سياقات عمل السلطات الثلاث والقوى الموجِّهة فيها؟
وقائع اليوم الملتهبة والرد المنتظر
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
ليس هذا الموضوع [موضوع إعمال سياقات وآليات أداء السلطات الثلاث] مما يحتاج لكثير عناء وتوضيح عندما يتعلق الأمر بدول مستقرة وفي الديموقراطيات العريقة؛ ولكنه يبقى بحاجة لوقفات مطولة عندما يخص الأمر دولة تتجاذبها عوامل زعزعة الاستقرار والسلم الأهلي كما العراق. فمؤسسات الدولة ليست غير ناضجة وغير مكتملة حسب بل يكتنفها واحد من أعلى أشكال الفساد عالميا وتلكم المؤسسات من أوليات وجودها ومن بنيتها التحتية وحتى أعلى مستوى للسلطات الثلاث في البلاد لم تكتمل؛ فالسلطة التشريعية ما زال ينقصها أحد أجنحة وجودها، نقصد هنا مجلس الاتحاد على وفق الدستور، والسلطة التنفيذية ما زال ينقصها استيزار عدد من الوزراء لوزارات مهمة وذات أولوية سيادية، فضلا عن فكرة إعادة النظر بتشكيلتها من بوابة الترشيق ومحددات عديدة منتظرة، أما السلطة القضائية فما زال ينقصها استكمال وجودها من نصوص قانونية ومن بنية تامة الاستقلال وترتيبات وظيفية تشكيلتها..
وهذه الصورة السلبية تقابلها ظروف تراجيدية من موروث الخراب عن العقود السابقة ومن آثار السنوات الثماني المنصرمة من عقبات وعراقيل ومصاعب معقدة؛ الأمر الذي لا يتيح فرصة ملائمة للثقة بتلك المؤسسات وإمكانات الإنجاز في أي مفردة استراتيجية سواء منها الأمنية الداخلية أو الخارجية أم الاقتصادية بما تحمله من تضخم المشاكل من جهات نسبة الفقر وحجم البطالة وحجم تعطل المشروعات والخراب المنتشر فيها، زراعة أو صناعة أو خدمات إلى جانب مشكلات البيئة والصحة والتعليم وغيرها.. وكل ذلك لا يمكن أن يكون بمسؤولية طرف لوحده ولا بمسؤولية مجموع الأطراف بل هو بمسؤولية وطنية جمعية مشتركة في الخلاصة النهائية..
ولقد سارت العملية السياسية في مثل هذه الأجواء على أساس من التوافق والشراكة بين أطرافها التي اتسعت تدريجا وإن تراجعت خطوات في أحيان أمام تقدم بضع خطوات متواضعة.. وهذا ما يدعو لتعميق الجهد وإغنائه بأوسع مشاركة وطنية، من أجل الوصول إلى غايات استكمال البنى المؤسساتية للبلاد وفي ظروف التوجس والحساسيات وربما حتى انعدام الثقة تبقى حال الشراكة في تشكيل الحكومة مطلوبة لمجابهة إشكالات الثقة وتطويرها وتعزيزها تدريجا مع التقدم في بناء مؤسسات السلطات الثلاث...
وعلينا أن نتذكر هنا أنّ كثيرا من المشكلات من قبيل أفعال فساد كبيرة [ربما بمستوى جرائم] وأخرى اشتملت على حالات عنف وتصفية حسابات بلغت أحيانا المواجهات القتالية بميليشيات أو اغتيالات [ربما] تكون قد جرت من قبل (بعض) عناصر تنتمي لقوى الشراكة جميعا من دون استثناء.. بمقابل ذلك، فإن كل تلك القوى الوطنية المخلصة بأغلبية مكونات تنظيماتها الحزبية، دعت وهي القوى المشاركة في إدارة العملية السياسية، إلى الانتهاء من مرحلة وجود الميليشيات وإنهاء حال انتشار السلاح بأيدي خارج المؤسسات الرسمية للدولة.. وهنا لابد من توكيد سلامة تلك القوى الحزبية [بمجمل وجودها العام] وبالتأكيد سلامة مكونات الشعب وأطيافه من أية اتهامات ربما تخص عنصرا أو أفرادا ولكنها لا تشمل الكينونة الكلية لأي طرف، إذ الثابت النهائي هو القناعة بالشعب وخياراته في تبنيه العملية السياسية والتعايش السلمي بين الجميع... أما مشكلات مثلث (الإرهاب الطائفية الفساد) فإنه يعود لقوى وعناصر لا تشكل أكثر من الأقلية ومن اختراقات هامشية لهذا التنظيم أو ذاك..
نسجل هذا مع إدراكنا حقيقة أن برامج هذه الكتلة أو تلك ربما ساهمت بقصورها أو بثغراتها في مشكلات أو عقبات أو ماشابه لكن منطق الديموقراطية لا يدين برنامجا أو وجودا سياسيا بل يتحدث عن البديل الأفضل في مسار تداولية السلطة من أجل تحقيق استجابات لمطالب مسار الفعل العام... وتلكم ما ينبغي أن نعيه ونثقف به اليوم..
وفي ضوء كل ما تقدمنا به، فإنّ قراءة تداعيات الخطاب اليوم ومفاصله الإجرائية تتطلب الآتي:
أولا: وقف خطاب تبادل الاتهامات حيث كل طرف يحمِّلُ الآخر مسؤولية الأزمات.. إذ الجميع في سفينة واحدة هي سفينة الوطن الواحد..
وثانيا: ينبغي وقف حالات التصيّد في الماء العكرة التي يختلقها أعداء الشعب ويفتعلون أحداثها للإيقاع بين أطراف العمل السياسي..
وثالثا: ينبغي وقف القرارات الأحادية التي تنجم عن محاولات الإيقاع وتدفع لإجراءات مستعجلة كثيرا ما جانبت الصواب في اتخاذ القرار المناسب، لأنها لا تمثل أكثر من ردود انفعالية سلبية تلبي مآرب أعداء الشعب والسلم الأهلي ولا تخدم طرفا وطنيا...
إنَّ هذه اللحظة الحرجة تحمل في طياتها مزيدا من فعل القوى الإرهابية التي تصعِّد أفعالها الإجرامية استغلالا لأجواء الاختلاف؛ توافقُها في هذا عناصر ذات خلفية طائفية وأخرى همّها الأساس تلبية منافع خاصة على قاعدة الفساد وآلياته... فهل من الصائب الخضوع لمآرب التصعيد؟
بالتأكيد سنجد إجماعا على رفض ذلك؛ ولكن الخطورة تكمن في أن تكون مداخل الثقة الضعيفة فرصا للتفكير بأن المجابهة المنفردة هي الأسلم، فتبدأ في ضوء ذلك قرارات التضاغط السياسي لتنفيذ فكرة الانفراد بالعمل بالاستناد إلى أغلبية ربما تحصل وربما لا...
إنّ أيّ طرف يعتقد بأن لحظة مغادرة آليات العمل المشترك، يرتكب بقراره استعجالا مخلا بمتطلبات المرحلة التي تتمثل في استكمال الاستعدادات لبناء ناضج لمؤسسات السلطات الثلاث..
وفي مجمل ما يجري هناك، حال من محاولة حصر سلطة القرار بيد طرف وهذا ما لا يقره لا الدستور ولا منطق المرحلة ولا طبيعة العلاقات القائمة مؤقتا من اهتزاز ثقة لدواعي مررنا على بعضها في بداية قراءتنا هذه..
فالقضية ليست في النقل الحرفي لآليات الديموقراطية وممارستها بتطابق رياضي محسوب رقميا وبوضح ليست فيما توصل إليه طرف أو آخر بأنه بات التغيير مطلوبا على أن يكون محكوما بتفرده هو بما يعتقده صواب اللجوء لسلطة الأغلبية! والقضية إذن، ليست نظريات ما فوق الواقع؛ إنها إجراءات فعلية عملانية تأخذ بالحسبان مجريات الوقائع كما هي.. كما تنظر لطبيعة العلاقات فيما بين أيدينا من قوى فاعلة متحكمة بالمشهد السياسي ولو مرحليا... طبعا لا يمكننا القفز على مستويات تطور الواقع والعلاقات القائمة لأن ذلك أما مستحيل لعدم توافر البدائل آنيا فوريا أو يقوم على آلية تصفية حسابات وصعود طرف على حساب آخر وإدخال البلاد في نفق الانفراد بالقرار من هذا الطرف أو ذاك بسبب من حال الإقصاء والإلغاء.. فعلى الأرض سيعني هذا إخضاع البلاد لتقسيم يجسد التقسيم الفوقي القائم على مرجعيات طائفية مشحونة ومتوترة متضاغطة أو محتربة...
إننا سنبقى ندور في فلك استيلاد الأزمات طالما أبرزنا قرار استبعاد أو إقصاء رمزي يشحن أو يوتر الأوضاع.. بينما البديل مواصلة العمل لتطبيع الأجواء وتمكين المؤسسات من أداء مهامها وظيفيا وعلى وفق أنظمة ولوائح وقوانين يجري تشريعها تدريحا وعلى وفق الأولويات القائمة فعليا..
إن من أولوياتنا اليوم، الابتعاد على الحسابات الضيقة فئويا حزبيا. وانتزاع خطاب الإقصاء والإلغاء وإنهاء خطاب تبادل الاتهامات..
ولابد من التوجه إلى برمجة عمل الحكومة بمفردات توافقية معلومة يمكنها أن توفر أرضية تشريع القوانين الرئيسة للعمل السياسي والحكومي. ولعل موضوع قانون الأحزاب وقانون الانتخابات وتشريع قانون مجلس الاتحاد ولوائح عمل الهيآت القضائية وضمان الاستقلالية هي من الأولويات الأبعد خطورة على مستوى السير ببنية الدولة ومؤسساتها وإنضاج وجودها وإنتاجيتها...
من هنا فإن أمورا تخص موضوع الأقاليم وتطبيقات الفديرالية أو صلاحيات المحافظات والعلاقات مع دول الجوار والمواقف الاستراتيجية للبلاد والاتفاقات الضامنة للحقوق والحريات وللعمل الوطني بخاصة منها هنا سيادة فلسفة التسامح وآلية الحوار والشراكة الوطنية، هي أمور منتظر دراستها بتأن وتؤدة بعيدا عن إخضاعها للحسابات الخاصة خارج وطنية...
إنّ محنة المؤسسة الحكومية الرسمية بخاصة منها الأمنية العسكرية والقضائية ستكون أكبر وأخطر لو أننا وضعناها تحت معاول فلسفة التشكيك وانعدام الثقة وضربات القوى الحزبية ومصالحها الخاصة حيث البقاء لمن يتحكم بهذه المجموعة أو تلك من المؤسسات وكأنها حصة أو غنيمة يوجهها بطريقته الخاصة...
إن رجال تلك المؤسسات هم أبناء الشعب أولا وآخرا وهم ليسوا ملائكة من الفضاء الخارجي.. وحيثما منحناهم الاستقلالية والثقة نجحوا في مهامهم وحيثما تم استغلالهم فئويا حزبيا فشلوا في ضمان أمن أو عدل أو أداء مهمة أو أخرى...
ولعل خير دليل على ما يجري اليوم من احتقان هو ما تعلق بشخص أحد نواب الرئيس الأمر الذي يتطلب من جهة أقصى درجات التفاعل الحذر مع التداعيات وضبط النفس وإعلاء المصلحة الوطنية.. فمن جهة رئاسة الوزراء ينبغي أن تكون بعيدة عن التدخل في قرارات القضاء وأن يعلو صوت الأخير في كل المراحل الإجرائية وربما تطلب نقل بعض أو كل الإجراءات إلى محافظة أو أخرى مثلا نقلها إلى إقليم كوردستان وطالما القضية منظورة قضائيا على الأطراف المعنية الامتثال للقضاء دعما لسلطته وإحقاقا للقانون وسموه وطنيا..
وبدلا من أن تكون هذه القضية شرارة اشتعال سلبي وافتعال لأزمة ينبغي أن تكون طريقا لأعمق إجراءات التحول لسلطة القانون واستقلالية القضاء وقدراته على المضي بنا في دولة مؤسساتية...
ولن تكون إدانة متهم إدانة لجهة حزبية أو مكون أو طرف وطني ولن تكون تبرئته خسارة للمقابل.. بل ستكون النتيجة قوة لجميع الأطراف الحريصة على إنفاذ القانون وسلطة القضاء وتفعيل دوره وطنيا...
ولتؤخذ الأمور على أساس من مصداقية النوايا وصواب الإجراءات من جميع أطراف القضية.. أما سياسيا فينتظر من النخبة السياسية على الرغم من التراجعات والخسائر البادية أن تكون بمستوى المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتقها وتلتقي في حوار صريح ينصب على مواصلة مشوار العمل المشترك..
وربما كانت الإجراءات الآتية هي ما سنراه فوريا ومباشرة:
1. الاستجابة لدعوات اللقاء المشترك الطارئة العاجلة للقيادات العاملة.
2. الاتفاق على جملة إجراءات عاجلة أولها نقل قضية السيد نائب الرئيس لكوردستان وإعمال الإجراءات وتلبية متطلباتها القضاية القانونية كافة من جميع الأطراف..
3. إيقاف كل الخطابات الإعلامية المشحونة أو التي تستند إلى تغذية التوتر وآلية الاتهامات المسبقة..
4. إعادة الحكومة والبرلمان لانعقاد جلساتهما العادية بكامل الأعضاء.
5. وضع أسس مؤتمر وطني [تشارك فيه القوى المؤمنة بالعملية السياسية من داخل البرلمان ومن خارجه] على مستوى القيادات لمناقشة شؤون استكمال الشتريعات المنتظرة التي تتقدم بنا خطوات باتجاه استكمال مؤسسات الدولة تشريعيا تنفيذيا قضائيا...
6. أن تتصدى القوى المجتمعة حاليا للجنة تحضيرية ولبرنامج عمل وطني إجرائي استثنائي يطرح على المؤتمر الوطني..
7. التفكير بجعل المؤتمر المنشود سنوي الانعقاد باسم مؤتمر التسامح والحوار الوطني لحين الانتهاء من استكمال القوانين والتشريعات والمؤسسات وإشاشعة الأمن والاستقرار والسلم الأهلي وإطلاق حقيقي لعجلة الاقتصاد العراقي...
أيتها العراقيات أيها العراقيون أنتم على مفترق طرق ووعيكم وصبركم وتفاعلاتكم الإيجابية هي ما سيعيد الاستقرار إليكم، لن تنزل الحلول عليكم من الفضاء ولن يحفظ لكم وجودا وطنيا مستقلا آمنا زاهرا إلا فعلكم الجمعي المشترك..
لا خيار لكم اليوم سوى مؤتمر التسامح والحوار الوطني مع ممارسة جدية بهذا الاتجاه.. أما التفكير باجترار جرائم الماضي وإعمال فلسفة الثأر والانتقام فلن تعود عليكم إلا ما عادت به حرب داحس والغبراء قبل مئات سنين وجود القبائل المحتربة وليس سمنطقيا أن يفكر أبناء اليوم بمنطق أبناء ألف عام خلت... وأنتم أصحاب القرار.. ليرتفع شعار الجميع العراق خط أحمر وليس هذا الطرف أو ذاك ولا هذه الشخصية أو تلك مع عميق احترامنا لرموز جميع الأطراف ولفلسفاتها السياسية...
أيتها العراقيات ايها العراقيون لا تستهينوا بهذه اللحظة ولا تأخذكم العاطفة والانفعال وخطاب هذه الشخصية أو تلك بل ليرتفع ردكم الموضوعي الأعمق بأن سقفكم الأول والأخير وهدفكم النبيل السامي هو عراق حر مستقل ديموقراطي يحيا فيه الجميع بمساواة وعدل واستقرار وأمان.. وتلكم مهمتكم الأسمى والأعلى وأنتم قادرون على حفظ أمانة وجودكم ومصيركم...
ولنا لقاء لا ينتظر تعليقات وكلمات بل أفعال مشرقة خيرا من جميع الأطراف.