كوردستان ومسيرة بناء المجتمع المدني الديموقراطي
باحث أكاديمي في الشؤون السياسية
ناشط في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني
منذ انتفاضة الشعب، شرعت كوردستان بعملية كنس آثار النظام البائد وجرائمه التي استباحت حيوات الناس وبيئتهم بكل التفاصيل التي عانى منها شعب كوردستان. ولعل التجربة القريبة ما زالت حية في أذهان الشعب من تهديدات كانت مطحنة يومية تعصف بكل شيء بل بوجود الإنسان الكوردي نفسه.. ولم تكن تلك المطحنة سوى سلطة الطغيان وأدواتها التي تبرقعت بها من تستر بالدين (الأنفال) واستعانت بالأطماع الخارجية التي ساندت الجريمة بالصمت والسكوت عما جرى وبالأصابع الممتدة في كل لحظة لاستغلال الظرف..
اليوم وكوردستان تتقدم تدريجا في إعلاء شأن بناء مجتمع مدني ديموقراطي، ويجري تمكين الشعب من مؤسسات دولته على أساس من الشرعية الدستورية، تطفو تداخلات معقدة لتثير ضبابية المشهد وتستغله لصالح القوى التي ما فتئت تهدد تطلعات شعب كوردستان.. سواء منها الداخلية (عراقيا) أم الخارجية (إقليميا ودوليا)، من تلك التي يهمها منع استقرار الإقليم وتقدمه والوقوف بوجه توسيع أدوات عمله المؤسساتي الديموقراطي..
وفي ظرف تصاعد الحركة الشعبية في منطقة الشرق الأوسط وفي العراق وتحديدا في ظل ظروف تضخم ممارسات أحزاب الطائفية السياسية عراقيا وتنامي سطوتها على ميادين الحياة وتهديدها الحياة المدنية في المحافظات الوسطى والجنوبية إلى جانب تراجع مساحة الأنشطة الثقافية التنويرية وتدهور التعليم ومحو الأمية الحضارية فضلا عن التراجع في تلبية الحقوق والمطالب الإنسانية في عموم القسم (العربي) من العراق؛ في مثل هذا الظرف يريدون تهديد فديرالية كوردستان ونشر أوهامهم وزعزعة السلطة المدنية العَلمانية ليعم ظلام الطائفية السياسية بذرائع الدين والدين منهم براء كما هو براء من أنفال الطاغية المهزوم..
إنّ شعب كوردستان يعي ظروفه الجديدة ومسيرة البناء المؤسساتي المدني وهو يغذ الخطى لتعميق تلك المسيرة وتطويرها وإزالة ما يعتريها من بعض ثغرات ونواقص.. وقسم مهم من شعب كوردستان بات يعي بوضوح آليات العمل الديموقراطي في مجتمع مدني بما يعني تحديدا احتفاظ آليات أنشطته المطلبية والسياسية بالروح السلمي وبمبدأ حماية ممتلكاته العامة والخاصة فهي ثروته وخيراته التي أنتجها وكان يستبيحها المستغلون وما لم ينهبوه كانوا يخربونه، فيما اليوم جميع مؤسسات كوردستان تبني وتتقدم بالحياة ومشهدها العام، من أجل المواطن وتمكينه من حاجاته وتطلعاته..
وسيببقى النظر إلى الحركة المطلبية للمواطن بوصفها جزءا مكملا جوهريا من مسيرة البناء أمرا مهما وحيويا في تعزيز تلاحم الحركة الشعبية النقابية ومؤسسات الحكومة.. فتلك هي تركيبة العمل بدولة ديموقراطية.. كما سيبقى احترام التعددية والتنوع الاجتماعي القومي الديني والسياسي من هذه التنوعات تحديدا أمرا جليلا وتكوينيا بنائيا في مسيرة الإقليم وشعب كوردستان ومؤسسات حكومته..
إنّ هذين الأمرين [التفاعل مع الحركة المطلبية واحترام التعددية السياسية] قد بديا في كوردستان الجديدة واضحين كما أفرزته الانتخابات البرلمانية الأخيرة وتشكيل حكومة الإقليم.. وهما يبقيان بحاجة للرعاية ليس من الحكومة والبرلمان وهي مهمتهما الرئيسة ولكن [أيضا] من الحركات والقوى الحزبية المؤمنة باستقرار كوردستان وتنميتها وتطورها؛ والمؤمنة بأن تعزيز الديموقراطية وإدامة مسيرتها لا يأتي بعمل جناح مؤسسات الدولة حكومة وبرلمانا ومؤسسات حسب بل من تعاضد الحركة الشعبية الواعية بآليات التقدم والتطوير كذلك..
وفي وقت تحترم الحكومة الأنشطة المطلبية والسياسية وتعمل على معالجة الثغرات والنواقص والارتقاء بنتائج جهودها، فإنه في الوقت ذاته يجب الحذر من أشكال التدخلات المحلية والأجنبية في توجيه تلك المطالب وآليات أدائها ميدانيا..
كما يجب الحذر من أن زعزعة الأوضاع بكوردستان مقدمة لمخطار ظلامية ليست سهلة تعيد الوضع إلى مربع قديم كان الشعب قد انتهى منه منذ عقدين على الأقل وينبغي الحذر من أن أوضاع الإقليم بما فيها من ثغرات وبعضها تعود لارتباطات اتحادية ببغداد الرسمية والحزبية بكل ما لهذا [الخيار الفديرالي] من إيجابي في خيار العراقيين بمكوناتهم ومن سلبي يلزم الحذر منه بما يخص مجريات الهجوم الممنهج على الحريات والأنشطة الثقافية التنويرية في المناطق العربية من بعض القوى السياسية الظلامية..
وتبادل التأثير بين قسمي الفديرالية في العراق، ينبغي أخذ الإيجابي منه لا السلبي.. وهو هدفنا بالقول إن كوردستان الجديدة هي السند الأروع لعراق مدني ديموقراطي فيما تخريبها يعني تراجعا لكل البلاد ومنها مخاطر تخريب التجربة الإيجابية المشرقة بالإقليم..
إن وعي التهديدات والمصالح التي تستغل الأنشطة المطلبية والسياسية مهم لكبح أعمال لا تمت بصلة إلى أداءات أبناء شعب كوردستان الواعية والسلمية المتمسكة ببناء أوضاعهم مدنية بهية بآلياتها الديموقراطية المتحضرة المتمدنة..
ونحن نؤازر كل نشاط يستهدف تلبية مطالب الناس والاستجابة لتطلعاتهم ونرى أن ذلكم يتحقق بتلاحم أمتن بين الحركات المطلبية الجارية ومؤسسات الحكومة وقيادة حركة التحرر القومي الكوردية التاريخية المطرز تاريخها بسجلات التضحية من أجل القضية الكوردية ومن أجل مطالب الكورد الإنسانية العادلة المشروعة..
إن إزاحة الثغرات والمثالب والنواقص ستتحقق بمزيد من تطوير مؤسسات الحكومة وتحديثها وتطهيرها من أشكال العقبات الكأداء التي يتحدث عنها المواطن من ملموس عيشه وتفاصيل يومه العادي.. ما يجعلنا نحن أصدقاء الشعب الكوردي وأخوته في الوطن نؤكد على المسؤولين بواجب الانتباه أكثر لمجريات الواقع ومتغيراته والتفاعل أبعد مع الشعب وهو ما نثق بتحققه بفضل كثير من مناهج ومفردات التغيير التي تجري فعليا وستجري بفضل خطوات حيوية يشهدها الإقليم اليوم..
ومن ذلك تفعيل لجان مكافحة الفساد، ودفع برامج التنمية الصناعية والزراعية والتقدم بقوى الإنتاج ورصد الميزانيات الوافية لشؤون الحاجات الروحية للشعب من ثقافة وتعليم بأحدث وأوسع ما يتاح بعصرنا..مع مزيد من التفاعل مع قضايا التشغيل ومعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تركة ماضوية ثقيلة..
مباركة تجربة فديرالية كوردستان ومسيرتها ومباركة حركة الشعب في التقدم بمؤسساته وتطويرها وتحديثها وتنقيتها، بفعل سلمي يحافظ على الموجود ويسير به إلى الأمام ويرفض كل محاولة لتخريب ما بنى أو هز استقراره أو التراجع به عن منجزه المدني المؤسسي المشرق..