الربيع العربي وبعض مرجعيات محاولات الاختراق والالتفاف
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
تقدمت مفردات الانتصار بمسيرة شعوب المنطقة باتجاه مراحل نوعية جديدة، ولابد هنا من الإشادة بالتطورات الميدانية في أغلب بلدان (الربيع العربي)، حيث فرضت قوى التغيير إرادتها وهي تتقدم بلا تردد نحو أهدافها السامية التي باتت قاب قوسين أو أدنى. ولكن بالمقابل لا يمكن القول: إنّ تلك المسيرة تمضي في طريق مفروشة بالورود، فمن الطبيعي أن تجد ثورات [الربيع العربي] عددا من العقبات الموضوعية والذاتية.. الأمر الذي يلزم المعنيين بدراستها بدقة وتأن من أجل ألا تستفحل وتتحول إلى عقد كأداء تطيح بآمال الجماهير الثائرة في التغيير الحقيقي المنتظر. فما الذي يمكننا رصده من بين تلك الخروق ومحاولات الالتفاف؟
بدءا لابد من الإشارة إلى عوامل الضعف الذاتية في قيادات الحركة الجماهيرية الواسعة.. كون الهبة الشعبية جاءت على خلفية فعل تجاوز الإمكانات التنظيمية للقوى الحزبية المعبرة عن مطالب الشعب وقدراتها التعبوية. أضف إلى ذلك جملة من الأمور من قبيل العلاقة بالجماهير المنتفضة وحجمها ومقدار تعرف تلك الجماهير إلى القيادات الميدانية أو السياسية، وهو ما تأتَّى عبر عقود بعيدة من استنزاف ومحاصرة وأعمال قمعية لتنظيمات القوى المدنية الديموقراطية...
وفي ضوء هذا تحتاج تلك القوى الوطنية الديموقراطية لبحث في آليات تطوير (كوادرها) وتنظيماتها بطرق استثنائية غير تقليدية وإيجاد فرص الدعم المادي ليس المالي المحدود [في ظروف سطوة المال السياسي الوسخ] بل أدوات الاتصال من فضائيات وأجهزة إعلام فاعلة مؤثرة وصحافة وجسور اتصال مناسبة للمرحلة الجديدة والحاسمة في التحول النوعي المفترض لثورات [الربيع العربي] بكل الأطياف القومية والدينية المشاركة وليس المقتصرة على الشعوب العربية... حيث تجدر الإشارة هنا تحديدا إلى أن طغيان ممثلي النظم القديمة قد استغل سياسة تغليب المجموعات القومية الكبيرة [العرب في بلدان المنطقة] لتمكين الاستبداد من السطو على السلطة لزمن أبعد. وهم يواصلون اللعبة ذاتها بإثارة الشقاق والضرب إجراميا في المجموعات القومية والدينية التي يهمشونها بكل شيء حتى بالتسمية حيث استخدام مصطلح الأقليات..
غير أنّ أمر العقبات لا يقف عند حدود العامل الذاتي، فمشكلات موضوعية كبيرة ينبغي التعامل معها.. من بينها على سبيل المثال حالات الاختراق ومحاولات الالتفاف.. إذ تعمل قوى الردة في أدائها على اختراق قيادة الثورة الشعبية بوساطة عناصر متلونة على وفق مهب الريح. وتتعدد مرجعيات الخروق تلك بين داخلية وأخرى خارجية..
فالداخلية منها تعود إلى مرجعيتين كبريين هما: قوى النظام القديم وهي قوى انتهازية تركب كل موجة من أجل مصالحها ولكنها تبقى مخلصة لفلسفة النظام القديم في التعاطي مع الشعب ومصالحه بطريقة لا يعنيها فيها من أمره سوى العبث الذي يعود عليها بأكبر قدر من المغانم المادية والجاه والعودة إلى السلطة... ووجود بعض عناصر هذه القوى ربما يكون مقبولا في إطارات وظيفية للتخصص التقني بهذه الدائرة أو تلك ولكنه غير ممكن القبول في وسط القيادات الجديدة لإدارة العملية السياسية وبناء الديموقراطية والبديل السياسي المؤمل لثورات الربيع الشعبية...
وبهذا يكون مهمّا ضرورة تحييد عناصر النظام القديم من أية مفاصل في إدارات الدولة المعنية بالتخطيط والتوجيه العام والقضايا الاستراتيجية التي يمكنها أن تتسبب بتأثيرات غير محسوبة لتلك العناصر. مثلا في المستوى الأمني وما تخلقه من إرباك ومخاطر في إقلاق الأوضاع وإشاعة عدم الاستقرار الأمني، لنلاحظ هنا آليات تعامل النظام السوري من جهة تشكيلات الشبيحة ودفع بعض عناصره لاختراق الثورة الشعبية وإشاعة القلاقل وممارسة الجريمة بخاصة منها تقسيم المجتمع ومحاولة إثارة التناحرات بين مكوناته كما في سياسته تجاه الكورد والسريان مثلا...
ومن القوى الداخلية المعاكسة لتوجهات ثورات الربيع الشعبية هي تلك القوى التي تمثل العناصر السلبية الماضوية في تفكيرها، وهذه هي الأخرى من إفرازات النظام القديم ولكنها من بنية المجتمع وتركيبة التخلف التي تخشى التحديث والتقدم وتتعارض معه صراحة مستندة إلى بنية طائفية مستغلقة وأخرى قبلية. إنها بالتحديد هنا قوى سلفية من تلك التي تتلحف زورا وبهتانا بالدين. وهذه القوى تستخدم فلسفة الوصاية على الناس مع إسقاط القدسية الدينية على أنشطتها بادعائها تمثيل (الله) على الأرض ومن ثمَّ تكفير المجتمع في دينه لتلزمه بالخضوع لأوامرها ونواهيها أو إيقاع العقوبات بحق الخارجين على أحكامها التصفوية الأبشع..
إن هذه القوى المتطرفة هي قاعدة إرهاب المجتمع وإشاعة كل أشكال الجريمة التي يمكنها أن تخدم أغراض قوى التشدد والمغالاة ومآربها في توجيه المجتمع على وفق أشكال القمع الوحشية التي تتعاطى بها.. وأية أحزاب وحركات من هذا القبيل عادة ما تشيع تقسيما آخر في المجتمع هو تقسيمه على الأساس الديني الطائفي، والعمل على إلغاء التعددية والتنوع فيه وإلباسه زيا موحدا يخضع لإرادة تلك القوى..
لنلاحظ على سبيل المثال الجرائم المرتكبة بحق الأمازيع والأزواد الطوارق والنوبيين وشعب اليمن الجنوبي ولنلاحظ مثال الأقباط في مصر ومحاولة إثارة الشقاق في الوحدة الوطنية للشعب المصري بغاية مشاغلته في قضايا تبعده عن حسم نتائج الثورة وبناء الدولة الديموقراطية الحديثة فيما تكسب تلك التيارات فرصتها في التسلل والنفوذ إلى مؤسسات الدولة والتحكم بها عبر لعبة الاختراق والعزف على وتر خطاب الأحادية وإلغاء الآخر...
من جهة أخرى فإن بلدان ثورات الربيع الشعبية تمتلك أهمية مخصوصة للقوى الإقليمية والدولية وهي تدخل في علاقات شائكة في الصراعات الجارية سواء منها ما يخص [الثروات الطبيعية] أم المكانة الجيوسياسية في التفاعلات الدولية المعاصرة بالإشارة هنا إلى المرجعية الخارجية..
فإيران لها استراتيجياتها بعد أن باتت دولة تمتلك قوة عنفية وتحتكم على ثروات مهولة ماديا ومن ذلك ما سرقته بما يعادل مئات مليارات الدولارات من تدخلها في العراق.. وليس أقل منها محاولات تركيا أن تجد موطئ قدم لها في الشرق الأوسط الجديد ومحاولاتها خلق منافذ خاصة بها سواء عبر تحالفات أم عبر تسلل بصيغ معروفة.. ولكليهما في استراتيجيتهما استغلال للعبة التقسيم والمشاغلة بصراعات متوهمة فيما تلغي الاعتراف بالآخر كما يحصل في البلدين تجاه المجموعات القومية فيهما مثال الحرب التي تشنّ ضد الكورد ونقلها إلى داخل بلدان أخرى. ولابد من الإشارة إلى أن إسرائيل هنا ليست الحمل الوديع في هذا الصراع المحتدم، فلها استراتيجياتها غير الخافية عن العيان...
ودوليا يجد التحليل السياسي للظواهر قيد الدراسة أشكال التدخل التي لا تقف عند اصطفافات الجيوش والأحلاف واستغلال المنظمات الدولية بل تتدخل القوى المخابراتية لتساهم في إشعال حرب مخابراتية هي الأولى في مستوياتها النوعية القائمة، مستخدمة أشكال التفاعلات الاقتصادية والسياسية والتنظيمات الحقوقية والمجتمعية المدنية الجديدة الوليدة..
غير أن كل التفاعلات الجارية لا تلغي بل تؤكد حال التفاؤل في نتائج الثورة الشعبية في بلدان المنطقة، كونها كسرت حواجز الخوف والهلع من النظم الدكتاتورية وأجهزتها القمعية، كما أشرت الطاقات الاستثنائية للشعوب وعمق وحدتها الوطنية وإطلاقها حال الاعتداد بالتنوع القومي الأثني والمساواة على اسس المواطنة وعلىى أسس الشراكة. مثلما تؤشر لوصول تأثيرات العولمة وأدواتها إلى المنطقة من أجل إدماجها في ركب التقدم والتحديث ومواكبة روح العصر حيث مرحلة تعزز المثل الإنسانية وانتصار الحركة الحقوقية للأفراد والجماعات أو الشعوب والأمم وبناء الدولة المدنية الديموقراطية المعبرة عن تطلعات الجميع في الانعتاق والتحرر..
كما أن تلك العقبات التي تحدثنا عنها بتركيز نسبي على ارتباطها بقضية التنوع القومي والديني تظل أمرا عاديا في أية مسيرة تغيير وما تدفعه الشعوب من قرابين مفروضة قسريا بسبب الطابع الهمجي للنظم القديمة سيتقلص مع تقدمها بالثورة ومراحلها.. وعلينا ألا نخشى تأثيرات العوامل المعرقلة واحتمالات التدخل بخاصة منه الخارجي، لأن الثورة لم تقم بسبب هذا التدخل (الخارجي) كما يراد من تشويهات وأعمال تضليل تطلقها قوى بعينها.. إنّها ثورة شعبية بامتياز وأسبابها موضوعية تعود لنضج الظروف التي أدت إليها وطنيا داخليا، فيما أية تفاعلات وتأثيرات خارجية هي عوامل تحصل في مسارات التغيير وما سيقلل من سلبيتها هو تعزيز الوعي الشعبي وتنامي قوى الثورة تنظيميا مع تفعيل قدراتها في القيادة والتوجيه ببرامج ترتقي لمستوى المرحلة بالإفادة من التجاريب الأممية وأشكال التضامن واستثمار المتاح بما يمكن الشعب بكل أطيافه ومكوناته من حماية المراحل التالية من ثورته ومن ثمّ امتلاك سيادته عبر التشريعات وإجراءات البناء بعد الانتهاء من إطاحة نظم الاستبداد...