لماذا فُتِح ملف التوازن في الخارجية ولم يُفتح في الدفاع والداخلية؟
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
سؤال هذه المعالجة من بين أسئلة باتت تتكرر في مسار الخطاب السياسي، وأغلبها إنْ لم نقل أجمعها تشير إلى حقيقة واحدة، تجسَّدت في الدفع باتجاه أحادي يكاد يقترب من سياسة الانفراد بالحكم. والأمر إنْ لم يكن بهذا الاتجاه الأعرج فهو ينصب على حساسية مفتعلة تجاه المشاركة الكوردية.. كون هذه المشاركة هي الوحيدة التي ارتقت في السنوات الأخيرة لمستوى نسبي مقبول من بين مجمل مشاركات الطيف العراقي وتععديته المعروفة. وإذا كانت قضية التمثيل النسبي المتوازن للتوزيع السكاني جغرافيا أمرا مطلوبا لتجاوز حالات الإهمال وتهميش الأطراف لحساب سطوة مقيتة للمركز، فإنَّ إشكالية التوازن الخاصة بمشاركة الطيف العراقي ومكوناته مسألة نوعية جوهرية في تركيب مؤسسات العراق (الفديرالي) الجديد... فهل تمّ تحقيق ذلك بما يتلاءم والدستور؟ وهل جرى التعامل بروح شفاف منفتح على حال الوجود الفديرالي ومبدأ التوازن في الشراكة، وليس المقصود هنا المحاصصة بأي حال من الأحوال؟
للإجابة عن أسئلة المواطن العراقي هذه وأي تحليل سياسي موضوعي، لابد من الإشارة إلى عبء ثقيل لثقافة أحادية الخطاب السياسي ومنطق ضعف التعامل و\أو الاعتراف بالآخر؛ حيث قيامها في الغالب الأعم على مركزية الأنا وهامشية الآخر ورمزية وجوده وإنْ قُبِلت مشاركته الاسمية الشكلية فعلى مضض وبإيمان بمرحلية القبول ومن ثمّ التخطيط والتنفيذ لإزالة هذه الحال أو المشاركة سواء بالتصفيات والتهجير أم بالإبعاد والإقصاء. إنَّ هذه السياسة هي التي أسَّست لمنطلقات عرجاء أو مرضية في السجالات [ولا أقول الحوارات] غير الموضوعية في طروحاتها. فمثلا جرى ويجري (الحوار) بين أطراف التشكيلة الحكومية بازدواجية الإعلان عن الإيمان بالتعددية والتنوع والمسار الديموقراطي خضوعا لضغوط الواقع وإرادة الشعب بأطيافه بمقابل حقيقة إضمار نقيض هذا الإيمان المعلن عنه وهو الأمر الذي يلمسه كل صاحب عقل، عبْر ما يتجسد في تفاصيل طروحات الطرف المتحكم بالسلطة التنفيذية وحلفائه المباشرين في ائتلافه...
ومؤخرا دفع السيد رئيس مجلس النواب بمقترح قرار للجنة العلاقات الخارجية يلزم وزارة الخارجية باعتماد مبدأ التوازن والتمثيل الجغرافي في القبول بمعهد الخدمة الخارجي من دون الاستماع الى وجهة نظر الوزارة المختصة، و صوّت مجلس النواب بالأمس القريب على القرار. والمثير هنا أنّ ما يجري من اختيار ميادين تطبيق البنود الدستورية يجري بطريقة انتقائية وهو يتركز بوضوح على تلك المسؤوليات والوزارات التي تقع بإدارة أطراف سياسية من خارج ممثلي (المركز) كما ينتقي من البنود الدستورية ما يتوافق والجهة التي تتحكم بالسلطة والمركز على حساب الأطراف الأخرى... فالخارجية بإدارة وزير كوردي فيما الدفاع والداخلية مازالت بيد السيد رئيس كتلة دولة القانون، ودستوريا هي الأخرى وزارات مشمولة بالمادة التاسعة الفقرة أولا من جهة ما نصت عليه.. فقراءة النص تقول: "المادة (9):- أولاً:ـ أـ تتكون القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي، بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييزٍ أو إقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية، وتدافع عن العراق، ولا تكون أداةً لقمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة. ب ـ يحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة..."
لقد تعمدنا هنا نقل نص كامل للمادة بغية الإشارة ليس إلى التغافل عن مبدأ التوازن الذي ترمي إليه المادة حسب بل إلى أمور أخرى يجري اختراقها من دون حسيب أو رقيب في ظل فلسفة الانفراد من جهة والتأسيس لانحرافات عن النهج الذي توافقت عليه أطياف الشعب في عراق ديموقراطي فديرالي وهو ما تم تثبيته في نص الدستور.. ولكن لماذا يجري التغاضي عن تطبيق مبدأ التوازن في وزارة والتركيز عليه في أخرى؟ وعلينا ألا نهمل سؤال رديف مهم، نصه: لماذا اختيار مادة دستورية وإهمال أخرى؟
قد لا يكون من بين ما تسجله المرحلة موضوع فك التحالف بين قوائم الائتلاف (الوطني) والكوردستانية؛ ولكن ما تشي به الأمور هو مواصلة العمل من أجل توسيع احتلال مسؤوليات الدولة الرئيسة وإخضاعها لفلسفة الحزب الحاكم بما يذكِّر أحيانا بآليات عاشها العراقيون يوم كان ((الحزب القائد!)) يُلزِم مؤسسات الدولة بالخضوع التام لفلسفته وبامتلاك الحصة الطولى وربما المطلقة في تلك المؤسسات! وإذا لم يكن فك الارتباط والتحالف هو الهدف فإنّ ما يُقرأ من خلف السطور هو عملية شد وجذب وضغط صريح على أطراف التحالف هنا تحديدا الطرف الكوردستاني بمجمله سواء من داخل التحالف الكوردستاني أم قوى معارضة كوردية يجري العزف على خلق ثنائية في التعامل معها استغلالا للانقسام المحتمل، إنّ القرار يصب في عملية ضغط وليّ أذرع فيما استراتيجيا يصل بنا إلى انشطار فعلي وابتعاد عن تطبيق التوازن الدستوري...
غير أنّ الحل أو البديل المؤمل الذي يمكنه أن يعيد المسار إلى طبيعته ويطمن الأجواء والمطالب في احترام عراق التعددية الفديرالي، يكمن – بإيجاز - في الآتي:
1. الانتهاء من صيغة تحويل الشراكة الوطنية ومبدأ الوحدة الوطنية إلى عملية ((محاصصة)) واتخاذ مؤسسات الدولة رهينة أو غنيمة خاصة بقيادات بعض الأطراف السياسية...
2. الانتهاء من المحسوبية والمنسوبية حيث التعيينات واحتلال المناصب والمسؤوليات تتم على طريقة قريبي ونسيبي وما إلى ذلك...
3. الانتهاء من تجارة المناصب التي باتت ظاهرة تستشري حتى في أعلى المسؤوليات...
4. والانتهاء النوعي الجذري والحاسم إلى قرار بأولوية إعمال ((مبدأ الكفاءة وسيادته التامة)) في إشغال المناصب العامة وهو ما يستدعي الانتقال تدريجا بتقديم مرشحين بسير ذاتية يقتضي مراجعتها من ذوي الاختصاص المهني البحت للبت فيها مع الاحتفاظ بتوازنات دستورية واتفاقات سياسية معروفة للانتقال الحازم والأخير بعد إعداد الأرضية واستكمال بناء المؤسسات وإنضاج آليات عملها...
إنّ استمرار مرور هذه القرارات بحجة قانونيتها ودستوريتها هو كمحام يمرر جريمة ويهرّب مجرم من فعلته بأحابيل قانونية وكثرما وُجِدت هذه الحال في ظل خطاب الذرائعية وفي ظل اللجوء للعب داخل الصالات المغلقة بعيدا عن الإرادة الشعبية... وها نحن بالمناسبة نرى محاولات لتسييس القضاء وأخرى للتحكم به واستغلاله أداة في مآرب حزبية ضيقة إلى جانب ألاعيب عديدة أخرى كلعبة استخدام الأجهزة الأمنية في أمور تتنافى ومهامها الحقيقية وتتعارض مع المحددات الدستورية دع عنك وجود ميليشيات وأجهزة معلوماتية استخبارية لمصلحة أحزاب بعينها بل مافيات تسللت إلى مفاصل الحكم عبر تلك الأحزاب وربما بغفلة من الزمن...
لقد قال الشعب كلمته في 25 شباط فبراير قبل سنة من الآن، حينما خرج في ساحة التحرير ببغداد رافضا مثلث الطائفية الفساد الإرهاب ومؤكدا على مطلب إصدار القوانين الدستورية (المدنية) للأحزاب والانتخابات والتشكيلات التشريعية [المجلس الاتحادي] والاتجاه لانتخابات نزيهة جديدة تطهّر العملية السياسية من الاختراقات ومن تشوّه التوازنات جوهريا لصالح تلبية نوعية للتوازن الدستوري بمستوى التشريعي باستكمال الهيأة التشريعية من جناحيها ممثلين بمجلس النواب ومجلس الاتحاد وهو المجلس الذي تمّ تغييبه طوال دورات سابقة حتى يومنا.. وسيكون هذا المجلس حلا لإشكالات عديدة فضلا عن تلبيته مبدأ احترام الطيف العراقي والعمل على تطبيق شامل لمبدأ التوازن وليس انتقائيا لا بمستواه المؤسساتي ولا بمستوى اختيار المواد الدستورية وطبعا في المنتهى ينبغي الامتناع عن سياسة العطايا والمكرمات والتفضل من (المركز) على (الأطراف) لأنها سياسة انتهى زمنها في ظل قوة الإرادة الشعبية وقدرات القوى السياسية المعبرة عنها على تحمل مسؤولية الدفاع عن مطالبها واتخاذ القرار الأبعد نوعيا عندما يقتضي الأمر حماية لمصالح تلك المكونات التي تستحق الوجود مستقل الإرادة!