بعض النتائج القيمية للــ(ربيع العربي)
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
انطلقت ثورات ربيع شعوب المنطقة في متوالية أكدت قواسم مشتركة من المعاناة حيث سيادة أنظمة الاستبداد بما تجلى في ممارستها من جرائم تحول الأجهزة الأمنية إلى أجهزة قمعية والإفراط في استخدام العنف باستخدام أصناف الجيش من طيران ودبابات ومدفعية في التعامل مع الهبَّات الشعبية الثائرة.. وقد تفاقمت ظواهر من مثل التعذيب حد الموت والاعتقالات العشوائية والاختطاف باستغلال قوى البلطجة والشبيحة وما شابههما غير عمليات الاغتصاب والتمثيل بجثث الضحايا وتقطيع الأوصال والتشويه..
فيما استفحلت سخرية بعض تلك النظم من الجماهير المنتفضة باستغلال إعلام متخلف ومنع أي شكل للتعبير السلمي الحر وحظر الأحزاب والتجمعات المدنية وانتهاك صارخ لحقوق المجموعات القومية والدينية والمذهبية وتسليط أعمال إجرامية ضاغطة بالتصفية والتهجير وغيرهما.. هذا كله فضلا عن الحال المتدني في المستويات الاقتصا-اجتماعية وفي القصور البائس للحاجات الحياتية بكل أشكالها الصحية التعليمية الخدمية مع تدني مستويات التنمية وتفشي الأمية والجهل وانعكاسات مثل هذه الأزمات...
لقد جاء هذا الربيع بثورات الشعوب ليقدم لنا حالا من المنجزات والخطوات التي أكدت الآتي:
01. فأولا أكدت كسر حواجز الهلع والرعب من سطوة النظم السياسية وإمكاناتها القمعية الإجرامية..
02. كما أكدت خلخلة سلطة عنف تلك النظم الاستبدادية...
03. وثبَّتت مرجعية المؤسسة العامة للشعب لا للطغاة، وبهذا تم تحطيم وهم ملكية الطاغية رقاب الناس واستعباده إياهم...
04. وحيّد هذا الربيع حالات التحالف بين قوى دولية والنظم الاستبدادية القائمة وفعَّل حالات التضامن الدولي الرسمي مع شعوب المنطقة وثوراتها...
05. وتصدى للفساد وجرائمه وأنذر قواه بعاقبة التمادي والاستمرار، فباتت على سبيل الإشارة والتمثيل لا الحصر عناصر فردية وأحيانا قوى جمعية تنسلخ من النظام القديم ومؤسساته مبتعدة عنه وجرائمه المتضخمة، سواء شخصيات دبلوماسية مهمة وأخرى في الحكومات وغيرها في الجيشش والمؤسسة الأمنية والأمثلة كثيرة معروفة...
06. وتصدى ربيع الشعوب للقوانين التي حدّت من الحريات وحقوق الإنسان واضطر تلك النظم للتراجع عن بعضها من مثل تلك التي تجسدت بوعود الإصلاح ((وإن كان في الوقت الضائع)) والإلغاء الشكلي لقوانين الطوارئ وتحوير بعض القوانين ((وإن كان ترقيعيا))..
07. أطلق هذا الربيع المنتصر فرص التضامن الشعبي ميدانيا حيث قوة الاندفاع الشعبي في المظاهرات العارمة فاتحدت القوى الديموقراطية والمجتمعية المناضلة من أجل الانعتاق والحرية، أو جرى التنسيق بينها على الرغم من حجم الخلافات ربما الفكرية والسياسية والتنظيمية بينها..
08. وأكدت ثورات الربيع فرص إبداع المواطن من أجل الوطن والشعب ومن أجل دولته المؤسسية... ومن الطبيعي أن تكون الإشارة هنا إلى مسألة علاقة الفرد بمحيطه ومجتمعه ومؤسساته، وإلغاء الروح السلبي تجاه القضايا العامة ما يدعو لمواصلة مثل هذه الثقافة التي ترقى بالفرد كي يكون جزءا بنائيا فاعلا في دولته ومجتمعه بعيدا عن مبدأ الاتكالية والسلبية...
09. وفعَّل هذا الربيع الشعبي أدوار المنظمات الدولية والإقليمية ودوها في التفاعل مع مجريات الثورات.. فيمكننا أن نشير هنا إلى المنظمة الأممية ومجلس حقوق الإنسان ومنظمة العفو مثلما يمكننا أن نشير إلى الجامعة العربية ومنظماتها وطريقة أدائها وإن كانت النسبية المحدودة حتى هذه اللحظة مثال موقفها من ثورة الشعب الليبي ومن ثورة الشعب السوري..
10. أوصل الشعب بربيع ثورته المطالب والقضايا الحقوقية إلى مستويات جدية مهمة في تفاعل المنظمات الدولية على وفق القوانين الإنسانية الدولية التي ظلت مجمدة طويلا عند تعلقها بشعوب المنطقة..
11. استثمرت شعوب الربيع الثوري أحدث تكنولوجيا العصر في فضح الجريمة وتجاوزت أساليب الإعلام التقليدية وفرضت نهجا تفاعليا في العمل الإعلامي، في وقت كانت بالأمس تجري جرائم إبادة جماعية ويتم الطمطمة والتعتيم عليها من دون وسيلة توصل فضائعها ومنجهة أخرى ربط هذا بين النخب والعناصر المتعلمة والواعية وبين جموع الشعب فباتت التكنولوجيا أبعد من أداة جامدة في نطاق الاستخدام ومنحت حيوية مخصوصة في الفعل والتأثير الأمر الذي يبشر بمنطلقات نوعية مختلفة في المرحلة التالية..
12. فرضت قوى الثورة حاجاتها ومطالبها الحقوقية على حساب ما ظل عقودا طويلة ذريعة لتجاوز حقوق المواطن والشعب، كما في قضيتي التنمية والأمن القومي والدفاع عنه ضد أعداء مفترضين وتحويلهما إلى ذريعة ووسيلة استغلال واستبداد بدل وسيلة استجابة لحقوق الناس...
13. وفي هذه اللحظة التاريخية ما عادت أية قوة بمستطيعة أن تطرح في خطاباتها ما يمس الحريات والحقوق.. وعليه فمن المستبعد في مراحل التأسيس وبناء مؤسسات الدولة المدنية الحديثة أن نسمع ما يتعارض والحقوق المدنية والعامة، بل سنسمع خطابات تؤكد أولوية الحريات والحقوق حتى من بعض قوى معروفة بتزمتها وبماضوية ما تحمله من فكر سياسي ربما ليس للتغطية بل لأنها بالفعل تمتلك عناصر شعبية سليمة النهج وما زالت تجد نفسها في الإطار العام لمثل هذه الحركات ولكنها تحاول اللحاق بالحداثة والمعاصرة من جهة أخرى...
14. إن ربيع الشعوب أكد ويؤكد الطابع المدني الديموقراطي من جهة والعلاقة الوطيدة مع الحداثة وآلياتها في البناء والتقدم وبالتأكيد مع الخطاب التنويري، ومن هنا فإن كثيرا من المفردات سيعلو من بين ذلك أهم مفردة في الحقوق والحريات تلك المتعلقة بحرية المجموعات القومية والدينية في تقرير مصيرها وربما في الانعتاق بدولة مستقلة، وهذا الأمر إذا ما جاء بطريقة مؤاتية مناسبة وتوقيت دقيق سيكون عامل قوة للمنطقة وشعوبها وتحالفاتها لا عامل ضعف ولقد أدركت الشعوب ما حيك ضد أشكال تلاحمها وتضامنها وعلائقها الوطيدة بجيرانها من الأمم والقوميات المتعايشة كما هو الحال للكورد ولعديد من الأمثلة المعروفة في مجمل بلدان المنطقة...
بعامة، وفي ضوء مثل هذه النتائج لن يغيب عن المشهد احتمال الاختراقات الداخلية والخارجية وتحالفهما ضد استكمال الجماهير مهامها في التحول إلى بناء الدولة الحديثة على وفق منطق قانوني تشريعي يقطع الصلة مع أدوات الاستغلال والابتزاز وعودة احتكار المؤسسة العامة..
فبدءا هناك الاختراق الداخلي بقوى ماضوية بخاصة تلك التي تنتمي إلى "الكهنوت السياسي" باتجاهاته وألوانه واستغلاله الدين ومن ثم الخطاب الطائفي في فكره وآلياته وتحديدا منه القوى الظلامي المتشدد.. وإذا كان صحيحا أن هذه القوى مضطرة للادعاء بتمسكها [شكليا] بمسميات [للتظاهر والتغطية والتستر] على سبيل المثال: مسميات دولة القانون وقائمة المواطن وحزب النهضة والعدالة والتنمية والحرية وغيرها؛ فإنَّ الحقيقة تكمن في طبيعة تلك القوى واستعدادها لفسح الفرص واسعة لقوى التشدد والتطرف والظلام وهوما يجب الحذر منه والعمل على دعم العناصر الإيجابية الأقرب للمشروع المدني في وسط تلك القوى وهو أمر متاح قائم ومهم...
وهناك الاختراق الخارجي ولعبه بالمال السياسي وبعناصر ضغطه بشراء قوى وعناصر هزيلة وأخرى ذات ارتباط أو مصالح مشتركة معه.. ولدى هذه القوى عناصر ضغط الجيوش والقدرات المخابراتية [الأسطورية] فضلا عن الاستعدادات الموجودة على الأرض بعناصر التخلف والجهل والسذاجة السياسية إلى جانب قوى المصلحة والانتهازية والقوى الطفيلية الجاهزة للتحالف مع الخارج بقسمه المرضي..
و رد الفعل الوطني الشعبي يكمن في قطع الطريق على تمزيق الوحدة الوطنية والتفاعل إيجابا كما أسلفنا مع ((بعض)) قوى تيار الإسلام السياسي (الوسطية المعتدلة) وتلك التي دخلتها عناصر تمتلك التجاريب المدنية من معايشتها في المهجر أو من ضغط الانتفاضات الشعبية وتأثير وضوح هدفها في بناء الدولة المدنية الحداثية الجديدة.. ومثل هذه القوى ممكنة الاحتواء والجذب باتجاه الهدف الوطني الديموقراطي.. ومن هنا ستكون الوحدة الوطنية فرصة جدية لعزل قوى الاختراق الداخلي والخارجي من جهة ومن جهة أخرى في توكيد الاتجاه الحداثي المدني المؤسس للحريات والحقوق وتلبية المطالب الشعبية العامة والخاصة في الخدمات وفي الصحة وفي التعليم الحديث وفي مختلف مناحي الحياة...