلات لتمرير غرض سياسي غير مبرر
فما المطلوب حلا للمشكلات التي باتت تراكم وتقف حجر عثرة بوجه تقدم العملية السياسية في العراق؟
الأصل في النظام العام سيادة القانون بوجود مؤسساتي سليم البنية وباستقلالية السلطات مع تكامل جهودها على وفق أسس دستورية مكينة. على أن العلاقة الفعلية بين السلطات حينما تختل أو حينما لا توضع في إطارها الصحي الصحيح وتتغلب فيها السلطة التنفيذية متحكِّمة بالمشهد العام يتحول الدستور والقوانين الدستورية إلى مجرد حبر على ورق.
والأصل في القانون روحه وجوهره في التطبيق وفي الممارسة العامة والخاصة. وإلا تحول إلى مجرد قواعد شكلية لتمشية إجراءات ليست في النهاية سوى أفعال تبريرية مجيَّرة لسلطة نافذة تتحكم بالوضع. وهذا ما يشبه أن تقول زعامة أو جهة تتحكم بالسلطات اكتبوا ماشئتم من قوانين واتركوا لنا اختيار ما ننفذ ونستخدم منه. وبهذا فإنّ الواقع لا يعكس سوى احتكار الأمر والنهي فعليا بيد تلك الجهة التي تعد نفسها المرجعية والحَكَم الفصل في كل قضية، منتهكة بذلك سمو السيادة الدستورية للشعب!
إن سلطة الطغيان واحتكار الأفعال [بالمعنى العام وليس المخصص هنا بجهة] لا تأخذ من القانون سوى ما يخدم تحكمها وتسلطها.. وليس من صواب عندها في الأحكام والقوانين سوى ما يستجيب لمآربها. وفي ظل الانفراد بالسلطة من جهة والإمساك بمقاليد أدوات التنفيذ الإجرائي تتمكن السلطة التنفيذية [ومن يتحكم بها] من تلفيق أسس القضايا التي تريدها بما يلبي تنفيذ الإجراءات الشكلية للقوانين.. وعلى سبيل المثال لا الحصر: اختلاق عناصر الاتهام وصنع شهود الإثبات ومحو شهود النفي أو تحييدهم وإبعادهم عن مسار القضايا القضائية مع خلق أجواء رأي عام تتناسب والأحكام المراد إصدارها في شكل من أشكال الضغوط على الهيآت القضائية التي تتعرض هي الأخرى للسطو والاستلاب والتفريغ من المضمون أو من روح العمل القضائي وجوهره!
وفي أجواء انتفاء الثقة بمثل هكذا نظام سياسي وأدائه لا يمكن الركون إلى أداء أية سلطة في الدولة. وستمَّحي الثقة ليس بالأمور الشكلية لمسار الإجراءات بل في مصداقية الأحكام وتمثيلها للحقيقة المغيَّبة في مقدمات الافتعال والاختلاق المتاحة لدى جهة التحكم بالسلطات والنظام العام. فالمشكلة الرئيسة ليست في الأداء للشكليات التي نصت عليها كل القوانين الإنسانية المعمول بها في بلدان العالم ولكن في تطمين الجوهر المضموني والصدقية.
إنَّ المشكلة تتمثل في مقدار الثقة أولا بالنظام السياسي وبمصداقية تراتبية السلطات فيه ومقدار الاستقلالية والبعد عن الخضوع لإرادات تبرهن الوقائع على محاولاتها إخراج السلطات عن حياديتها ونزاهتها ومصداقية الأداء وتجسيده للحقيقة.
لنقرأ الأمر فعليا تطبيقيا بدراسة النموذج العراقي من بوابة سلطته التنفيذية في بغداد التي وقعت بمطب إحالة مفهوم الشراكة والوحدة الوطنية إلى محاصصة طائفية مقيتة تحكمها أحزاب لا ينظم وجودها قانون، فيما تتضخم فرص انفراد بعض زعامات في توجيه الأمور. والأسوأ هنا ليس في طبيعة الطبقة السياسية وإخفاقاتها بمستويات أدائها المتواضعة، وإنما باستتباع ذلك بمحاولات طرف استبعاد أطراف (الشراكة) عبر ممارسة فلسفة الغنيمة واحتكار سلطة القرار وحتى مسؤوليات الأداء والتطبيق باحتلال أغلب المناصب حتى أدنى الدرجات الوظيفية مع حصر أبرز الوزارات بيد شخص واحد كما بالوزارات الأمنية.. يستكمل هذه الممارسة السياسية الإقصائية القائمة على تهميش الآخر عدم الالتزام باتفاقات الشراكة [اتفاق أربيل وبنوده على سبيل المثال] والتنصل من تلك الاتفاقات التأسيسية والعمل على استبدالها بتوجيهات فوقية تعمِّق شرخ الانقسام وانعدام الثقة ليس بين الأطراف حسب بل بين السلطة التنفيذية برمتها والشعب الذي ينتظر منها تلبية مطالبه..
في ظل هذا الواقع تترسخ مفاهيم سلبية خطيرة. ولنتابع القراءة بالمحاور الموجزة الآتية تسهيلا لوضوح الصورة:
1. ففي محور بناء المؤسسات نلمس:
أ. تحكم جهة بالسلطة العليا بطريقة تحاول الانفراد وتهميش الآخر.
ب. احتلال المناصب حتى مستوياتها الدنيا.
ت. شيوع الاختراقات الخطيرة لأعلى مستوى الذي يحمل في طياته أحيانا العمل لمآرب محلية وخارجية. والخطورة الأبعد أن الاختراق في وقت يعمّ بكثير من المؤسسات تبرز فاعليته في الوسط الأمني الاستخباري!
ث. هزال كثير من ممثلي الأحزاب المتحكمة بالسلطة الاتحادية ببغداد في إشغال المناصب الوظيفية العليا والدنيا وتدني مستويات خبراتهم وكفاءاتهم المعرفية والمهنية..
2. في محور برامج العمل نلاحظ:
أ. انعدام الاستراتيجية الوطنية وعدم ممارسة برامج حكومة بناء وإنقاذ وطني خاضعة لمراقبة إحصائية في التنفيذ..
ب. هزال البرامج الوزارية وفقر تطابق الأهداف المرسومة ومطالب القطاعات مرحليا واستراتيجيا.
ت. الخلل المنهجي النوعي في رسم تلك البرامج.
3. وفي محور الأداء والتطبيق نقرأ:
أ. تدني نسب التنفيذ في المشروعات إلى حد يقترب من الصفر في بعض القطاعات وفي بعض السنوات.
ب. والاخفاق في المستويات النوعية للمنفَّذ.
ت. مع شيوع حالات الفساد بألوانه وأشكاله..
وبالانتقال إلى طبيعةأداء السلطة التشريعية واستلابها سلطة المراقبة والقرار ووضعها في خانة انتظار قرارات الزعامات التي طالما تأخرت طويلا واستنزفت مزيدا من الوقت والجهد على حساب تأزم أوضاع الناس، بهذا نرصد عجزا خطيرا في الأداء الدستوري للبرلمان فضلا عن خلل نوعي بتركيبته حيث عدم تشريع قانون المجلس الاتحادي المكون الرئيس الثاني للهيأة التشريعية أدى لاسبعاد الحجم النوعي للتعددية في بنية المجتمع العراقي وانعكاسها المفترض في الإدارة العامة، فضلا عن عدم إصدار عشرات القوانين الدستورية الرئيسة التي تعنى بتكوين مؤسسات الدولة وإطلاق مسار آليات الديموقراطية الحقة.
وليس للسلطة الرابعة من إعلام وصحافة ولا لمؤسسات المجتمع المدني من ظروف قانونية مؤاتية راهنيا حيث يعد العراق واحدا من بين أسوأ البلدان في نسب الاعتداء على الصحفيين وتحديد حرياتهم ومضايقتهم إلى درجة مئات الاغتيالات والتصفيات الجسدية الدموية سنويا.. فيما نذكِّر هنا بطريقة التعامل مع استقلالية مؤسسات المجتمع المدني ومع تحديد حقوقها في التعبير وقمعها إلى درجة التهديد باستخدام الجيش ضد بعض النقابات [نقابات النفط والكهرباء]...
أما بالعودة للسلطة القضائية، فالسؤال الذي يترترب هنا في ضوء ما أدرجناه: كيف يمكن ضمان استقلالية القضاء مع كل هذه التهديدات وحالات الاستباحة والمصادرة؟ كيف يمكن ضمان الأداء القانوني للمحاكمات في ظل أشكال التهديد المباشر وغير المباشر؟ كيف يمكن ضمان سلامة القرار في ظل إمكانات التدخل بالتحقيقات بوجود التعذيب والضغوط العنفية واختلاق شهود الزور وتدبيج الوثائق الوهمية؟
إن الصورة العامة للقانون ودولة المؤسسات لا تنبئ سوى بأن السلطة الاتحادية ببغداد تبقى بحاجة لمراجعة نوعية جدية ومسؤولة.. وهذه المراجعة لا تتضمن تخوين طرف ولا خطاب اتهام لآخر بخاصة في ظروف وقوع أغلب القوى بأخطاء عميقة الغور وممارسة عناصر فيها لما يدخل في محدد الجرائم الجنائية والسياسية، الفردية والجمعية بما لا يستثني طرفا من هذه الوقائع ومسؤولياته فيما مرّ بالبلاد، ومثال الحرب الطائفية 2006 مازال حيا. وبمقابل واجب الانتهاء من تصفية الحسابات وأفعال التصيد كل طرف لآخر تقترح هذه القراءة المتواضعة انطلاقة نوعية جديدة في البلاد؛ تتأسس على مصالحة وطنية تشمل أوسع القوى الشعبية وتقوم على مفاهيم التسامح والتعايش السلمي واستكمال تشريعات بناء المؤسسات الرئيسة للدولة وسلطاتها العليا التشريعية والقضائية والتنفيذية على أسس سليمة بالانتهاء من مفهوم كون تلك السلطات غنيمة لحزب أو جهة وبالانتقال من المحاصصة الطائفية إلى شراكة وطنية حقيقية بقوانين مدنية تحظر التشكيلات العنصرية، الطائفية والفاشية، لتستطيع تأسيس عراق ديموقراطي فديرالي يحتضن الجميع على أسس الإخاء والعدل والمساواة.
وللقضية متابعة في معالجتها بركنيها القانوني القضائي وبتطبيقات على بعض القضايا التي خلقت احتقاناتها مؤخرا...