رسائل مفتوحة وتفاعلات مع ما يجري تحت نصب التحرير:
3. ترويع الناس من التغيير! بين مصطلحي إصلاح النظام وتغييره؟
باحث أكاديمي في الشؤون السياسية
ناشط في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني
يسود اليوم عراقيا في الحوارات الجارية، توكيد على شرعية الانتخابات ودستورية وجود حكومة أحزاب الطائفية السياسية وفلسفتها في المحاصصة؛ ويثير هنا المدافعون عن المسيرة الحكومية، العاجزة عن تلبية مطالب الجماهير، الخوف من مصطلح )التغيير( بتصويره بأنه محض )انقلاب( على الشرعية؛ متهمين كل من يتحدث عن التغيير بالعداء للعملية السياسية..
أما نسبة من المحتجين فإنهم بين نار الحقيقة التي يمثلها واقع المواطنين وظروفهم القاسية وبين الخشية من تلك التهديدات والخروقات المحتملة من أعداء العراقيين ممن يتصيدون في الماء العكر. ومن أجل ذلك ابتدعوا لحركتهم الاحتجاجية مصطلح (اصلاح النظام) تحت ضغط خطاب التكفير والحظر على حق الشعب وشرعية توجهه لتغيير ممثليه وقواعد العمل في نظامه السياسي..
إنَّ اللجوء إلى مصطلح (إصلاح النظام) يمثل رؤية ضبابية في قراءة حقيقة ما جرى في تونس ومصر و ما ينبغي أن يجري في العراق وأي بلد آخر يعاني من الاستغلال والفساد..
فـ مجيئ حكومة بطريقة انتخابية، في وقت يكلفها بواجب الأداء ويمنحها سلطة قانونية ووجودا تشريعيا برلمانيا يراقب أداءها، لا يعني هذا بمجموعه تنازل الشعب عن كونه الأصل في أية سلطة وأنه يمكنه عند ظهور خلل جوهري أنْ يعيد الاختيار في التكليفين التشريعي والتنفيذي.. وقد ثبت أن الشعب مصدر السلطات وشرعيتها في أغلب الدساتير المعمول بها أمميا، ما أوجب العودة لإرادته في أي تغيير منشود...
وبناء على هذه الحقيقة التأسيسية الثابتة، فإن الأصل في وطنية المواطن لا تقاس بوقوفه مع الحكومة بشخصيات وأحزاب بعينها أيا كانت أغلبيتها البرلمانية.. فهذه الأغلبية في إطار التكليف تعمل على وفق التفويض الدستوري فإنْ وَجَد الشعب أنها أخلت في بعض الالتزامات ظهرت أشكال التعبير المطلبية.. وإنْ أخلَّت في الالتزام بدستور التعاقد بينها والشعب ظهرت أشكال التعبير السياسي بالتغيير وإعادة الانتخابات بما يلبي مطلب الاتيان بقوة تستطيع تلبية المطالب الشعبية تحديدا في التمسك بلوائح النظام السياسي الذي يريده الشعب..
واليوم، يرى الشعب العراقي تمسك أحزاب الطائفية السياسية بفلسفتها ويلمس بوضوح إمعانها في تطبيق هذه الفلسفة التي وصلت بالمحاصصة إلى وظائف دنيا لم تكتفِ بمحاصصة الوزارات ورئاسات المؤسسات وبمستوى المدير العام ورؤوس الإدارات الفرعية بل توجهت أبعد لحصر جميع الوظائف بالتزكيات الحزبية وربط الدولة ومؤسساتها بالأحزاب المتحكمة بالسلطة، ما أزاح مفهوم الخيار في ضوء الكفاءة وما ألغى منطق التشغيل بناء على التخصص و محا فرص تحديث العمل وهياكله بما يتلاءم ومنطق العصر.. وبالمجمل أعادنا إلى فلسفة النظام المهزوم في ربط الدولة بالحزب!
إنَّ هذه اللعبة الخطرة لن تدفع إلى عرقلة التشغيل المؤسسي وإشاعة البطالة بأشكالها بل تعني سيادة واقعِ خططِ ِ وهمية تضطر الناس فيها ليعتاشوا على فتات الثروة الناضبة.. فيما تتوقف خطوط الإنتاج وتشغيل الطاقات الحقيقية لقوى الإنتاج كافة.. وكما ترون فإن الأرض العراقية تبور والمياه تكاد تنضب والفلاح بلا حول ولا قوة أمام المشكلات المعقدة فهو في بطالة إجبارية تدفعه لسوق العاطلين في بلد الزراعة بلا زراعة وفي بلد النخيل الذي كان الأول عالميا وصار اليوم بلا نخيل!! وصناعيا لا مصانع تعمل ولا عجلة إنتاج تدور وهناك خراب في التعليم وإعداد كوادر تلاحق زمننا..
وقراءة المشهد العام بمحصلته للسنوات السبع العجاف تقول: إنَّ هذه ليست أمورا هامشية أو ثانوية بل مشكلات جوهرية بمستوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. ما يتطلب تغييرا جوهريا بأن يستعيد الشعب التفويض ويتخذ الإجراءات الكفيلة بعدم إعادة الطائفيين والفاسدين ممن سطا على المشهد بألاعيبه التي تدعمها خبرات المافيات المنظمة والميليشيات التي تبتز الجموع..
إنّ قراءة دوافع الترويع من التغيير ستكشف عن اتخاذ خندق الدفاع عن الطائفية السياسية وسطوتها بالتحالف مع قوى الفساد والإرهاب؛ كما أن قراءة إثارة الخشية من التغيير ستكشف ضعف الثقة بقوة الحركة المدنية الديموقراطية للمجتمع العراقي وقدرتها على تأمين شروط التغيير وإدارة خطواته.. وانعدام الثقة بالقوى الشعبية يولد خشية من الاختراقات بخاصة في وجود بعبع الانقلابيين من بعثفاشية وغيرهم..
لكن القراءة الموضوعية التي تقوم على تلمس المشهد الإيجابي العام الجاري في المنطقة وعلى وعي الشعب بمطالبه وحاجاته الاقتصادية منها والسياسية وغليان الأوضاع السائدة ووصولها إلى ذروة مستويات الاستغلال يقول بواجب التغيير والتوجه إليه بلا خشية من نواقص هنا وثغرات هناك..
لأننا إذا انتظرنا ردحا آخر من الزمن فستخسر الحركة الديموقراطية الفرصة التاريخية القائمة جماهيريا وستعطي لقوى الاستغلال فرصا مضافة كبيرة لتمكينها من إدامة سلطتها واستيلاد دكتاتورية دينية باتت تؤشر وجودها بطريقة علنية مفضوحة.. حيث تعود العناصر الوزارية وجل الحكومة وأحزابها للتلحف بسلطة الولي الفقيه وتشيع في الشارع تحريم أنشطة الثقافة وأشكال السلوك المدني في مجالات التعليم بخاصة إذ تحاول إسكات منظمات الثقافة والآداب والفنون واختلاق بدائل تضليلية مع سطوة على صفوف الدراسة وعلى الحرم الجامعي برمته بوساطة قوى عنفية من زعران ميليشيات أحزاب الطائفية، الذين يمارسون الرذيلة والفساد وابتزاز الأساتذة والطلبة فيما يتظاهرون بالتعبير عن القيم الدينية تظاهرا كاذبا فضا..
إنَّ مصطلح التغيير هو الكفيل بإصلاح جوهري للنظام العام وهو الضمانة لتطهير العملية السياسية وتعديل مسيرتها وتقويمها من الداخل.. فيما الصمت بشأن مصادرة الاحتجاجات الشعبية وفرض شعارات مطلبية ضيقة سيعني مشاطرة أحزاب الطائفية والفساد في إشاعة فلسفة الطغمة الاستغلالية ناهبة الثروة الوطنية حد النضوب، سارقة حيوات الناس حقوقا وحريات.. يجب أن تعلو شعارات التغيير وهي ليست مرعبة إلا للمفسدين في بلادنا..
التغيير يعني تمكين الشعب وقواه من الدفع بقوى مدنية ديموقراطية تستجيب لمطالبهم بعد أن تمّ طمس دور تلك القوى في السنوات العجاف.. وعلى القوى الديموقراطية أن تتصدى لمسؤولياتها اليوم بوضوح وجرأة لأن المعارضة والاحتجاج هي تعبير سلمي عن الراي في إطار شرعية دستورية أساسها حق الشعب في مراجعة نظامه عندما لا يلبي مطالبه وحقوقه ويودي بظروفه إلى الحضيض كما تحكي ظروفه الفعلية يوميا..
إنّ فكرة الإصلاح الحقيقي المنتظر لن يستجيب لمطالب الشعب إلا بكونه إصلاحا كليا شاملا لمن يتحكم بالنظام السياسي بمعنى التغيير الجوهري فيه.. ومن هنا فإن الشعار يتمثل في أن الشعب يريد تغيير النظام، ولا خشية ولا خوف من هذا التغيير الجوهري.. وثقتي أن القوى الشعبية تتطلع إليه وسترفعه وتلتف حوله وهي لن تنزل اليوم إلى الشارع وتتعب نفسها إذا ما استمر الأمر مقصورا على شعارات ترقيعية في المعالجة.. كما أن عناصر وقوى وأحزاب مهمة في النظام العام وبنى هيكلية مؤسسية عديدة هي جزء من عطاء الشعب وإنتاجه وبنائه مما ستقف مع التغيير ومما لا يمكن للتغيير أن يطاوله بالهدم.. فرفع شعار تغيير النظام إيجابيا يعني بروحه السلمي الدفاع عن مؤسسات الشعب ومنع تخريبها أو المسّ بها؛ كما يعني الالتحام مع العناصر الإيجابية في النظام القائم..
والتغيير الذي يطالب به الشعب، سيتجه إلى رفض الطائفية السياسية وأحزابها وسيحاسب بقوة الفساد والمفسدين وسيوقف أسباب وجود الإرهاب والإرهابيين.. فإلى حركة التغيير الشعبية السلمية هذه، بجوهرها الوطني الديموقراطي الذي [يتمسك بـِ] ويحافظ على التعددية والتنوع وعلى الوجود المدني بكل الاحترام وإعلاء المكان والمكانة..
فهل من هكذا تغيير يخشى صاحب حق؟ توقفوا عن الخشية والتردد، توقفوا عن الميل للترقيعات فهذه أمور يمكن التعامل معها في الظرف غير الثوري ولكن الظرف القائم ظرف مختلف نوعيا ينبغي استثماره لصالح الشعب ومطالبه.. إنه ظرف التغيير من أجل الديموقراطية ومفرداتها التي تأتي بالبناء واحترام المواطن ووقف نزيفه فرديا وجمعيا..
ومصدر عدم الخشية يكمن في مصداقية التحرك الشعبي وفي مشروعية تأسيسية تامة.. يؤكد ذلك أن الحركة الديموقراطية هذه تتسم بسلميتها وتتخذ طابع رفض الانتقام والثأر ولا تحافظ على سلامة الناس ومصالحهم وممتلكاتهم العامة والخاصة.. وأبعد من ذلك ترى في عدد من العناصر الموجودة في النظام حليفا استرتيجيا كما في حركة التحرر القومي الكوردية وقياداتها التاريخية المعروفة بفلسفتها المدنية وبتوجهها الديموقراطي، وكما في عديد من الشخصيات الوطنية الديموقراطية التي تؤمن بأن واجبها الرئيس يتمثل في تبني مطالب الجماهير المحتجة والعمل بالطرق المتاحة لتلبيتها..