كوردستان في اتجاه استراتيجية الإصلاحات والبناء
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
شرعت في دول المنطقة متغيرات جوهرية، كان أبرز هدف فيها هو تطمين الحريات والحقوق وتوفير مؤسسات دولة مدنية تستند لآليات عمل قانونية ولبرامج موضوعية تستجيب لمطالب العامة من الجمهور. وفي العراق، كان للجموع الشعبية مطالبها في مسيرة إصلاحية تزيل البلاد من قائمة بل قوائم (الأسوأ عالميا) في مجالات عديدة.. ولعل الأمور في بغداد والمحافظات ما زالت تراوح حيث تخندقت خلف متاريس ربما تكون في كثير من مفرداتها سلبية ما ينتظر موقفا حازما من أجل التحديث والإصلاح واتخاذ برامج مناسبة للمهمة الاستراتيجية..
واستثناء من المشهد العام هذا؛ وجدنا جدية وجرأة كبيرتين في معالجة الأوضاع في كوردستان.. فهي أوضاع بالأساس تتميز باستقرار أمني بخلاف الأوضاع العامة في محافظات العراق الاتحادي وهو أمر يعود لخطط موضوعية سليمة وناضجة في التعاطي مع الملف، ومن ثمَّ في توفير أجواء العمل لإعادة إعمار حال من الخراب من مخلفات الماضي من جهة وفي محيط تكتنفه الأزمة عالميا، لكن يجري تخطيه بشجاعة هنا بكوردستان..
لقد اكتنف هذا الملف [الأمني] ومجمل الملفات الأخرى الحيوية الأخرى عدد من ثغرات الانطلاقة الأولى من جهة التعقيدات المركبة في أجندات العمل ومن جهة العقبات والنواقص التي طفت في الأجواء؛ وربما الاختناقات التي جاءت الأوضاع العامة في العراق الاتحادي وعدد من التداعيات المحيطة بالإقليم لكي تزيدها استشكالا..
المميز والإيجابي في الأمر هو ذياك الوعي الشعبي الذي اختار طريق تعميق الالتحام مع مسيرة بناء مؤسسات الدولة وتطمين الأوضاع وتطبيعها في ربوع كوردستان بما يعود على المواطنات والمواطنين بمزيد من أجواء الاستقرار وحركة التقدم.. وجاء تحول القسم الأهم في قوى المعارضة إلى طاولة المفاوضات ليمثل تحولا نوعيا سليما أكد حقيقة تميز مسيرة الإصلاح بعمقها ومصداقيتها وثباتها..
إن جملة الأسس التي دعت لمثل هذا الاتجاه الإيجابي تكمن في تلك الوثيقة التي أطلقتها رئاسة الإقليم بكل محاورها الشاملة تفاصيل المسيرة وقطاعات العمل والبناء؛ والاستراتيجية في التحضير لخطة بعيدة المدى لتحويل كوردستان إلى نموذج إشعاع وتأثير إيجابي في استقرار البلاد والمنطقة بعامة...
وما يعمق من صواب الانطلاقة وصدقيتها وزيادة تأثيراتها في أعمال الإصلاح والبناء هو قيامها على برنامج بمفردات معلنة بكل شفافية ووضعها على طاولتي التنفيذ والعمل من جهة والتفاوض والتطوير في ضوء التعاطي مع المحك الفعلي للمسيرة.. وإذا ما نظرنا ليس بعيدا بل هناك في العاصمة الاتحادية بغداد فإن الأمور جرت بوعود وُصِفت بالمرتجلة من جهة وبخلوها من أية خطة عمل أو برنامج حكومي ما أطاح بالمائة يوم في هاوية تعقيدات وأزمات جديدة.. بينما هنا كان أول الأمور وثيقة عمل إصلاحية وتبني خطة موضوعية مبرمجة بمفردات إنجازية..
ويأتي بيان السيد رئيس إقليم كوردستان كاك مسعود البارزاني ليكون علامة أخرى على سداد التوجه وصوابه.. وعلى جدية في التعاطي مع مختلف القضايا والملفات وإصرار على تحقيق الإصلاح الجوهري المنشود.. إذ يلخص البيان مراجعة مهمة في المنجز من الخطة القريبة ويضع أسس التحول إلى مزاوجة بين المرحلي والاستراتيجي في برامج الإصلاح..
إن وضع برامج عملية ومتابعة نسب الإنجاز وملاحظة مواضع الخطأ والصواب ومجالات التعديل والتطوير هي أفضل صيغ العمل المؤسساتي.. ويمكننا بالخصوص رصد أبرز مسألتين عبر عنهما البيان وهما: مسألتا مراجعة قضايا الأراضي والمشاريع السكنية وأراضي المساطحة وما اكتنفها بروح مسؤول وبمعالجات حسمت مئات مفردات، عديد منها يعالج مشكلات الفساد والأخطاء المرتكبة؛ وأسست الخطة لمعالجة جوهرية من أجل استكمالها لاحقا.. والمسألة الأخرى التي نرصدها تمثلت بإرساء سيادة القانون في جهتين مهمتين جهة الأسايش وجعلها مؤسسة مدنية مدمجة بمؤسسات الدولة على وفق قوانين عمل ثابتة وواضحة وجهة تطوير مجلس القضاء وأدائه وطبيعة التعيينات التي احتاجت لافتتاح أول معهد قضائي في كوردستان.. وليس هامشيا ما جرى على مستوى الإدارة بل تعمَّد الأمر بجملة تشريعات وقرارات ستفضي إلى مكافحة حاسمة وصارمة لأي احتمال للفساد أو للقصور في الأداء وجرى العمل على الارتقاء بمستوى التنفيذ والأداء..
إنّ جملة تلكم القرارات تمنح المواطن ثقة بخياره الانتخابي وبخياره الاستراتيجي في بناء المجتمع وإصلاح أجواء مؤسساته وجعلها أنموذجا ومثالا يعود عليه بخيرات استراتيجياته في اتجاه البناء والتعجيل بخطواته الإنجازية..
ولن يكون بعيدا، أن نشهد حاجة الإقليم إلى التوجه لخطوتين تاليتين أولاهما تعزيز مسيرة التفاعلات بين القوى السياسية وتحالفاتها وأرضية تفاوضها لتعزيز مسيرة الإصلاح والتقدم بها عبر تنفيذ برنامجين مرحلي واستراتيجي يجري التعديل فيهما على وفق الحاجات التي تبرز واقعيا.. واهتمام جدي بمحاور التحديث في قطاعات الصناعة والزراعة والتعليم بعمومه والتعليم العالي بالخصوص..
ومنظور البرامج وخطة رئاسة الإقليم والحكومة باتت اليوم واعية لنهج الاعتماد على القوى الذاتية بنهج التحديث والعلاقات الدولية المتفتحة لاستثمارات البناء الكبرى في مختلف القطاعات الصناعية والزراعية فهناك صناعة النفط والصناعات التحويلية والصناعات التي تلبي مطالب أبناء الإقليم وحاجاته في تفاصيل اليوم العادي إلى جانب اهتمام مباشر ومميز بالسياحة.. فيما الزراعة ارتقت إلى خطط نوعية تنتظر أيادي المتخصصين وبحوثهم وخططهم وأفكار التطوير وبرامج العمل فيها، بعد توافر التعديلات القانونية المتَّجه إليها..
ومجمل هذا الاتجاه يبقى بحاجة لنهضة ملموسة واهتمام مباشر بتحولات نوعية في قطاع التعليم العام وفي التعليم المهني الذي يخدم تخريج قوى العمل على وفق حاجات السوق مباشرة، وعلى وفق قوانين الانفتاح على أفكار من نمط دعم المشروعات الصغيرة وحاجة الأمر لمؤسسات رعاية تدريبية.. وسيكون على التعليم العالي واجب البحث في كيفيات التحديث على وفق خطط قريبة وأخرى بعيدة المدى من جهة تغيير تركيبة الجامعات من جهة طبيعة أقسامها العلمية والتخصصات فيها ومن جهة فرص أوسع لإجازات وتراخيص جديدة لجهات جامعية حديثة بآلياتها كجامعات التعليم الألكتروني وببرامج تلك الجامعات ومراكز بحوثها التي من دونها ربما ستبقى حركة الإصلاح مكتفة بطبيعة المؤسسة الحكومية التقليدية.. فيما طموح خطة رئاسة الإقليم الإصلاحية أكبر بكثير وهي بحاجة لمثل هذي الخبرات والأدوات الجديدة في العمل ومن وضع الخطة الإصلاحية يعي الأمر وقد أدخله في التصور العام للمسيرة..
إنّنا اليوم بحق أمام مشهد ينبغي أن نشيد به كونه يقدم صورة مختلفة كيفيا وكميا من جهة الإنجاز ومن جهة الرؤية المستقبلية التي يرسمها.. ونتطلع إلى الانتقال الفعلي لتطبيقات بنائية للإعمار والإصلاح بمستويات تتعاظم تدريجا مع تقدم فرص التحديث والتطوير.. وسيكون من المهم تكاتف الجهود سياسيا وتلاحمها من جهة واقتصاديا معرفيا تخصصيا بمختلف القطاعات لابد من التنشيط المؤسسي من جهة ثانية.. ولابد من قراءة الأداء والنجاح في ضوء تلبية حاجات شعب كوردستان والارتقاء بظروف حياته.. ومباركة هذي المسيرة الكبيرة ومن وقف وراءها وتلك الرؤية الموضوعية السديدة؛ بأمل تلاحم قوى المجتمع كافة من أجل أوسع عمليات بناء وإصلاح وأشملها..