مبدعونا بين إهمال منجزهم ووسائل رعايته المنتظر تطويرها؟
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
يواصل مبدعو العراق عطاءهم المميز في حال من تحدي ضغوط ظروفهم سواء كان الأمر في داخل الوطن وتعقيدات تلك الظروف أم في المهاجر القصية وما يصادفونه فيها من إقصاء. وبمقابل هذا الإهمال الظاهر في مستواه الحكومي الرسمي أم في تراجع إمكانات العمل المؤسساتي الجمعي، بخاصة في وسط النخبة الثقافية الأهم، تبرز بضع محاولات أغلبها فردية الانطلاقات ولكنها في النهاية باتت تستند اليوم إلى عمل جمعي ولو أنه مازال في أول خطوات العمل المؤسساتي الأمر الذي يعني من بين ما يعنيه أنه ما زال يجابه المصاعب ويحاول مقارعة الثغرات والنواقص ليتنكب مسؤولية تسليط الضوء على أعلام الإبداع في جميع الميادين، وينقل التكريم المعنوي [على أقل تقدير] إليهم، مباركين للفائزات والفائزين ما حصدوه عن استحقاق منجزاتهم المهمة...
ولأن هذا العمل (التكريمي الثقافي) مازال في بداياته فإنَّ ثغرات عديدة قد تكتنفه؛ كما تبرز بين الفينة والأخرى ردود فعل ربما محتدمة أحيانا؛ ففوق الإهمال العام السائد، يجري تكريم أسماء وشخصيات فيما توجد على القائمة شخصيات أخرى تستحق التكريم أيضا بأولوية أسبق من بعض تلك الأسماء المكرمة (لو) جرت المقارنة بينهما من منظور آخر غير منظور الجائزة ولجنتها وضوابط عملها المحددة بقانون ولائحة عمل..
وفي جميع الأحوال فإنَّ هذا قد يعود في حقيقته لعقود من الإهمال من جهة؛ وربما يعود لأن امرءا [مبدعة أو مبدعا] يضع نفسه في مقارنة مع المكرّمات والمكرمين فيشعر بالحيف تجاهه لأنه لم يكرّم في هذا الموسم، أو هذا العام. وربما لو كانت الأمور تؤخذ بهذا السياق فإننا لن نكرّم أحدا وسنُبقي على تكرار تكريم تلك الشخصية لأنها ذات المقام والشأن الذي يحتل الأولوية تجاه شابات وشباب بالمسيرة..
ولكن الأمور لا تؤخذ هكذا! إنّ العمالقة وكبار الإبداع والرواد يحضرون تكريم تلامذتهم، كما يحضرون تكريم منافِساتهم ومنافسيهم في الاختصاص الإبداعي. لماذا؟ لأنهم يحملون الأنفس الكبيرة من جهة ولأنهم يدركون صواب ذهاب شهادات التكريم باتجاهاتها لتغطي العاملين في مجالات صنع الجمال وإبداعه ويعرفون أن امرءا قد تميز هذا العام بأمر وأن الآخر قد تميز بعمل أو آخر في المدة الأخيرة وان أسبابا ودواعي متنوعة تبرز لمثل هذا التكريم المحسوب بلوائح معروفة وليس اعتباطا أو مزاجيا أو بالمجاملات بدليل أنّ من يعتلي المنصة لا يمكنه ذلك من دون منجز مميز تقدم به على أقرانه..
وعلى سبيل المثال، يبرز دائما في مسيرة ترشيحات لجائزة ما، مستويات تشمل الرواد الكبار وفي حقل آخر الشبيبة والنسوة المبدعات في ميادين مختلفة وهكذا بحسب الحقول التي تجري فيها الترشيحات..
وهنا ربما يتحدث أحد العاملين في حقل الإعلام أو الأدب أو المسرح على سبيل المثال مقارنا قامته بأخرى من تلك المكرَّمة [الفائزة بجائزة موسم ما] والعاملة في ذات الحقل، وهو أمر غير موضوعي لأنّ الريادة والخبرة لا توضع بمقابلة مع إبداعات عناصر شابة مكرمة وذلك يعود إلى أوجه كثيرة. إنني أكتب هذه الكلمات وثقتي أنّ إفرادَ مكانة مخصوصة لأولئك الذين يملكون تلك القامات الإبداعية سيبقى أمرا محفوظا في أنفس الجمهور من جهة وبالتأكيد لدى النخبة النقدية التي تحاول سدّ ثغرة إهمال تكريم مبدعينا..
كما أنني هنا أدعو [سواء في هولندا، أم المهجر بجميع الدول الأوروبية وغيرها أم في داخل الوطن] لتطوير عمل لجان التحكيم للجوائز والاحتفاليات التكريمية وتوسيع عضوية تلك اللجان مثنيا على كل أولئك العاملين بصمت، يتحملون ضغوطا متنوعة مختلفة تجاه مسؤوليات ينهضون بها تطوعيا مقارعين العقبات الكأداء من أجل صنع احتفاليات لائقة بقامات كبيرة تضارع أعلى قامات الإبداع الإنساني المعاصر. وعليّ هنا التذكير بأن إعلانات مخصوصة ظهرت وتظهر بشأن تشكيل تلك اللجان على وفق اللوائح المعمول بها..
إنّ العادة جرت بأن تتحمل لجان التحكيم ردود الفعل على طريقة لماذا فلان وليس فلانا؟ وعلى طريقة عقد مقارنات ليست موضوعية بين مبدعتين أو مبدعين كل منهما من جيل إبداعي مختلف أو من نشاط إبداعي مختلف.. ومن تلك العادة ما أصاب ويصيب بعض أصحاب النيات الحسنة في محاولة تكريم مبدعاتنا ومبدعينا الأمر الذي آمل شخصيا ألا يكون عثرة أخرى أمام محاولات بعض الجوائز الاحتفالية المعنوية التي توجد اليوم في الميدان..
وربما أحاول [ومعي هنا، وربما يسبقني، زميلات وزملاء آخرون في هذا] أقول أحاول قدر استطاعتي شخصيا أن أستوعب أو اهضم حالات الاحتدام عند بعض الرائعين المشرقين إبداعا مقدرا مشاعرهم الإنسانية ومدركا تلك المنطلقات التي تحمل تقويما نقديا ساميا نبيلا يستحقونه، ولكن خشيتي على مسار احتفاليات التكريم التي ما كادت تنطلق بحق حتى صادفت بعض عقبات من قبيل من الذي يقيِّم؟ ومن هي الجهة التي تقف وراء هذه الجائزة أو تلك؟ ولماذا جرى تكريم فلان؟ ولماذا لم يرد اسم فلان؟ وأسئلة تنطلق بلا أرضية الاقتراب والتعرف عن كثب إلى اللوائح والأسس والتفاصيل قبل انطلاقها محتدمة أحيانا...
ورجائي هنا، مع ثقة بجميع مبدعاتنا ومبدعينا وغالبيتهم المطلقة من أولئك الأعمق وعيا والأبعد نضجا وحكمة وسدادا ولكن الرجاء يتجه إلى [البعض] أن يتلمسوا في مواقفهم ما يدفع إلى أمام ويفعِّل المسيرة وأن يكظموا بعض غضب ربما يثار في لحظة لسبب أو آخر يتعارض وحقيقة أنَّ تكريم زميلة أو زميل هو تكريم للآخر وإن هي إلا مهمة ثقافية تغتني بالملاحظات وتتقدم بتعاضد الجهود وتفاعلها..
ونحن العراقيين بخاصة من النخبة كثرما رفعنا شأن الزميلات والزملاء ومدحنا في جهودهم المستحقة لأننا لا نريد سد ثغرات الإهمال حسب بل لأننا معا وسويا نأبى إلا أن نكون سببا في التكريم وفي تعزيزه وفي المضي به بمعالجة ما ربما يظهر من هنيهات وهفوات وجميعنا يدري معنى بل قيمة التكريم الأدبي المعنوي الممهور عليه بأصوات نخبتنا الثقافية برحابة صدر وإخاء...
وأجدد القول إن تكريم كوكبة لا يلغي أن جموعا كبيرة أخرى وشخصيات مهمة أخرى موجودة وتستحق التكريم، ولكنها دورات ومواسم وكل مرة تفوز كوكبة وفي كل مرة تتحسن الآليات وتتقدم وتعلو وتسمو حيثما آزرناها وفعَّلناها...
وقبل أيام انعقدت احتفالية تكريم باسم مهرجان العنقاء الذهبية الدولي الرحال التي جرت برعاية إدارة الشؤون الثقافية بجامعة ابن رشد وساهمت به أيضا جهود فردية [لشخصيات ثقافية معروفة] وأخرى مؤسساتية والآلية جرت على أساس ما اُعتيد عليه حيث تبرز ترشيحات متنوعة بآليات متعددة كأن يقدم مبدع اسمه أو يقدمه آخرون وبعد قراءة في السير والظرف الآني للموسم ولما جرى فيه تمَّ ويتم الاختيار بالتداول المتعارف عليه المنضبط بلوائح؛ على أن التداول قد لا يكون مفتوحا عاما [كما بالاستفتاءات المفتوحة] وقد لا يشترك به جميع المتخصصين وهو أمر طبيعي لأن عادة المهرجانات أن يكون لها في كل موسم لجنة قد تتغير بتركيبتها كليا أو جزئيا..
ما ينتظر أنْ يكون في خريف هذا العام، وفي مطلع العام القابل لهذه الجائزة ولغيرها من الجوائز كما في جائزة سومر للعلوم والآداب والفنون التي ينظمها حاليا البرلمان الثقافي العراقي في المهجر، هو أن هذه المؤسسات ترجو من المبدعات والمبدعين توجيه سيرهم الذاتية إلى المؤسسات الثقافية المعنية لتكون متاحة في توثيق جهود جميع المبدعات والمبدعين وكي لا يجري اعتماد ترشيحات الأفراد ولا حتى المؤسسات التي ربما لضغوط أو لأسباب أخرى تمر من دون تقصد مع شخصية أو أخرى وتسهو عن غيرها. فماذا تفعل لجان التحكيم وأن اسما ما على سبيل المثال لم يرشح لعدم وجود وثائق مكتملة لدى مؤسسات الثقافة المعنية بالترشيحات؟ أعتقد أن جزءا من المهمة يقع على الزميلات والزملاء كي نبدأ بهذا التوثيق المنتظر المهم...
كما يُطلب من روادنا وكبار النقاد في كل ميادين الإبداع التنادي لتجديد وتوسيع تشكيلة لجنة جديدة في ربيع هذا العام تدرس الترشيحات بموضوعية وتنتظر الاستجابة لها بترشيح مبدعاتنا ومبدعينا إليها من مؤسسات وشخصيات معروفة ولتلك اللجان التي سيجري تجديدها وتوسيعها وكما جرت العادة أن تقرر وتعلن النتائج في مواعيدها مع إعلان أسماء كل لجنة بعد إعلان النتائج، على أنني مازلت أؤكد على أهمية التوثيق تأسيسا بل مواصلة لتقاليد إرث حضاري مجيد...
وليس ختاما فإن جميع المبدعين يستحقون التكريم وإن كان ظهور عدد محدد منهم في كل دورة فهو يعود لجملة أسباب موضوعية أظنها واضحة جلية بخاصة عندما نقرأ في النظم واللوائح التي تتضمنها آليات اشتغال المهرجانات والجوائز التكريمية..
وبالموفقية والسؤدد دوما لجميع المبدعات والمبدعين. وشخصيا ولوجودي في عدد عدد من هيآت تلكم الجوائز بخاصة جائزة سومر للعلوم والآداب والفنون وجائزة العنقاء الذهبية الدولية وجائز ابن رشد أتمنى تواصل المسيرة بتضافر الجهود لإزالة أية نواقص أو مثالب وعثرات وهي مما لا يخلو عمل منه ولكنها مما يمكن تطويرها والسير بها حثيثا إلى أمام بوساطة دراسات نقدية موضوعية هادفة [أقصد هنا غير تلك التهجمات المعتمدة على الانفعالات وخطابات الاتهام والازدراء والتعالي والسمات المرضية مما لا يعد نقدا ولا يبدو منه سوى التعالم والمباهاة والنظر من فوق بطريقة سطحية سلبية وهذه حالات محدودة وهي تنحسر وتكاد تنتهي يوما فآخر]، وثقتي وطيدة بالنجاحات المتوالية بسبب من سعة الحضور الثقافي النخبوي والشعبي والرسمي الداعم للجهود المنصفة، كما أن ثقتي تتعزز بانحسار حال الانفعالات التي قد تجد مبررها من مساحة الإهمال البعيد وشيوع حالات مرضية لأسباب تاريخية نثق بأنها ستزول تدريجا بفضل الوعي وتقدم التجربة..
وتحيتي واحترامي لجميع الأخوات والأخوة في لجان التحكيم وفي إدارة المهرجانات والجوائز وفي النخبة الثقافية المبدعة وجمهور الثقافة والإبداع الواسع الكبير.