الثورات العربية بين إعلاء الهدف الديموقراطي وبين سرقة جهودها؟
مفاهيم قيد التغيير الجوهري
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
رئيس المرصد السومري لحقوق الإنسان
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
بدأت شعلة الثورات في المنطقة، من منطلق انعدام الديموقراطية الاجتماعية وأمراض وتشوهات الأوضاع الاقتصادية المزرية للمجتمعات، في ظل تنامي تركيز الثروات بأيدي عناصر السلطة الاستبدادية وطغاة الحكم وحاشية كل منهم. ومن هنا فإنّ انطلاقة الثورات بدءا من تونس ومرورا بمصر وليبيا وليس انتهاء باليمن وسوريا، لم تقف عند حدود مطلب لقمة العيش بل كانت تعتمل في عمق الوعي الجمعي القائم على الحس الإنساني بيوميات المواطن ومطحنتها الجهنمية لتصرخ بأعلى الصوت بشعارات الديموقراطية...
أيّ أن الشعار الجوهري الذي جاء مع الثوار كان الخبز والحرية وملخصهما ممثلا بالديموقراطية: الديموقراطية السياسية حيث أنظمة القمع والطغيان استلبت إرادة الشعوب وجعلتها تئن من قيود العبودية؛ والديموقراطية الاجتماعية التي حُرِموا منها ومن فرص توفير الخدمات بإدارة عجلة الاقتصاد بأسس صحيحة تقضي على البطالة وتلبي حاجات المواطن الإنسان الحر لا المواطن الخانع مقموع الحق في التعبير عن ذاته ووجوده...
إذن، لم تكن الثورات الشعبية تعبيرا عن اندفاع عفوي نجم عن وصول الأوضاع المعيشية لمستوياتها الدنيا التي ما عاد بالإمكان تحملها بل كانت الثورات كذلك تعبيرا عن تطلع للحرية وأنسامها التي باتت تملأ أثير تلك البلدان عبر أدوات العولمة والتطور التكنولوجي وقدرات الاتصال بين الشعوب. لقد باتت الديموقراطية نموذجا يحيا في الأنفس وليس في فضاءات افتراضية ما دفع تلك الجموع للخروج إلى الميادين تجسيدا لصرخات تلكم الأنفس التي ماعادت تستطيع الكبت أكثر..
ومع أن حالات اليأس والاحباط قد دفعت أمثال البوعزيزي للانتحار كما فعل أو بأشكال أخرى سواء بتعريض الأنفس للموت أم بالانطواء السلبي والانزواء بعيدا عن الحياة وربما ممارسة انحرافات أو تشوهات ما، إلا أن اللحظة التاريخية أطلقت شرارة وعي جديد بمجريات الأمور فدفعت الجماهير نحو حالات الاحتجاج الإيجابي والخروج الواعي لميادين إعلان الرأي العام جمعيا فكانت تظاهرات الانتفاضة التي تحولت إلى ثورة شعبية ملموسة المفردات والأهداف.. فماذا أخرجت من القمقم تلك الثورات؟
في الحقيقة لم تقتصر الثورات الشعبية على تحرير ماردها الإيجابي بل أخرجت معها من القمقم ألف مارد آخر ليس أقلها خطرا تلك القوى الظلامية والحركات التي تتستر بالمرجعية الدينية وبالاعتدال والتمسك بأهداب الدين وتعاليمه وهي تضمر في رحمها عوامل دعم التطرف والإرهاب وملامح إقامة طغيان جديد يسرق الهدف الذي سعت إليه الثورات الشعبية...
إنّ احتجاج الشعوب استهدف مباشرة جهة الاستبداد التي جاءت بانقلابات ثوروية في العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، وظلت تبيع على الناس أوهاما وضلالات طوال تلك العقود. وها هي تلك الشعوب المنتفضة، نتيجة ضعف التنظيمات الديموقراطية وهزال مؤسسات المجتمع المدني فيها ومستوى الوعي السياسي الهابط في ضوء انتشار الأميتين، ها هي تكاد تنتهي إلى فقدان جهودها لصالح سوقة جدد من نهازي الفرص سارقي قوت بل حيوات الناس.. وهؤلاء [الساسة الجدد] يملكون مؤسسات وخبرات عريقة في الاستغلال والقمع والتشويه والتحريف والتضليل فضلا عن مخلفات النظام المنهار بما ترك من عناصره الجاهزة لارتداء أيّ حجاب وأيّ لون عمامة مقابل استمرارهم في سدة الحكم وسرقة الثروات، دع عنك الارتباطات الإقليمية والدولية ومصالحها في التفاعل مع أمثال تلك القوى النفعية...
لكننا بجميع الأحوال يجب أن نركز على أن الثورات الشعبية حققت بالتأكيد كسرا لحاجز الخوف وتحديا لفلسفة القمع ورفضا للخنوع والعبودية. كما حققت وضوحا في الرؤية في أنها حددت المستغِل الظالم وآلياته مثلما حددت هدفها في أنّ الخلاص من الاستبداد لا يكتمل إلا بإقامة البديل المؤسساتي القائم على فلسفة الديموقراطية وآليات ممارستها...
ومن الطبيعي أن تبدأ الأمور بتجديد العقد الاجتماعي ملخصا بالدستور وممارسة الانتخابات الحرة لإشادة مؤسسات يمكنها تلبية مطلب الانعتاق من بيروقراطية قاتمة لا تخدم إلا استبداد الطغاة وأوهامهم التي يشيعونها بلا قيمة تدخل في جيوب الفقراء. ولكن عقبات جدية خطيرة تكتنف فرصة إقامة الديموقراطية الحقة. أولها وأهمها الجهل والتخلف وشيوع الأميتين الأبجدية والحضارية. وثانيها طول وامتداد حقبة البطش بالقوى والتنظيمات الديموقراطية وعدم وجود الأسس المادية الملائمة لخروجها من سريتها بل هي ما زالت مطاردة محاصرة بإعلام تضليلي وبتشويهات تتلاعب بالخطاب السائد فضلا عن المصاعب الذاتية إذ أن أعضاء تلك القوى يبقون بمستويات خطابهم وحركتهم من أوساط الشعب ذاته وما يمتلكه من مستوى أداء، الأمر الذي سيعكس أمراضه وثغرات وجوده...
ومن هنا فإن الثورات لم تأتِ بربيع يفترش الأرض زهورا حسب وإنما نبتت وسط الزهور أشواك سامة باتت تصارع ضد ولادة مؤسسة مدنية ديموقراطية نموذجية.. وفي ضوء هذه القراءة لا ينبغي لنا أن نتحدث عن ربيع زاه جميل ولا عن نتائج إيجابية نموذجية مثالية. فالذي حصل أن الثورات فعل شعبي عفوي في الغالب يمثل الرد الجمعي العام لمستوى معين من فعاليات الطحن والاستلاب والاستغلال وصل بالشعب حد الانفجار. ذلكم صحيح ومنه وفيه تحقق كسر كثير من الحواجز إنما الهدف الحيوي الرئيس ممثلا بالديموقراطية سواء منها السياسية أم الاجتماعية والاقتصادية لا يمكن تلبيتها عفويا..
إذ بناء المؤسسة الديموقراطية يعني درجة نضج في الوعي من جهة ودرجة اكتمال في التنظيمات التي تقود الفعل الجماهيري الأوسع مع سيادة في القدرات المعرفية وانتظام الدورة الاقتصادية بطريقة سليمة تخلق مجتمع المعرفة الذي نشير إليه.. ومن التعقيد أن نخلق عصا سحرية لنقلة نوعية كهذه لنحقق هذا التقدم وهذا البناء المؤسسي المدني في بلدان مازالت كثير من فئات مجتمعاتها يحركها الخطاب البياني لا البرهاني خطاب الخرافة لا منطق العقل العلمي...
غير أن المرحلة الانتقالية بآلامها وآمالها يلزم لها قوى ديموقراطية تمتلك رؤية واضحة وحكمة سديدة تمكنها من أن تعرف اللعبة بأصولها ومفرداتها وتدرج فعلها وأن تكون فاعلا لا مفعولا وأن تكون فعلا لا رد فعل.. وهذا ما يمكن تلمسه وإن بضبابية في بعض القوى الديموقراطية الواعية. وهو ما يعني أن أملا وطيدا متاحا للتحرك النوعي المختلف باتجاه الهدف الديموقراطي..
فمثلا حركة مطلبية محلية ووطنية يمكنها أن تتابع العمل بالتظاهرات والاعتصامات والوفود والحوارات وبمختلف أشكال التعبير والتحدي المنتظر.. ومثلا أعمال توعية بخطابات ثقافية وسياسية ممكنة عبر أوسع الصلات الجماهيرية من كرنفالات واحتفالات ومؤتمرات تنعقد بدأب واستمرارية بما يحقق تفتيح الأعين على الحقائق وعلى ما جرى من خيار أول في ممارسة الانتخاب وما ينبغي في الخيار التالي تعزيزا لبناء مؤسسة ديموقراطية حقة..
لن تأتي الأمور سهلة ولكنها ليست أكثر تعقيدا من جهة العراقيل من زمن القمع والتحرك الفردي الضيق فالجديد أن العمل المؤسسي الجمعي للنضالات الشعبية باتت أوسع أو أكبر وهذه خطوة لا ينبغي أن يستهان بها ولا ينبغي التلكؤ عن ممارستها قبل أن تعاود النظم ممارسة القمع بالطريقة التقليدية وتعاود الأوضاع لاستيلاد سلبية جديدة ولكنها هذه المرة ستكون أكثر مرارة وأشد إحباطا...
إنما لابد هنا من التذكير بحقيقة جدية منتظرة من وراء الثورات الشعبية تلك هي الاعتراف بحقوق الآخر وبالتنوع والتعددية في تلك المجتمعات إذ أن الاعتراف بمكونات الشعوب قوميا دينيا عقائديا أمر يمثل ركنا جوهريا من أركان الديموقراطية واستكمالها.. ومن هنا فإن تلك المكونات التي ظلت مصادرة مستلبة الحقوق في ظلال خطاب تهميشها وتسميتها أقليات تابعة صارت اليوم تتطلع لحركة نوعية تالية تتمثل في مساواتها مع الآخر وإزالة مفاهييم أغلبية متحكمة وأقلية محكومة لتحيا في مجتمعات مدنية تساوي بين الجميع على أسس المواطنة من جهة وعلى أسس تلبية حقوق الشعوب المضطهدة من المجموعات القومية الأصيلة المكونة لتلكم الشعوب.. وهنا نذكر مكونات رئيسة مثل الأمازيغ في تونس والأزواد الطوارق في ليبيا والأقباك والنوبيين في مصر والكورد والمجموعات القومية والدينية الأخرى بسوريا وطبعا هذا ينطبق على حركات تقرير المصير للشعوب المصادرة في إيران وتركيا كما في حق تقرير المصير للكورد في موئل وجودهم بكوردستان المجزأة..
إن كلمة الحرية ما عادت شعارا مجردا والديموقراطية ما عادت لعبة انتخابية مفرغة من جوهرها بل صارت هدفا حيويا تتجه إليه شعوب المنطقة لتحقيقه وبناء مؤسساته بعد أن قدمت على مذبح الحرية تضحيات غالية من دماء بناتها وأبنائها... وتلكم هي صورة عجلى يمكننا قراءتها في دور الثورات الشعبية في بلدان المنطقة في تحريك الأجواء العامة و هزها عميقا قويا من دون أن نغفل بعض الإفرازات السلبية التي يمكن أن تحرف المسيرة إذا ما تلكأت القوى الديموقراطية في إجراءاتها وفي عقد مؤتمراتها محليا ووطنيا وعلى مستوى إقليمي مناسب، وهو ما نتطلع إليه ونعمل من أجله معا وسويا.