الفديرالية بين تعميق آليات العمل الديموقراطي وعقبات المسيرة
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
(1)
توطئة:
سجل التاريخ السياسي للشعوبُ أنظمة سياسية اعتمدت المركزية وآليات الدكتاتوريات المعروفة وأشكال الحكم البطرياركي الذي مثَّل فيه المركز كل مشتملات الحياة العامة وتفاصيلها، فقُمِعت الهويات المتنوعة قوميا دينيا.. لكن ذلك كله عاش التغيير الذي حملته عملية ظهور الدولة الحديثة وتبنيها خطابا سياسيا جديدا اعتمد نظام الفصل بين السلطات والاحتكام إلى دستور متواضَع عليه من الأغلبية غير المستبدة.
وبالنظر في تاريخ شعوب وادي الرافدين، نجد أنها عاشت بروح من التآخي والسلام في ظلال وحدة إقليمها وفي ضوء حضارتها الإنسانية المتفتحة.. وقد سجل التاريخ لهذه الشعوب تفاعلها وانسجامها في كيان اتحادي لم يغمط ْ فيه استقلالية مكوناته وخصائص الهوية فيها، فحوفِظ على الشخصية القومية وَنمَت اللغات المتعددة وتطورت تحت خيمة تلك الحضارة. مع أننا من جهة أخرى نقرأ وجهاَ َ مختلفا بانهيار الحضارة وبالانكسارات العسكرية التي تعرضت لها حيث تعاقبت على العراق القديم والوسيط وحتى مطلع تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ظروف تاريخية عرَّضت الشعوب السومرية لمظالم عصيّة على الوصف وكان من ذلك المذابح الجماعية وعمليات القمع لمختلف المجموعات الدينية و القومية ..
ومع ظهور الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى وتعاقب الحكومات المختلفة تعرض أبناء الفراتين لمظالم جديدة استندت إلى سياسة تفرقة دينية وطائفية وقومية وأثنية...
لقد كان من نتيجة هذه السياسة إثارة الفتنة والاحتراب وافتعال الصراع والصدام وخلق أجواء انعدام الثقة بسبب ما يحصل على أرض الواقع من الحرمان من الحقوق بأبسط أشكالها بدءا من حقوق العمل والتوظيف والسكن مرورا بحقوق الأمن والحياة الكريمة وحتى مجرد التحدث باللغة الأم وليس التعلم بها وتداولها في المحافل الثقافية والرسمية بوصف ذلك حقا مكفولا؛ ويلاحظ المتتبع لهذا الشأن أنَّ النظام الدكتاتوري قد حرَّم على هذه الشعوب حتى استخدام أو حمل الأسماء الدالة على الشخصية القومية أو الدينية لحاملها وظهرت عمليات (التطهير) باستباحة المدن وإبعاد سكانها الأصليين من الكورد والتركمان والآشوريين فاختفت قسراَ َ مدن كوردية وتركمانية وأخرى آشورية من الخارطة الديموغرافية للبلاد...
(2)
تفاعلات شعبية ورؤى في البديل:
إنّ الإجابة المباشرة والحل الجوهري لمثل هذه المسيرة ونتائجها السلبية جاءت بأن اختار الشعب العراقي بكل مكوناته وأطيافه النظام الفديرالي تعميقا لأسس الديموقراطية التي تطلع العراقيون جميعا لممارستها بعد التغيير الذي جرى في العام 2003. ذلك أنّ اعتماد آليات ديموقراطية مع وجود حكومة مركزية [غير مكتملة] في هذه المرحلة قد يُبقي على احتمالات سلبية عديدة من بينها ممارسة أفعال تشير إلى القصور بحق كثير من المحافظات التي تتطلع إلى تلبية مطالب أبنائها وإنهاء سنوات المعاناة العجاف..
وهكذا كان الخيار والحل الحاسم راهنيا [كما رؤى الشعب وخبرات متخصصيه] مجسدا في العمل بفديرالية كوردستان وفي الاحتكام (عراقيا) إلى دستور دائم يحترم قيم التعددية والتنوع (المجموعات الدينية والقومية التي تعايشت تاريخيا في العراقين القديم والحديث) ويحظر تمييز مجموعة على أخرى بسبب حجمها النسبي أو سطوة هذا الحجم على السلطة ونظام الحكم... على أنّ كل ذلك يجري على وفق أسس الدولة المدنية المعاصرة وبعيدا عن إدخال أية خطابات ماضوية ما قد ينحرف بآليات الديموقراطية باجترار مفاهيم دويلات الطوائف أو صيغ أخرى لها في عصر ما بات يمكن العيش فيه من دون أدوات الحداثة والمعاصرة...
(3)
مفهوم وتطبيقات النظام الفديرالي بين التجاريب العالمية والتطبيق المحلي:
هناك أسس متنوعة للفديراليات وتجاريبها عالميا وهي بحاجة لوقفات ودراسات طويلة معمقة؛ نتناول هنا باختصار بعض ما يخص موضوعنا ولنبدأ بقضية الجغرافيا جوهرا لقيام الفديرالية؟ ففي تجاريب الشعوب كانت الجغرافيا إحدى أسباب اختيار النظام الفديرالي.. ولكن أية جغرافيا؟ وما المقصود بكونها سببا مكوِّنا أو دافعا لقيام هذا الخيار؟ والإجابة تقول: إنّ سعة الرقعة الجغرافية بدرجة كبيرة ومن ثمَّ تنوعها واختلافها وظهور الحواجز الطبيعية بين إقليم وآخر هو ما قد يدعو لاتخاذ الفديرالية الجغرافية نظاما للحكم.. والمثال أن يوجد فاصل طبيعي كالبحر أو سلسلة جبال أو صحارى شاسعة وما يشبه ذلك من ترامي أطراف الدولة بشكل كبير ووقوعها في مدارات أو أقاليم مختلفة مناخيا أو بيئيا كما هو حال الدولة الروسية أو الكندية أو الأمريكية من جهة الجغرافيا لا من جهة الخيار...
فهل يتشكل عراقنا من مساحات مترامية تتباين وتختلف عن بعضها بعضا جغرافيا؟ وهل يوجد ما يقسِّم الدولة العراقية على أقسام أو أجزاء كسلسلة جبال بين الجنوب والجنوب أو الجنوب والوسط أو الوسط والغرب (وهي المنطقة المقترح تقسيمها)؟ أو أنَّنا نمتلك سهلا رافدينيا واحدا يشترك بكل تفاصيل مناخه وبيئته الجغرافية؟
أما الحديث عن فديرالية إدارية فهو من باب أولى يجب أن ينظر في المشكلات والأعباء التي سيجلبها هذا الاتجاه من أثقال وأحمال ومن سلطة بيروقراطية مقيتة لن تكون بالتأكيد بديلا عن أخطاء إدارة الحكومة المركزية.. ولا تمثل علاجا لاستراتيجياتها حتى بالاعتقاد أن حواجز الانفصام بين إقليم وآخر أو بينه وبين المركز هي ضمانة، فقد تكون كذلك شكليا ولكنها في جوهرها ستضفي احتداما وإشعالا لنيران تصعيدية أخرى يوم تقرر الحكومة المركزية فرض إرادتها أو يقرر طرف التصدي لسلطة القهر أو ما يراه مخالفا لرؤيته.. ومثل هذه التداخلات ليس حلها الفديرالية الإدارية، بما تقصده من أهداف تحاول تطمين الخصوصية المحلية وتستجيب لسرعة أداء وإنجازية فاعلة.. فالفديرالية الإدارية في ظل عدم استقرار البلاد هي عبء كما أوردنا لا حلا...
وبعامة فإن تقسيم بلادنا في المرحلة الراهنة حتى لو كان على أساس فديراليات من أي شكل لا يقوم على أسس سليمة، أمر يضعها نهبا لقوى أجنبية بأيدي محلية ولا نسميها وطنية قطعا.. و ليس صحيحا تقسيم العراق بفديراليات طائفية في الجنوب أو في الغرب تلغي وجود التداخل والتعايش الديني والمذهبي والقومي وتصادر حال الوجود المشترك وتفرض العزل الطائفي فتكون وبالا على العوائل العراقية المكونة من أبوين من مذاهب أو ديانات أو قوميات مختلفة وهي تحطم الأساس الاجتماعي وتحطم الوحدة الوطنية وتؤسس لاحتراب دائم بمرجعيته الطائفية.. وفي الوقت الذي تلغي المواطنة تعود بنا دورة دهر إلى الوراء حيث ظهور العامي والسيد وفيها التابع والمالك أو السركال أو المتنفذ أو الحاكم وما إلى ذلك من تسميات كلها تصب في سلب حرية العراقي؛ وهي في خطابها تعلن أمرا وتخفي خلفه وتحته أمورا ليس آخرها شرف العراقي وكرامته بل امتهانه وإذلاله... فهل بعد ذلك يصح القبول بدعوة إلى الفديرالية الجغرافية أو الإدارية المزعومة؟!
(4)
تجربة إقليم كردستان وعلاقته بالحكومة الاتحادية:
إنَّ قراءة واقع الحالة العراقية يؤكد على خصوصية التنوع القومي والأثني فيها وهو ما يستدعي من أي نظام دستوري أنْ يجسِّده استكمالا لأي تعاطي جدي وحقيقي مع الديموقراطية فلا ديموقراطية في عراق المستقبل من دون فديرالية تجسد الاستجابة الطبيعية لمعطيات هذا الواقع المخصوص بالحدود الفعلية الصائبة. إنَّ الفديرالية بقدر تعلقها بالنموذج الفعلي القائم ممثلا بكوردستان ليست حقاَ َ افترضته الأمزجة السياسية التي تتناغم اليوم مع الجو المفروض على الصعيد العالمي والإقليمي وهي ليست وسيلة لتطمين الأنفس من احتمالات انحراف السلطة المركزية تجاه مطالب شعب كردستان حسب؛ ولكنها في الحقيقة فوق ذلك حاجة ماسة للتعاطي مع الواقع إذْ أنّ أيّ حكم مركزي (مباشر) يتعارض مع التركيب المميز والمخصوص للإقليم الذي يحتاج لإدارة نابعة من شعبه لا تستطيع التعامل مع حاجاته بشكل موضوعي ينسجم مع تطلعاته واختياراته الإنسانية (المستقلة).
ولكن ما مدى إمكان وجود فديراليات أخرى في العراق اليوم؟
(5)
آفاق تطبيق النظام الفديرالي في محافظات العراق:
كما أسلفنا القول، فلقد جاء إقرار العلاقة الفديرالية لإقليم كوردستان في إطار الدولة العراقية تجسيدا لمخاض طويل ولخيار العراقيين بخاصة هنا الجناح الثاني للبلاد أي المكوّن الكوردي الذي خرج من تجربة تاريخية مريرة مع الأنظمة المركزية السابقة وبافتقاد ثقة قسري عبر مسار لم يشهد الأمان ولا الاستقرار والسلام يوما.. وإذا كان تثبيت مبدأ النظام الفديرالي أساسا للدولة العراقية؛ فإنّ ذلك جاء ليحكم العلاقة التي تعرضت عبر تاريخها لشروخ الاحتراب التي أوقعت المآسي والكوارث الاستثنائية في أبناء كوردستان بخاصة..
ولكننا لا نجد حالات نظيرة لإقليم كوردستان عراقيا.. إذ ليس من الصحيح الاستجابة لرغبات تتحدث عن مشابهة بين حق محافظات عراقية وبين حال مخصوص للإقليم، فمثل هذه المشابهة ربما من بين نياتها سحب حق شعب كوردستان في تقرير مصيره على وفق القوانين الدولية المعمول بها وعدّ فديرالية الإقليم شبيهة بأية فديرالية يريدون استيلادها غلطا أي في توقيت وفي ظرف غير مناسبين ولكنّ الأمر ربما يأتي مبيتا.. بما يصوّر العلاقة الفديرالية كأنها منحة من (المركز) يمكن إدارتها مركزيا فوقيا بالطريقة التي تراها الحكومة الاتحادية وتتحكم بها كيفما تشاء وفي أي وقت تشاء، بخلاف الحقيقة والحق المثبت في القوانين الدولية والمحلية!
أما الزاوية المستجدة في طروحات ما يسمى إقاليم المحافظات فهي تلك التي لا تجد مبررا لها كونها أما تستند لبعد طائفي أو أية ذرائع تتستر بالسمة الإدارية أو ما شابه وهي لا تمتلك عمقها القانوني [نتحدث هنا عند الروح القانوني وليس الشكل] ولا آليات وجودها السليمة أو ضروراتها الفعلية، فهي إضافة أحمال وأثقال غير موضوعية بهياكل إدارية وبغيرها من فعاليات.. أما كونها تنطلق في الدعوة إلى الفديراليات الإدارية بالاستناد إلى بوابة الوقوف بوجه أخطاء الحكومة الاتحادية وكأنّ الحل الصائب لمجريات الأوضاع يتمثل في تقليم أظافر المركز التي باتت مخالب مؤلمة..وفي الحقيقة هذا يتعمق بصراعات ضيقة الأفق باتت تطفو ميدانيا ومن ثم فهو ليس حلا أمثلا.
وبقراءة جدية للدعوة لفديرالية جنوب العراق ووسطه وأخيرا غربه وشماله ودوافعها الجوهرية فإن ما يقدمه مقترحوها من أسباب تتمثل في تقديم المظلومية سببا دافعا، حيث لا يحقق في (رأيهم) الإنصاف والعدل ورفع الحيف إلا فديرالية الإقليم في (الجنوب، الوسط، الغرب...) ونجيب على هذا بالقول: يمكن أنْ يكون هذا سببا لمجابهة مع نظام مركزي توتياليتاري شمولي كالذي هزمه شعبنا قبل سنوات.. أما وقد انهزم ذاك النظام المركزي البغيض وانهزمت معه قوانينه الظالمة فإنَّ نظامنا الجديد "البديل" ينبغي أنْ يقومَ على أسس صحية صحيحة ومنها قضية السلطة السياسية في البلاد وتفاصيل الإدارة والحكم.. حيث وجب تحقيق العدالة والفرص المتكافئة لجميع العراقيين في تسنم المسؤوليات والمناصب وفي توجيه سياسات الدولة لخدمة عادلة تنصف الجميع وتحررهم من أشكال الاستلاب والمصادرة. وفي ظل الوضع العراقي العام غير المستقر لا يمكن لشرذمة المحافظات بين إقاليم ضعيفة غير مهيأة أن يكون بديلا.. ولابد من مسيرة تمكين الاستقرار والسلم الأهلي وجملة إجراءات هيكلية بنيوية منتظرة قبل إمكان التفكير بالانتقال لتطبيقات لامركزية بمستوى الفد\رلة والأقلمة..
بمعنى، أننا حيثما أكدنا وحدتنا الوطنية ووحدة السيادة الترابية وحيثما اعتمدنا حكومة وطنية موحَّدة مركزية قوية (وهنا القوية بالمشاركة الشعبية الديموقراطية وليس بسلطة العنف والاستلاب) وحيثما كان العراق قويا حرا مستقلا؛ كان لنا عيش حر ومكانة تحت الشمس وحريات أوسع وحقوق أعمق، أي أنَّ المواطن العراقي في كل أجزاء العراق الموحَّد غير المجزَّء غير المفتت سيمتلك حقوقه كاملة في وطنه وليس في بقعة منه وسيكون أقوى بدولة مدنية متينة الأسس تمتلك خططا موحدة الموارد والطاقات للتنفيذ والأداء.. فيما سيكون العراقي في الأقاليم المصطنعة المثقلة بأمراض كثيرة مستفردا به مستلب الإرا\ة تحت إمرة إقطاعية جديدة...
وما يفضح هذا طبيعةُ مطالبات كل (مسؤول) في محافظة بإقليم لمحافظة أو أخرى وصار يتحدث عن وجود (التنوع) في محافظته وعن وجود (الثروات) الوافية لإعالة أبناء المحافظة وكأنه يتحدث عن مقدمات بناء دولة بمواجهة الآخر (عدوانيا!)! وطبعا هنا يقع أبناء المحافظات بين كماشتي إفراط المركزية وتفريط اللامركزية فيتحولوا إلى ضحايا صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل...
إنّ هذه المواقف والدعوات التي تأتي في غير توقيتها وفي غير محلها، توقع في مطبات سياسية لها أول وليس لها آخر؛ إنها بلا خاتمة سليمة، وهي ذاتها التي ستوقع ليس أبناء المحافظة بل أبناء البلد في اتجاهات احتراب وتقسيم لا باتجاهات خيارات صيغ إدارية مناسبة للعمل والعيش في إطار الدولة..
فالدعوات تجري بشأن أقلمة العراق [صنع أقاليم] من دون إعداد الوعي الكافي لبنى الأقاليم الإدارية و\أو الجغرافية، ما يوقع في هاوية تمكين روح التمزيق الطائفي، السائدة اليوم في البلاد، من رقاب الشعب ليضعهم في مجابهة عدائية انقسامية وهي خطوات عجلى باتجاه كوارث الاحتراب والهزيمة التي يتشظى فيها البلد بين إقطاعات يحكمها اقطاعيون جدد بأردية جديدة..
إن لكل محافظة وأهلها حقوقاً في كل الميادين الحياتية والعراقيون اليوم وبشكل متساو، تتحكم بهم أزمة فشل الحكومة الاتحادية في الإدارة وفي رسم برامج التنمية وتلبية المطالب الحيوية الدنيا للعيش الكريم. لكن بديلهم للخلاص من هذا الاستغلال الموزع عليهم بالتساوي لا يكمن في التشظي ولا في درجة الابتعاد عن المركز (الاتحادي) والانفصام عنه، بل يكمن في المساهمة الجدية الموحدة في تغييره واستبدال نهجه وخططه ومعالجة أمراضه...
وفلسفة الهروب إلى الأمام بالتقوقع المناطقي ربما تمنحنا شكليا مظهريا صورة للحماية والحل؛ ولكنها في جوهرها تتجه بنا عاجلا أم آجلا نحو هاوية الهزيمة التاريخية ومحو الوجود الوطني من الخارطة لزمن لا يعلم أحد مداه إذا ما بدأنا السير باتجاهه..
والبديل عن الهروب إلى أمام أو المراوحة عند المشكلات القائمة، هو عدم الإذعان لمطلقات من يتحكم اليوم بالقرار مركزيا فحيثما فشل يمكن استخدام آليات البدائل الديموقراطية وأدواتها.. وقد شخّص الدستور تلك الآليات الديموقراطية مثلما تحدث عن الفديرالية التي ربما لم يستكمل الوضوح المناسب في محدداتها ما يتطلب قوانين وتشريعات ليس أوان الانشغال بها.. فإذا كان الوعي السياسي القانوني لم يكتمل في النظر إلى آليات الديموقراطية وممارستها، فكيف بنا نتجه إلى مفردات خيارات تحف بها مزالق ومخاطر جمة في توقيت تنفيذها؟ كما أننا متأكدون من عدم جاهزية الأوضاع لممارستها بل اضطراب تلك الأوضاع بما يمكن أن تستغل الدعوات باتجاهات معاكسة لتطلعات من أطلقها بحسن النية؛ والطيبة وحسن النية وحدهما لا يكفيان في العمل السياسي وتحديد مصير شعب...
لقد شخصت القوى التنويرية الواعية في البلاد أنّ الحل يكمن في إعداد قانوني ناضج وصائب لانتخابات نزيهة وفي تبني حكومة عمل وبناء حكومة تكنوقراط فعليا لا واجهة أخرى جديدة تمثل أحزابا وسياساتها المعبرة عن الكهنوت السياسي وطائفيته المقيتة التي عانى منها الشعب بمشاغلة الدولة ومؤسساتها بضيق الأفق وبالصراعات التي نكبت البلاد بكوارثها.. أي بتوجيه الدفة نحو آليات الديموقراطية والدولة المدنية وليس الخنوع للشكل الذي فُرِض علينا بتقسيمات ماضوية لفظتها دول التقدم واحترام الإنسان والشعب وقيمهما وحقوقهما..
إنّ رأي رجل الدولة الحكيم الحصيف يقوم على إكمال شروط الإعداد للإحصاء السكاني وللتفرغ لمهمة إعداد قانون الأحزاب والانتخابات على أسس (الدولة المدنية) لا خارجها، وعرضه على الاستفتاء الشعبي أو إقراره برلمانيا في سقف زمني لا يبتعد عن سقف أشهر معدودة وتشكيل هيأة انتخابات مستقلة حقا ومهنية حقا ومن ثم منح القضاء بعده المهني الحقيقي ليمارس الدور في إجراء انتخابات تأتي بالبديل الذي يؤمِّن:
1- إلغاء نتائج التقسيمات وأشكال التمييز بخاصة منها تلك التي تقوم على أسس طائفية، ومنح النظام العام حيوية الأداء ومنه منح المحافظات صلاحياتها الوافية..
2- وضع برامج جدية لكل من الأمن الوطني والجيش وحظر الميليشيات وأشكال السلاح خارج إطار الدولة والتطهير من الاختراقات وتثبيت المرجعية المهنية في إطارهما..
3- إطلاق عمليات إعمار البلاد بخطط استراتيجية تركز على البنى التحتية والأمور الخدمية وفي مجالات الكهرباء، الصحة، التعليم، البيئة، المياه والزراعة، الصناعات الثقيلة والتحويلية بما يتلائم ومطالب الشعب وحاجاته الفعلية بالتساوي بين جميع أقسام الوطن...
4- إطلاق الحريات وحماية الحقوق وصيانة التنوع القومي والديني المذهبي ورعاية جميع المكونات والأطياف على أساسين فردي يعزز مبدأ (المواطنة) وجمعي يحترم (الهويات المخصوصة قوميا دينيا ثقافيا) بالموازنة بينهما على أسس قانونية دستورية.. والعمل على بناء برلمان مكتمل بجناحيه (النواب) الوطني التركيبة و (الاتحاد) الممثل للمكونات والمحافظات في تركيبته...
إنّ صلاحيات المحافظات اليوم تفي بما يطالب به دعاة الأقاليم من جهة اللامركزية والمشكلات السائدة ومعاناة الناس تكمن في أخطاء فاحشة بحق القانون وسيادته وبحق المواطنين ومطالبهم وبحق البلاد وحاجتها في إطلاق إعادة الأعمار بعد ثماني سنوات من فرهود (الطائفية الفساد الإرهاب)..
فهل سينتصر صوت المواطن العراقي هذه المرة ويأخذ زمام المبادرة ويوقف من يتاجرون به سواء ممن وقف مناديا بإنشاء الأقاليم أم من وقف ضدها وكل لحساباته الخاصة؟
* باحث
أكاديمي في
العلوم
السياسية