وحدة الأطياف العراقية شعبيا وانقسامات نخب الطائفية السياسية
خطاب تغييب الوعي واختلاق الاحتراب
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
القراءة الرصينة لتركيبة المجتمع العراقي بتنوعات أطيافه تؤكد أنّ هذه الأطياف تتداخل في علاقاتها الإنسانية الأمتن عبر روابط أسرية وأخرى تقوم على وحدة الجذور الحضارية ووحدة الهوية الإنسانية ثقافيا روحيا.. ومن هنا كانت القيم الاجتماعية بالمعنى الأوسع للمصطلح وتلك السلوكية المعبرة عن وجود هذي الأطياف، متحدة تتقاسم سمات مشتركة تجتمع عليها وفيها ببوتقة وطنية الوجود...
غير أن المجتمع العراقي بوحدته الوطنية، جابه طوال تاريخه مثله مثل كثير من مجتمعات المنطقة حربا ضروسا عملت على تمزيقه وإثارة الفتن وأشكال الاحتراب بين مكوناته المتحدة المتعايشة بسلام..!؟ وقد برز الأمر بصيغة خطيرة منذ سنة 2003 حتى يومنا، لطغيان قوى الطائفية وسطوة خطابها.. وربما كان المشهد الدموي للصراعات المختلقة قد طغى بوضوح في سنة الشدائد، سنة الحروب الطائفية المفروضة على مجتمعنا 2006 التي خبرها شعبنا بآلامها وجراحاتها..
والذي جرى ويجري كمّن يقول للزوج والزوجة من مذهبين في دين واحد: إنّكما متوهمان في حبكما وأنّه حتى لو كان حبكما واحترامكما بعضكما بعضا صادقا وحقيقيا فإنّ زواجكما محرّم [شرعا!!؟].. وطبعا صدرت فتاوى بمنع زواج أي اثنين من مذهبين مختلفين وتحريم ما أحلّه الدين نصا وبمنطق العقل والطبيعة الإنسانية السليمة.. وليس مَن يسأل كيف يكون منطقيا صائبا مثل هذا الافتاء بتحريم زواج اثنين من دين واحد؟! أو بالوقوف ضد تطلعات طرفين يريان وجودهما واحدا موحدا!!؟
والكارثة أن إرهابا نفسيا روحيا ثقافيا يُخاض في مجتمعنا. فمن جهة ينفذ قرار التحريم عند المتشددين المتطرفين المتعصبين بقوة السلاح وسفك الدماء ومن جهة يجري توفير الغطاء [ثقافيا سلوكيا] أو [روحيا دينيا حسب الادعاء] بإصدار الفتاوى ونشرها وإشاعتها بين جمهور الأتباع بخاصة عندما يسلّم [مؤمن] إرادته وقراره لفتوى مرجع [ديني] فيجعل من نفسه ووجوده ضحية للتعصب والتطرف فيكون وقودا لنيران الاستعداء المختلق من نخب الطائفية السياسية وحروبها المفتعلة بغايات ومصالح ليس من بينها مصلحته هو والناس جميعا...
ولطالما شهدنا دعاية عالية الصوت منمقة الصورة مزوقتها، تتحدث عن كل شيء يقع في الاختلاف وفيما يثير الشقاق والاحتراب وليس من بينها أية إشارة إلى أن مَن يجري التحدث إليهم كونهم أبناء عائلة واحدة وأنهم أخوة في الدين الواحد؛ وإن لم يكونوا أخوة دين، فأخوة في الإنسانية وفي الهوية الوطنية التي جمعت أسلافهم آلاف الأعوام من الخير ومن بناء هذا الوجود الوطني ليبقى وطنا وشعبا مثَّلَ المنارة الهادية والموئل الأول لتراث الإنسانية بقيمه النبيلة السامية..
والكارثة التي نشير إليها تتمثل أيضا في أنَّ من يملك الفضائيات والصحف الكبيرة والمجلات البراقة والمطبوعات وأشكال الاتصال في الغالب هم من العصابات التي تبتز الناس وتسرقهم أو المافيات والأحزاب ذات السطوة بميليشيا أو باستغلال نفوذها في سلطة سياسية أو دينية مزيفة مدّعاة.. وهكذا فإن الصوت يعلو ليصل بتشويشه وبظلامياته وتضليله مستغلا سيادة الأمية والجهل من جهة وإشاعة الخوف والرعب وشلل العقل العام ليبث السموم..
إنَّ حكاية الأخوة الأعداء هي عكاز أوباش الزمن وزعران السياسة ممن يبث سموم الاحتراب والصراع. إذ كيف يمكن للأخوة أن يتحولوا إلى أعداء؟
ونحن والناس العقلاء نعرف أنّ وجودنا سواء وأن وحدتنا طريقنا إلى حياة الخير والبناء.. أما أصوات الهدم والخراب فإجابتها عن سؤالنا هذا تقوم على ((التطهير)) في المدن والأحياء كما جرى بسلطة الميليشيات المسلحة والعصابات وأشقياء الشوارع في أمثلة من نمط حي الحرية والعدل والكاظمية والأعظمية وأحياء بغداد الأخرى كما أحياء البصرة والناصرية والعمارة والأنبار والموصل وديالى قسّموها وجعلوا كل حي لطائفة محمية بأشقيائها المفروضين قسرا بالحديد والنار وبالدم وسفكه وبالموت الأسود كوباء الطاعون..
ومع أن سمة بغداد هي التمدن وانتسابها إلى العلوم ودار الحكمة والمستنصرية وإلى الزهاوي والرصافي والجواهري وأن بغداد تُذكر بشوارع منارة بأضواء الفكر الإنساني الأبهى كالرشيد وأبي نؤاس وبمنتديات الثقافة التنويرية فيهما وبغداد تفخر بـ عبدالجبار عبدالله وإبراهيم كبة ويوسف العاني وهي بغداد بـ قوائم من عشرات آلاف العلماء والمبدعين في الآداب والفنون؛ مع أنها لا تذكر إلا بهذا؛ إلا أننا لا يمكن أن نتكئ على جذورنا وحدها بل ينبغي أن يكون ردنا بفعل حاضر وبقوة وعي لما يجري وتصد له..
إنّ ترك الحبل على الغارب وفلسفة لست مسؤولا عن تغيير العالم ويدي واحدة لن تصفق وحدها ولماذا أنا الذي يباشر التغيير وليس غيري؟ ودعني أعيش يومي وتلك أمور لا أفقه فيها أعود بها إلى مرجعي الذي أفتى بحرمة علاقة وتصفية إنسان وهو المسؤول.. إن هذه وغيرها من العبارات والقيم السلوكية هي التي تجعلني والآخرين في عالم الجهل والتخلف... وهي التي تضعني في عالم التابع والضحية الموضوع رأسه في قائمة انتظار في مجزرة هذا الخطاب التصفوي القائم على جعلي ساذجا يعيش كما الأنعام عندما أضع عقلي في مجمدة أو عندما أضع فكري وقيمي جانبا وأمضي مشاركا في رسم حياة شعب يريدون تحويله إلى قطيع محجور عليه في وطن يريدون تحويله إلى حضيرة أو زريبة.. فيما [عديد من نخبة ساسة الزمن الجديد] يفرضون نزعاتهم السادية وما يبتغون من أغراض!!
وبدل أن نصفق لهذا وذاك من زعامات ليس فيها سوى جلابيب وأعمة مزوقة لا تخفي إلا ذئابا بشرية وبدلا من خنوعنا بـ صمِّ الآذان عن أصوات مطالبنا وحاجاتنا وبـ غض الطرف عن حرياتنا وحقوقنا، ينبغي أن ننتفض على خطاب الاستعداء الطائفي فهو ليس من الدين الحق ولا من نصوصه ولا وجود لدين يأمر باحتراب واقتتال وإيذاء الآخرين أو الأنفس.. وليس من الصواب في الدين أن نتحول إلى مذاهب منفصمة محتربة وليس من المنطق العودة إلى نظام دويلات الطوائف الذي وأد ملايين البشر ورفضته البشرية منذ قرون.. وليس من المنطق أن نحيل دولتنا ومؤسساتها المدنية إلى مؤسسات دولة المافيا والفساد ومصادرة الناس في أرزاقهم وحيواتهم بحجة الطائفة والطائفية.. وليس من المنطق أن يكون الشعب ضحى كل تلك العقود والقرون من أجل أن نحيا للانتقام والدم والثأر المحرم بجميع الأديان..
وليس من الصواب أنّنا سرنا بكل تلك التضحيات كيما ندخل في دولة الخراب والنهب والسلب والقتل.. كما لن يعيد لنا إنسانيتنا المصادرة المسلوبة قشمريات تفريغ حيواتنا وحيوات بناتنا وأبنائنا في اللطم والتمرغ بالطين وممارسة طقوس دينية كرهبان منذورين بكل وجودنا لفكر يدعي أنه الدين السواء! فليس من صواب لرأي مَن عارض الحديث النبوي أن "لا رهبنة في الإسلام" وليس من صواب رأي من عارض حديث أن "يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبدا،..." فأين عمله وحياته وهو لا ينهي مناسبة طقسية دينية مزعومة حتى يدخلونه في أخرى.. وليس من صواب من عارض الآية الكريمة التي تقول: وقل اعملوا والحديث الشريف: عامل يعمل خير من ألف عابد وأن العمل عبادة.
ولم يقبل النص الديني حج أحد أو ممارسته طقس زيارة أو غيره قبل أن يسد حاجته وعياله... وبهذا فليس من المنطق أن تضيع أيامنا وأعمارنا في حروب مرضى الطائفية والفساد والإرهاب.. بذريعة أنهم مراجعنا المقدسة إذ لا صواب لمن عارض النص الديني المقدس ولمن عارض مقياس العقل ومنطقه ولمن وقف مع الجهل وضد تنوير الفكر... إنّ الأصل أن استخلاف الإنسان يعني منحه الحرية والخيار في اتخاذ طريقه لإعمار الأرض والعيش فيها كريما فالمعيار يتمثل في أن الخالق أكرم الإنسان باستخلافه على الأرض ليعمرها ويحيا في جنان ما يصنع لا أن يحيا في صوامع الطقوس المختلقة المصطنعة لتغييب وعيه وعلمه، تغييب عقله لاستغلاله من أوباش من زعران سياسة الطائفية والفساد الإرهاب... فلنحذر من أفكار الدين السياسي التي لا تمثل من الدين أمرا إلا التزييف والادعاء وهو ما يفضي إلى اصطناع الانقسام في وحدتنا الشعبية وجوهرها الإنساني الصحيح بالخضوع لانقسام النخب المصطرعة للتحكم بنا بتكفيرنا ومجموع بنات الشعب وأبنائه على وفق سنن ما أنزل الله بها من سلطان واستعبادنا بأفكار وفتاوى من اختلاقهم؛ وخروجهم على أحكام الدين في حقيقته وبعيدا عن مصالحنا وحقوقنا وحرياتنا.. فهلا تنبهنا على سبب ما نحن فيه؟؟؟