واقع الأزمة العراقية الراهنة ومستقبل العملية السياسية؟
باحث أكاديمي في الشؤون السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر \ رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان
هل من أزمة في واقعنا العراقي القائم؟ سؤال متأخر على تراكمات أداء سياسي متفاقم كان لابد أن يوقع البلاد والعملية السياسية في عنق زجاجة الأزمة وخانقها. ولكن كيف تأتت تلك الأزمة؟ وما مفرداتها؟ وكيف السبيل إلى الحل؟ تلكم محاور رئيسة ربما وجدت فرصة التغطية والمعالجة في ضوء أسئلة مجلة الصوت الآخر التي دأبت على رصد الواقع ومتغيراته تعبيرا عن تفاعل بين عناصر التنوع والتعددية في وجودنا الوطني...
وبدءا ينبغي الإجابة عن سؤال إلى أين تتجه العملية السياسية في العراق؟ وفي الحقيقة لابد من توكيد أنّ تلك العملية كانت تمثل الخيار الاستراتيجي للشعب العراقي الذي أراد فيه تجنب مواصلة مشوار الحروب التي فُرِضت عليه طوال عقود. وطوال السنوات الثماني المنصرمة لم يستتب فيها الاستقرار والأمن ولا تجنبت الحرب لمصلحة السلم.. والأمر في مطلع تلكم السنوات ربما كان عاديا طبيعيا بسبب الخروقات والقوى المعادية لخيار السلام وإطلاق عمليات البناء ولكن استمرار العمليات الإرهابية وتوقف أنشطة البناء والإعمار بات يعني اليوم أنّ اتجاه العملية السياسية صادف تشوهات وحالات انحراف عن المهمة الرئيسة القائمة على تجنيب الشعب هموم الاقتتال والأعمال الإرهابية من جهة وهموم القمع البوليسي والاعتداء على الحريات وتلفيق التهم ومطاردة المواطنين ومحاصرتهم واستلابهم حق التعبير.. وفي مثل هذه الحال تمثل تهديدا فجا وقاسيا لجوهر العملية السياسية...
ونقصد هنا بهذا التهديد اتساع حجم الخروق لمؤسسات الحكومة وفرض فلسفة الطائفية السياسية وآليات ممارستها على سياسة الحكومة وتعاطيها مع الوقائع اليومية لحياة العراقيين. ومن هنا فقد باتت الاعتداءات التي تمارسها (عناصر في أجهزة أمنية حكومية) أبعد وأخطر من ممارسات فردية وأخطاء عابرة؛ كما أنّ انحرافا (ممنهجا) في السياسة العامة قد جرى بحيث خرجت فعاليات مهمة للحكومة عن نهج مفترض لحكومة الشراكة باتجاه ممارسات لا تلتزم بالاتفاقات المعلنة من جهة وهي تؤكد نهج التفرد في الحكم والابتعاد عن آليات العمل الديموقراطي ومعطيات الدستور..
إنّ الممارسات العملية تعلن أفعالا، تنذر بخطر دكتاتورية جديدة في البلاد.. وأغلب تلك التصريحات التي تتحدث عن مأسسة العمل وقانونيته وعن اللجوء للعدل والقضاء والاستناد إلى الدستور والتوافقات لا يجسّد إلا سخرية من عقل المواطن المستلب الإرادة في التعبير عن موقفه من المجريات. وقد عشنا بوضوح أعمالا قمعية للتظاهرات السلمية في ساحة التحرير التي واجهت المحاصرة بقوات مدججة من الأمن والعسكر وباعتقالات وبأعمال بلطجة خطيرة في الحياة العامة.. وبالمقابل دُفِع أنفار للتهريج والهتاف باسم الحاكم الجديد على ذات نهج طبالي السلاطين الذي خبره العراقيون...
نحن الآن في ضوء ذلك على مفترق طرق بين التقدم بالعملية السياسية إلى أمام وبين الالتفاف عليها والتراجع باتجاه اختلاق دكتاتورية جديدة؛ الأمر الذي يتطلب موقفا حازما؟؟؟
ولكن، وقبل الإجابة عن هذا الموقف المنتظر لنُجِب عمّن يقف وراء التصعيد الأمني الأخير؟ نقول مباشرة: بالتأكيد القوى الإرهابية وأعداء الشعب العراقي وخياره في عملية سياسية سلمية تطلق مسيرة البناء والتقدم. ولكن هذه القوى الهمجية المحدودة باتت تعمل بمستويات نوعية كبيرة. أما السبب في ذلك فبالتأكيد يعود إلى عدم معالجة حالات اختراق مؤسسات الأمن من شرطة وجيش وبسبب من تراخ وفساد في عمليات إعداد تلك القوى وهزال القدرات الاستخبارية وتوجيه الأنشطة باتجاهات لا علاقة لها بتأمين هذه الأمور. ومن هنا فإن رأس التصعيد ناجم عن انشغال قيادة الحكومة بترتيب الأوضاع لمصلحة سطوتها وانفرادها بالسلطة وممارسة حملات التسقيط السياسي تجاه الشركاء، وتلك المشاغلة الخطيرة تُخرِج العملية السياسية والأداء الحكومي من مفردات الاتفاقات والبرامج المنتظر تفعيلها لإطلاق الأنشطة ذات الأولوية مرحليا...
وبالإجابة عن السؤال التالي بشأن نتائج الانسحاب فلقد مثلت القوات الأمريكية في آخر أيام وجودها فعلا رمزيا كابحا للصراعات بأسسها ذات الطابع الطائفي السياسي. وعلى هذا فقد مثَّل خروجها فتح الميدان فسيحا لبروز تلك الصراعات ولأن تطفو على السطح مفردات كانت خافتة ومستترة في الصراع المفتعل من عناصر متطرفة وأجنحة متشددة من صقور داخل قوى سياسية تحمل فلسفة الطائفية السياسية فكرا وبرنامجا لوجودها.
وعليه فإن تلك القوى مسؤولة عن المجريات الأمنية بل تحديدا عن الانفلات الأمني وعليها أن تجد وسائل كبح التشدد والتطرف في داخلها من جهة وعن البحث في وسائل العمل المدني بعيدا عن فلسفة الطائفية السياسية بوصفها المنهج السحري والغطاء الرسمي لكل من الفساد والإرهاب..
إنَّ أول مخاطر الطائفية السياسية هي تقسيمها المجتمع بين خنادق متعادية محتربة وهي التي تصب الزيت على نيران آليات الانتقام والثأر بين أبناء المجموعات الدينية المسالمين في جوهر وجودهم المتعايشين المتآخين في سمات هذا الوجود، ولكن المفروض عليهم الاقتتال كرها وقسرا في ضوء ما تقود إليه قوى التحكم بمؤسسات الدولة..
إن مغادرة القوات الأمريكية كان الإطلاقة التي أعطت الإشارة للقوى المتشددة لتحاول توكيد آخر مفرداتها في إعلان (سلطة دينية) طبعا هي دينية زعما وادعاء، فجوهرها في النهاية مآرب سياسية بحتة ولكن الذين هنا ليس سوى الطاقية التي تتخفى تحتها للتضليل من جهة ولإشعال مزيد من نيران الفتنة والاحتراب لمصلحتها ولتعتاش عليها وتمرر ما تريده...
ومن الطبيعي أن تكون مثل هذه التوجهات مقدمة ليس لخراب الأوضاع العامة ومزيد من الاستغلال بل لاحتمال الوقوع في براثن ((حرب أهلية)) لأن التداعيات الجارية ليست مزحة سمجة ثقيلة وتمر بل هي مخطط له ما يترتب عليه من مخاطر تستهدفها عناصر داخل تلك القوى المتحكمة اليوم بالسلطة في بغداد بمنطق المركزية وربما في كثير من مفرداتها بآليات لا تقف عند الاعتداء على الدستور والديموقراطية بل وتجسد الدكتاتورية بجوهرها...
والجديد في دكتاتورية اليوم أنها لا تتشدق بتأييد الأغلبية حسب بل وبأنها ممثلة السماء والذات الإلهية والنص الديني المقدس وهي بهذا تضع فروضها فوق أي منطق لعلم السياسة ولأدواته وتجيِّره في النهاية لمصلحة ادعاءاتها في التدين وخدمة الله وأوليائه وأوامره ونواهيه.. وحين تسأل عن أي نصوص يتحدثون تجدهم لا يتحدثون سوى عن مجتزأ من الدين وهم يحولون الدين لطقوس جنائزية دائمة وأحزان وعتمة وكأن الدين يتلخص في الخمرة والحجاب وفي طقوس ما أنزل الله بها من سلطان فيما الصلاح والإخاء والصدق والأمانة في العهود والإيفاء بها وعدم ممارسة الفساد كما في سرقة المال العام واغتصاب المحصنات واغتصاب أموال اليتامى وأعراض الأرامل وأمهات الشهداء فلا شأن لهم به ولا من يحميه.. إنهم لا يأخذون من الدين إلا ما يسترون به عورات الأداء وجرائم تحصل بحق الناس والقانون والعهود والاتفاقات...
ولكن بالمجمل ستبقى بغداد عصية على الردة نحو زمن الدكتاتورية وقواها الحية تعمل من أجل العودة لاتفاقات وطنية صريحة كما في اتفاق أربيل الذي تمت رعايته من السيد رئيس الإقليم.. وستتلاحم الجهود مجددا لإعادة استنهاض الاتفاق ومبادئه والعمل به لدفع المرحلة إلى أمام بدل من مراوحتها وربما تراجعها... ولعل تلك المساعي الإيجابية التي تتواصل اليوم تنطلق من أرضية مشرقة بنموذجها المعاش في كوردستان العراق.
فهناك في كوردستان يجري بأقل من نصيب المنطقة من الموازنة العامة، أي بأقل من 10% من الميزانية يجري البناء وتمضي التنمية بمستويات مهمة.. فيما التعايش بين مكونات المجتمع يتعزز بأجواء الأمن والأمان من جهة وبمسيرة السلام والبناء من جهة أخرى ما يؤكد صواب المنهج القائم على القانون وعلى السلطة المدنية لمؤسسات الدولة الأمر الذي كلما تعمق ازدادت مساحة التقدم والتطور ميدانيا وكسب الإنسان مزيدا من الحقوق والحريات وقدرات المشاركة الواعية في المسيرة...
فهلا عدنا إلى المؤتمر الوطني المؤمل هنا في ظلال أربيل الداعية لإعلاء المصلحة الوطنية بوقف التداعيات التي إذا ما تُرِكت فستودي بالعراق وهويته ووجوده!!!