النجف الأشرف عاصمة الثقافة الإسلامية
ماذا نريد لها ومنها؟
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
في العام 2012 تشد الرحال جموع من منطقة امتداد جغرافي من تخوم الهند والصين حتى المغرب الأقصى، ومعها حَمَلة الثقافة الإسلامية من بقاع العالم يتطلعون للرؤى والمعالجات الجديدة التي تنسجم والعصر وشموس التنوير فيه، للتجه إلى مدينة النجف عاصمة للثقافة الإسلامية..
إنّ هذا الخيار يظل في إطار من أطره متحددا بمبدأ التنقل بين مدن هذي البلدان بطابعها وتاريخها ومكنوناته؛ لتتداول حركة تغتني بالتنوع وتزدهر بالتفاعل بين أنماط عيش بتعدد القوميات والأمم والشعوب التي تأتي للقاء والتفاعل في محفل يريد للمسلم أن ينأى بدينه عن الدخيل مما يقع في التشدد والتطرف والغلو إذ كما يقول الحديث الشريف "لا غلو في الدين"، وأن ينأى بمجموع هذه الشعوب عما بات يدخل عليها في غفلة بفلسفات ظلامية عفا عليها الزمن، مذ انتهت مرحلة دويلات الطوائف وما أفرزته من نتائج كارثية..
واليوم يُنتظر من توافد جموع ممثلي المدن الإسلامية أن يؤكدوا ثقافة تزيل التشويه والتضليل عن النص الديني وقدسيته المحفوظة مما يراد بها طمسه بإعلاء كلمة (باطل الطائفية وأمراضها الدخيلة) التي ليست من الدين ومن ثقافته السمحاء..
واللقاء في مدينة النجف، يُنتظر أن يكون بوابة كبيرة لتكون إحدى المدن العامرة بالثقافة التنويرية الصحيحة السليمة ولتبقى مفردة في خطاب الثقافة الإسلامية وفي وحدة نهجها في أن الاجتهاد جاء في نطاق مذاهب الدين الحنيف تسهيلا وتمكينا للمسلمين من فهم دينهم بأصوله المقدسة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة حيث الدين الوسطية والاعتدال وحيث المذاهب التي تريد أوضح الدروس لا تحيل الناس إلى جماعات متفرقة من شيع وطوائف متحاربة بل تحيلهم إلى المنبع الأصل الواحد...
فإن أفلح اللقاء في عاصمة الثقافة الإسلامية (النجف) في تحقيق مفتتح لهذا الاتجاه، وهو المؤمل المنتظر، كان خيارها عاصمةَ َ فرصة ناجعة صائبة سليمة.. غير أنّ هذا النجاح لن يأتي من دون إعلاء صوت قوي في رفض الطائفية ودعاتها ومرجعياتها بأي أمر تسترت، ولن يأتي إلا بوحدة الكلمة ضد مفاهيم التطرف وإرهاب الشعوب وتكفيرها في دينها وفرض وصاية عليها من قوى متعنتة لا صلة لها بالدين الحق إلا من كوّة التسلل في ظلام لتخريب وحدة الأمة وهدم استقرار الشعوب استغلالا لها وتمكينا لأعدائها منها حيث التخلف والجهل وسيادة الطقسيات المصطنعة المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان..
إن بديل الشعوب المسلمة يكون بتوكيد كلمتهم في احترام الحقوق والحريات وبتوكيد هوية التفتح والتسامح والإخاء ونبذ الفرقة والاحتراب وفي إعلاء كلمة السلام على الجميع وللجميع وللتعايش كما جاء في رسالة الآية الكريمة "وخلقانكم قبائل وشعوبا لتعارفوا" .. إنّ هذا يذكر بمعنى الحريات وفسحتها وما أنجبت يوم كان الرشيد والأمين والمأمون يكيلون بالذهب لما يؤلفه العلماء وينتجونه من فكر نيّر..
إن احتضان النجف للحوار بين الأديان ربما أدعى منه أن تكون أطياف المسلمين مُحتضَنة فيها بلا تمييز بل بوحدة ومساواة وبصائب الممارسة وصحيح التفكير وتوظيف صحيح الدين بأصوله لا بدخيله كما يريد بعض كهنوت السياسة؛ والمسلمون يعرفون أن لا كهنوتية في الإسلام وثقافته وأن "عامل يعمل خير من ألف عابد" والعبرة واضحة في هذا الحديث الشريف...
نريد إذن للنجف تلك المدينة العراقية أن تعبِّر عن ثقافة سليمة وعن التعددية في عراق اليوم باستخدام لغاته الرسمية على سبيل المثال وبتوظيف مقدم مسلميه إلى النجف تعبيرا عن انتماء النجف لأهل هذا الوطن بتعدديته لتكون بحق مرجعيتها هي لمجموع من توافد إليها تعبيرا عن ثقافة مسلمي البلدان والمدن التي أتوا منها..
إنّ لجان المدينة وأنشطتها وبرامجها تبقى مخصوصة بأبناء المدينة وإذا كان عليها التمسك بكونها تنتمي للعراق بمكوناته وأطيافه وبمذاهب الدين الحنيف لمسلميه فإن عليها أيضا التمسك باحتضان رحب لتعددية من سيأتي ولنصف المجتمع الذي احتل مكانه ومكانته في أيام الرسالة الأولى والأئمة والصحابة حاملي ألويتها أقصد هنا إبراز مكانة المرأة وأن دينها لا يقف عند رداء ترتديه أو اعتقال في منزل تخضع له بل في تنويرها وتعليمها وتثقيفها وفي مشاركتها كما كانت السيدات المؤمنات الصالحات خديجة وعائشة وفاطمة وحفصة وغيرهنّ...
ومن الواجب اليوم أن يعلن بوضوح وحسم كل معني ألا صواب للإسفاف والخروج على السلامة الدينية وصواب الثقافة وقويمها بشتم الصحابة والتجاوز على القدسية.. وأن صحيح المذاهب لا يقوم إلا على احترام القدسية وتنزيهها واحترام الأصول وقراءة التاريخ قراءة موضوعية تنتمي لطبيعة ما مرّ في كل مرحلة منه..
ولتكن عتبة النجف مدينة للثقافة الإسلامية وعاصمة لها بحق وليس باستغلال دعائي وبهرجة لا تحل أزمة ولا تعالج مرضا ولا تعطي بديلا ودواء.. إننا نتطلع إلى عاصمة الثقافة الإسلامية حيث الحل والبديل يأتي من أهلها ومن جموع الضيوف الذين يقولون كلمة واحدة سواء هي كلمة الحق كلمة الانتماء للعصر ومنطق العقل والحكمة منطق الثقافة الإسلامية يوم كان العالم في ظلام وليس في امتياح النوعات والظواهر المرضية من ذاك التاريخ كما الطائفية.
اليوم، نقدم تحية للنجف وأهلها وهم يفتحون أبواب الضيافة كريمة غنية بهية؛ وتحية لزوارها وضيوفها يحملون معهم صواب الرأي وتفتحه وتنويريته وحكمته وبهاء انتمائه لجوهر الثقافة الإسلامية الأصيلة حيث التسامح والإخاء والدعوة للسلام ولقطع الطريق على من يريد أن يكون وصيا بزيف على دين الناس وعلى ثقافتهم.. ولتحيا مسيرة تبني الثقافة بروح العصر مثلما بقيم الإيجاب من الماضي التليد بصفحته القويمة المضيئة...