التدخلات الأجنبية والردّ العراقي؟
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
لمناقشة إشكالية التدخلات الأجنبية والخروقات السيادية لبلد ما لابد من التعرف إلى أوضاعه الداخلية وإمكاناته في التصدي لمثل تلك الأحوال أو العكس حيث التراخي والضعف الذي يدعو لتشجيع الأطراف المعنية بالتدخل. وفي مثالنا الخاص بالعراق نجد ظروفا معقدة يحياها البلد من جهة انطلاقة مشوشة في عمليات بناء مؤسسات الدولة وضعفا وتخلخلا تعاني منه تلك الأجهزة. حيث ظروف خراب شامل خلفته سلسلة حروب مدمرة متعاقبة توالت على العراق طوال العقود الأخيرة فضلا عن سيادة ظروف عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي اشتد ببعض السنوات الأخيرة يوم كانت الميليشيات المحتربة طائفيا تسيطر على الأحياء والمدن والشوارع عدا إقليم كوردستان.. إلى جانب حقيقة ملخصها تدني المستويات النوعية للقوات المسلحة والشرطة وهزالا جوهريا في المؤسسات الأمنية والاستخبارية بخاصة هنا جهاز المخابرات. يستطيع القارئ المتمعن أن يشير إلى انقسام خطير تعاني منه النخبة السياسية ومن ثمّ إدارة الحكومة العراقية...
وانطلاقا من هذه الأوضاع المعقدة لجأت وتلجأ دول الجوار والدول الكبرى وذات المصالح البعيدة إلى الاندفاع في الميدان العراقي؛ وهي لا تجد عقبات مهمة تُذكر! بل تجد فرصا لها في استغلال حالات التشاحن بين الفرقاء العراقيين وهزال عدد من عناصر العمل في المؤسسات المهمة ممن أمكن ويمكن أن يتعاملوا مع التدخلات بتبادل مصالح ضيقة وتعريض البلاد لمخاطر فتح منافذ هنا أو هناك لتلك التدخلات...
أما مستويات التدخل المباشرة وغير المباشرة فتبدأ من تجنيد عناصر اندساس وتبعية مأجورة لأنشطة أولية في جمع المعلومات، مرورا بتسلل عناصر الإرهاب والتخريب بعلم ومن دون علم دول جوار وربما تسليح تلك العناصر ومدها بعناصر الدعم اللوجستي وتوجيهها لاستهداف الاستقرار والأبرياء والمؤسسات المدنية.. إلى جانب فعاليات اقتصادية سلبية تتعلق بحرب العملة المزيفة والأسعار والاتجار بالغذاء والسلع الأساس في منافسة غير متوازنة مع المنتجات الوطنية للفلاح العراقي [على سبيل المثال لا الحصر: نزول الخضروات والفواكه الإيرانية للسوق العراقية باسعار تنافسية] وللمعامل العراقية الصغيرة وللسياحة العراقية [امتلاك الشركات الإيرانية لاستثمارات السياحة الدينية من أساطيل النقل والفنادق والأمور الخدمية الأخرى كمكاتب السياحة التي يجري بوساطتها نقل العملات الصعبة إلى المستثمرين الأجانب على حساب المستثمر العراقي] ولغيرها من الأنشطة الاقتصادية المخصوصة من مثل الفساد في الاستثمارات وفي تسلم المشروعات ملأى بالثغرات والنواقص بما يصل إلى تسلم هياكل وربما من دونها مع هروب المعنيين بالعملات الصعبة بمئات الملايين وملياراتها... وغير هذا وذاك فإنّ الحدود العراقية مازالت مشرعة وغير خاضعة للسيطرة المناسبة من قوات الحرس والجيش لضعف الإمكانات ولتواضع الأسلحة والقدرات التدريبية المتخصصة وهزال ما تمتلكه من أجهزة مراقبة وغيرها وتلك الحدود تتعرض لعمليات تغيير العوارض والعلامات الدولية المرسّمة في اتفاقات معروفة كما جرى في الحدود مع الكويت ومع تركيا وبشكل سافر وخطير مع إيران، ونذكر هنا بالحدود البحرية التي باتت تقرب من إغلاق المنفذ المائي الوحيد عبر ألاعيب بناء الموانئ المبالغ في حجمها وفي اختيار مواقعها وعبر تكرر الاعتداءات شبه اليومية على الصيادين العراقيين في المياه الإقليمية العراقية لفرض الأمر الواقع بخصوص التعاملات مع الحدود الدولية مستقبلا.. ولعمليات التدخل وجه آخر تمثل في أعمال الحفر داخل الأراضي العراقية تنقيبا عن النفط وبالحفر المائل في الحقول العراقية العاملة هذا غير عمليات التهريب النفطي تحديدا التي تجري عبر البحر والبر وبطرق علنية وسرية... أما الاعتداءات الحربية بالقصف البري والجوي والبحري وبالاجتياحات بالقوات المسلحة بمختلف صنوفها فأمر يجري بتراجيديا مريرة تثير الألم كونها تتم علنا تحت سمع وبصر السلطات العراقية حيث القرى والمدن بمجابهة أعمال حربية تطاول المدنيين بأفدح الخسائر بالأرواح والممتلكات [على سبيل المثال لا الحصر: اجتياح القوات التركية المتكرر ووجود قواتها الدائم في عمق الأراضي العراقية فضلا عن اجتياحات إيرانية متكررة أخرى] وهذه في الغالب طاولت استقرار إقليم كوردستان في صمت واضح من الحكومة الاتحادية تجاه تلك المجريات الخطيرة وواجبها الرسمي في الدفاع عن السادة وعن شعب الإقليم ووجوده واستقراره..
أما أخطر أشكال التدخل وما يصل لمرحلة إعلان حرب إبادة على العراق فتكمن في المشروعات الكبرى والمبالغ فيها في بناء السدود على كل من نهري دجلة والفرات ومحاولات تحويل مجرى دجلة وقطع روافد الكارون والوند وعشرات الروافد الأخرى بتغيير مجاريها من قبل السلطات الإيرانية لتمنعها من مجاريها التي ظلت آلاف الأعوام مشتركة وبأطوال مهمة تمنح العراق حقه في التوزيع للحصص المائية على وفق الاتفاقات والأعراف الدولية المعمول بها.. والأنكى من كل ذلك أن فعاليات عدائية بإطلاق أحياء مضرة في الأهوار العراق وبإرسال دفقات مياه عالية الملوحة وأخرى ملوثة بمواد كيمياوية ومشعة لوثت الأمواه العراقية وهددت بإغراق مناطق بطريقة تخريبية للبيئة العراقية...
إنّ الاختلافات السياسية المحلية لا يمكنها أن تستمر بطريقة تخدم ضعف الموقف من التدخلات. فمبدئيا يجب الانتهاء من ذاك الموقف الأعرج بأن يدين هذا الطرف السياسي السعودية وربما تركيا ويغض الطرف عن إيران فيما يدين طرف آخر إيران ويغض الطرف عن تركيا وغيرها. فيما الموقف الرسمي والشعبي ينبغي أن يرتقي لمسؤولية وطنية تضع خطا فاصلا بين ما هو وطني عراقي وما هو معادي له ولمصالحه.. بمستوى الرد الصارم المنتظر على تصريحات وصلت بمسؤول إيراني كبير للقول بأنهم باتوا يستطيعون تشكيل الحكومة في بغداد!؟
إن استراتيجية موضوعية للدبلوماسية العراقية أمر منتظر بشكل مباشر وحاسم حازم.. فوضوح الأداء الدبلوماسي وصواب استراتيجياته وثوابته هو أول الطريق للرد ولاستبدال حالات الضعف والتراخي أمام التدخلات بوصفها تعبيرا مرضيا عن التسابق بين الأطراف الأجنبية في الميدان العراقي.. وهي أساليب تدخل ستنتهي تدريجا مع قوة الموقف الوطني ووحدة الإرادة السياسية العراقية ومتانة موقفها.
إن استدعاء دور مميز وفاعل للمنظمات الدولية والإقليمية وحضورها من جهة الحوارات الثنائية والمتعددة وتوثيقها الاتفاقات أمر مهم للأداء الدبلوماسي. ولكن في القضايا المتعلقة بالخروقات العسكرية والاعتداءات السافرة يجب أن يتم نقل الوثائق الكاملة مع شكاوى رسمية موثقة في المنظمات الأممية المعنية بدءا من أعلى جهة في الأمم المتحدة ممثلة بمجلس الأمن وليس انتهاء بمحاكم العدل والجنائية التي تتابع الجرائم المرتكبة بحق المدنيين الأبرياء...
كما أن وحدة المشروع الوطني [الرسمي] لا ينبغي أن يتعارض ومشروع مؤتمر وطني [شعبي] ربما جرى تحت الرعاية الرسمية بحضور الحركات والقوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، بل ليتكامل معه وليركز على تناول قضية واحدة هي قضية التدخلات الأجنبية بدراسات أكاديمية متخصصة وبمحاور يجري التحضير لها من جهة موضوع العلاقات الدولية والأداء الدبلوماسي العراقي إلى جانب الاستعدادات والكفايات والخطط والثوابت المقترحة للتبني من الجهات الرسمية.. ولربما كانت الدعوة من برلمانيين وجهات أكاديمية أمرا مهما لتفعيل هذا الاتجاه....
إنّ تشكيل روابط محلية للدفاع عن حقوق الصيادين في البصرة، ولحماية البيئة في المحافظات الجنوبية وفي البلاد بعامة وفي إدخال تلك التجمعات البيئية لبنود حماية فضاء العراق الأخضر والتقدم بدعاوى رسمية للمنظمات الدولية المعنية وكذلك منظمات حماية الفلاح العراقي المنتج ومنظومة السياحة والاستثمارات الوطنية هو جزء من ذاك السلوك المنتظر من منظمات المجتمع المدني المتخصصة .. ولربما كان من الخطورة بمكان الدفاع عن نقابات العمال في مجالات النفط والكهرباء فهي الأعرف بدقة عن إمكاناتنا الوطنية في التصدي لمهام إعادة البناء وفي التعرف إلى الجرائم التي تحصل في هذا القطاع وإنه لمن نافلة القول أن يكون تركها تواجه قوانين العسف ومن يطبقها بحقهم اليوم أمرا خطير النتائج على مستقبل العراقيين..
إذن بالرد على التدخلات يكمن لا في التوقف عند تبادل التهم وخطاب الهجوم على مسؤول أو آخر لموقفه السلبي بل بتحميل المسؤولية لكل طرف والعمل على دعم التوجهات الإيجابية وتفويت الفرص على مواضع التراخي والقصور بإبراز الموقف الوطني الأنضج تجاه التدخلات. ومهمة التحدي هذه تبقى بحاجة لوعي عال ومميز من المواطنين وبحركة فاعلة مؤثرة من القوى الوطنية الحريصة على مصلحة البلاد والشعب.