المجتمع الكوردستاني: مجتمع ثقافة مدنية تحترم التعايش السلمي؛ فمن يقف وراء افتعال أشكال العنف؟
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
يحيا بكوردستان مجتمع مدني تعرض للفضائع والحروب وأهوالها؛ ودفع ثمن ما فُرِض عليه، من عنف دموي، مئات آلاف الضحايا قرابين لتلك المعارك! فيما انتقل هذا المجتمع بعد انتصار ثورته إلى بناء أسس دولته المدنية ومؤسساته الرسمية والشعبية ليشيد تنظيما مدنيا حديثا بكل قيم العصر التي تُبرِز حقوق الإنسان وتعمِّد الحريات وتحترم التعددية والتنوع...
إنَّ أسس التعايش السلمي باتت مكينة في المجتمع الكوردستاني انطلاقا من تلكم التجاريب المتناقضة سواء منها العنفية وما أفرزته من آلام ومواجع ومن تحذيرات ونُذُر اختزنت الخبرات تجاهها، أم السلمية التي منحت الإنسان الثقة بفضاءات عيشه وانصرافه لأعمال البناء وتطبيع أجواء العمل الإنساني الحر وما أكدته من إشاعة الاستقرار والسلم الأهلي وجعلته نموذجا مهما في محيطه...
ولكن، في وسط هذا المجتمع المدني الذي بات يتطلع من حال الاكتفاء بأسس التعايش السلمي إلى حال فاعلية حركات البناء والتحديث وتوطيد عناصر مسيرة التقدم، في هذا المجتمع الذي يحمل روح السلم الأهلي: نتساءل عمَّن يحاول إثارة الاحتراب أو مَن يقف وراء محاولات افتعال أشكال العنف والتخريب، مما طفا على السطح مؤخرا؟؟
ينبغي بدءا أنْ نفتش في موضوع الحريات الخاصة والشخصية؛ مَن يتحكم بها في دولة مدنية معاصرة؟ ماذا يحكمها من ضوابط وقوانين؟ وسنجد في أية إجابة، أنّ من يحكم الحريات والعلاقات بين الأفراد ويضع الضابط لها هو القانون المدني الذي باتت الإنسانية بمختلف الدول تحتكم إليه.. فمِن دون ضوابط تحكم الوجود الإنساني في بلد أو آخر لا يمكن إلا أنْ نكون في غاب وقوانينه، أي في حال من الاحتراب ومن الاعتداءات والحكم والغلبة في مثل تلك الحال للأقوى عنفيا!
بينما لا يمكن للإنسان بعد أن قطع أشواطا بعيدة من تطور بنية الدولة والمجتمع إلا أن يحتكم لعقد اجتماعي يحيله إلى تفاهمات مدنية تمنحه حقوقه من جهة وتضبط حدود حرياته بخط الشروع والابتداء لحريات الآخرين..
بمعنى أنّ أيَّ طرف لا يمكنه أنْ يفرض على الآخرين اعتقاداته وأفكاره وفلسفته وسياسته.. وإنما في المجتمع الإنساني المعاصر سيكون لكل طرف دينه وللآخرين أديانهم وله حقوقه وعليه واجباته بمثل ما لهم وعليهم؛ وعلى وفق عقد اجتماعي يساوي بين الجميع ولا تعلو في ظله يد على أخرى ويكون ذلك العقدُ القانونَ الناظم للعلاقات وللحقوق والواجبات..
ومن أجل هذه الحقيقة، أي حقيقة القانون الذي ينظم الحياة العامة وتفاصيلها، لابد من خضوع الجميع للقواسم المشتركة التي تلبي إشاعة التعايش السلمي والانصراف للعمل والبناء. بالمقابل مَن يخرج على القانون يتمثل بحالات شاذة من تلك التي وقعت في حالتين أما نفسية وأما فكرية فلسفية:
1. أما الأولى [النفسية] فهي من التربية الفردية الخاصة ومن انعكاسات التجربة الشخصية غير السوية التي ربما تدفع لضيق أفق وأوضاع نفسية مرضية تدعو لعدوانية أو عدائية في السلوك وفي العلاقات مع الآخر...
2. وأما الثانية [الفكرية السياسية] فهي ناجمة عن فسحة أكثر من الصائب حيث تعمل بتلك الفسحة قوى التشدد والتطرف والعنصرية والفاشية. وعادة ما تكون هذه القوى ذات خلفية عقائدية جامدة وفي الغالب تستخدم الإسقاط الديني حيث استغلال المقدس في خطابها.. وهذه القوى تعتمد فكر أنها القوة الوحيدة الصائبة الصحيحة وأن الباقين مُكفَّرين في ضوء هذا اللامنطق.. وبعد التكفير لا تكتفي تلك القوى الشاذة بالإلغاء الفكري السياسي بل تتجه لفرض قسري لما تريد وتبتغي بقوة العنف والتدمير والتخريب والتقتيل...
ولقد شاهدنا مثالا على ما نذكر هنا، حالات الاعتداء على الآخر بهدم الكنائس والمعابد وتخريبها والاعتداء على من فيها وربما وجدنا ما هو أكثر من إشعال الحرائق حيث التقتيل والاغتيالات الفردية والجماعية وعمليات التهجير القسري..!!!
وربما استغل بعض أنفار من الموتورين نفسيا ومن المتشددين المتطرفين فكريا سياسيا مفردة، من آيات من النصوص الدينية يفسرونها بالتأويل وبإعوجاج، بما يلائم الدعوة لأغراضهم ومآربهم وبما يجذب بعض مغرَّرين ومضلَّلين لتنفيذ أعمال البلطجة والتخريب والتقتيل؛ وهنا نحن بحاجة لحسم واضح صارم يحمي المجتمع المدني ويضمن سلامة الأجواء العامة من أولئك...
فنحن بحاجة لدراسات وبحوث ميدانية استقصائية في مراكز بحثية متخصصة ومستشفيات وتوجيه خطط الجامعات والأقسام العلمية فيها نحو الواقع الميداني المخصوص.. وطبعا نحن بحاجة لتلبية نتائج تلك البحوث وتوصياتها من مجموع الوزارات والجهاز الحكومي المسؤول..
فيما ينبغي من جهة أخرى مراجعة القوانين التي تحسم الأمر مع القوى العنصرية وعناصر التشدد والتطرف وتمنعهم من سلوك البلطجة وفرض سلوك عنفي من أيّ نوع على الحياة العامة والمجتمع أو طرف فيه.. إلى جانب توسيع فسحة العناصر التنويرية وتثقيفها وأداء إعلامها بأوسع نطاق مجتمعي...
إنّ تلك القوى العنفية ربما تحصر اليوم أفعالها باتجاه قوة مستضعفة من أقلية دينية أو فئة اجتماعية وممارسة بعينها لكنها في الغد لن توفر جهة أو تحدد طرفا وهي لن تمنع نفسها عن فرض فلسفتها وقيمها وأوامرها ونواهيهها على كامل فئات المجتمع!
إنها اليوم تتحدث عن (أسلمة) بالمعنى العام ولكنها في الحقيقة تمهّد الأجواء لحكم شمولي مطلق لعقيدة التطرف والغلو في الدين مما لم يقبله دين أو قانون...
لقد تنامت قوى متشددة خلف أسوار المساجد وصارت تسفِر عن مطامعها السياسية وخرجت اليوم لتضرب بمعاولها التخريبة وأفكارها وسياساتها الهدامة بجدران محلات وأسواق ومنتديات ولكنها إذ تبدأ ظهيرة اليوم بهذه الأحجار فإنها لن تكتفي في مسائه إلا بالقتل وبفرض شامل لسلطة ظلامية تمرّر نواياها الخبيثة المرضية!
إنَّ الحسم، يكمن في تطبيق قوانين الأحزاب والحريات والحقوق.. فقانون الأحزاب ينبغي أن يحاسب الحزب الذي تخرج قوى من داخله بهذه الطريقة الهوجاء على القانون وتشيع تخريبا وتقتيلا فهو مسؤول عن عناصره وضبطها وهو مسؤول عن سياساته وممارسات أعضائه وهو خاضع لإجازة الحزب على وفق قانون واضح وحازم...
وهذا الحساب ليس نهاية المطاف وهو لا يعفي العناصر الفاعلة للجريمة من العقوبات الجنائية الصريحة الصارمة.. لأنّ أيّ تسامح لأية أسباب أو دواعي ستتجه بنا إلى المجهول، بلى إلى المجهول بعتمته وظلمته؛ ولكن المجهول هذا يعني مما يعنيه الخراب المطلق! والقانون لا يعفي عناصر التحريض ولا يفصلها عن عناصر التنفيذ في أية جريمة، وهذا ما نعنيه بالحزم والمحاسبة القانونية...
والحسم، في الأمر لا يقف عند المحاسبة مع حال أو آخر من الأفعال الإجرامية بل ينبغي البحث في أسس الوقاية القائمة على إنفاذ القوانين التي تمنع وتحظر العنصرية الشوفينية والقوى الخارجة على السلامة الاجتماعية وتلك الشمولية الفاشية التي تعتمد التكفير ...
كما ينبغي البحث في الأدوار الخاصة بكل جهة مجتمعية بحثية أو تعليمية أو إعلامية أو ثقافية وبأدوار منظمات المجتمع المدني؛ إلى جانب تفعيل الأداءء التشريعي للبرلمان وأجهزة الحكومة وسلطتها التنفيذية الأكثر فاعلية..
وللموضوع بقية تكم بمعالجات وتداخلات وتفاعلات تنبع من داخل وجودنا وتبادل الرؤى واتخاذ احترازات واولويات وتجنب إهمال واقعة صارت تتكرر هذه المرة في وضح النهار...
ولشعب كوردستان ثقة بمؤسساته وقياداته في هذا الحسم المنتظر.................