تداعيات تأخير تشكيل الحكومة العراقية والمغامرة الخطرة؟
تيسير عبدالجبار الآلوسي
أشهر مضت والسجالات الجارية بشأن تشكيل الحكومة بين المراوحة السلبية في مكانها والتنقلات المحدودة خارج جغرافيا ميدان إنتاج حكومة وطنية حيث الاتصالات الإقليمية وضغوطها وتدخلاتها قائمة على قدم وساق. لقد ركنت (بعض) الشخصيات (المعنية) إلى المراهنة على عامل الوقت لتحقيق رغباتها بخاصة في كسب رئاسة الوزارة؛ فيما قبل (البرلمانيون المنتخبون) تحييدهم عن أي عامل تأثير في زحزحة الجمود والتعاطي مع الحل الأنضج...
إن المشكل الرئيس اليوم لدى القوى البرلمانية الفائزة في الانتخابات، يتمظهر في أزمة من يرأس الحكومة.. وبذلك فهي تهمل بوضوح تام مشكلات الناخب وتتجاهل حقوقه وحاجاته الضرورية الماسة العاجلة منها والآجلة. وبالنتيجة تبرز أزمة تعطيل آليات العمل الدستوري بتعطيل عمل البرلمان وأعضائه في التعاطي مع الإشكالية.
ومن السهولة بمكان، من أجل الحل الأمثل، النظر إلى تجاريب وقوانين نظيرة أخرى بالخصوص والتبصر في جوهر ما تدل عليه مفردات الدستور العراقي بعيدا عن تأويلات قانونية مفتعلة تأتي تحت ضغوط تشوّه دور القضاء في حسم الأمور التي تعلق بين مؤسسات الدولة وممثليها.. والأمر هنا يتعلق بموضوع الكتلة الأكبر؟
فلو أن الإيمان بالتداولية كان من النضج بدرجة كافية لما صرنا إلى تمسك رئيس الحكومة المنتهية ولايته بهذه الطريقة وكان يمكن للعبة الحزبية أن تمضي من بوابة البرلمان ومنحه الصلاحيات (الدستورية الحقة) في التعامل مع اختيار شخص رئيس الوزراء وبالتأكيد سيكون الحل الموضوعي المناسب كامنا في منح فرصة محاولة تشكيل الحكومة لـ(القائمة الفائزة) كما يؤكد منطق الأمور وآليات العمل في كل برلمانات العالم وفي الانتخابات الجارية فيه..
لقد شكل تمسك السيد المالكي شخصيا بالسلطة طعنة لمفهوم التداولية وللعمل الدستوري وجاءت محاولة الحل التلفيقي بتأويل المقصود مَن (الكتلة الأكبر) لتعقد المشهد من جهة الحصيلة ولكن الأخطر والأبعد لتهدد سلطة الدستور من جهة ونزاهة القضاء العراقي في علاقته بالخطابات الوطنية الأخرى بمعنى التشويش على العلاقة بين السياسي والقانوني القضائي وربما الانزلاق لما هو أبعد من مجانبة الصواب بـِهزّ العملية السياسية والاستقرار المنشود وطنيا..
إن حال استغلاق الحوارات بمطالب وشروط ثابتة محصورة بزعامة كتلتين واستمرار الأمور بهذا الركود وإن بدت بمشهد حوار أو سجال بين طرفين، يشوش على مسيرة العملية السياسية ويعقدها وأكثر من ذلك يضعها بمواجهة تهديدات ومغامرات خطيرة ستضر بالاستقرار وربما تذهب أبعد من توقعات أطراف السجال الحالي المراهنين على عامل الوقت وهو ذاته العامل الذي سيطيح بتطلعات الناخب في برلمان اختاره وربما سيلغي العمل البرلماني بسلطة عسكرية انقلابية طارئة...
وحتى بعيدا عن مثل هذا الاحتمال المغامر (وهو احتمال قائم ربما يتبدّى بأشكال غير محسوبة).. أقول حتى بعيدا عن هذا الاحتمال بكل أشكاله وفروضه فإن حال السجال بين زعامات الكتل البرلمانية بعيدا عن قبة البرلمان لا يقف عند تعطيل دور البرلمانيين المنتخبين بل يدفع باتجاه حلول تلبي مطالب زعامتين وربما تحظى بالغطاء التصويتي الكافي ولكنها تتجاوز على مطلب تأمين الإجماع الوطني وخيار حكومة الشراكة الوطنية و وحدة التراب الوطني..
والأمر هنا لا يتعلق بحكومة تتمثل فيها القوى والحركات الموجودة في البرلمان بل بحكومة تستجيب للظرف العراقي المعقد ولمطلب الشراكة التي لا تقصي أحدا في العملية السياسية التي تبقى هي أيضا بحاجة لنباهة جدية مسؤولة تجاه ما يحيق بها من تهديدات.. وتبقى فلسفة الاتفاق الوطني محسوبة للتقدم تدريجا إلى أمام وبناء جسور الثقة بين أطرافها أي تعميد الوحدة الوطنية وعدم تجاوز عناصر كينونتها..
وهكذا فإن مشكلة التأخير والتأجيل يمكن أن تنقلب، إذا ما واصلت كتلة دولة القانون على التعاطي مع فروضها وتفسيراتها في تجاهل النتائج الانتخابية من جهة، وفي رفض التداولية والامتناع عن القبول بالآليات البرلمانية الدستورية..
كما أن دور الكتل البرلمانية الأخرى ينبغي أن يغادر، في تعاطيه مع المشكلة، مسائل استغلال الفرصة كيما يبحث عن مكاسب فرض الشروط في ثنايا الصراع بين زعيمين وقائمتين.. وأن يدخل طرفا في الضغط باتجاه الحل مثلما تفعل القائمة الكوردستانية بجهدها المنصب على الأساس الوطني العراقي أولا.
إن القوانين واللوائح وآليات العمل البرلماني واضحة المفردات فبالعودة إلى فضاءات الحوار السليم سنجد بوضوح مسألة الأسقف الزمنية القانونية التي ستكسر مغالق الأمور إذا ما التزمناها.. وكيما نخرج من نفق الأزمات المضافة والمغامرات غير المحسوبة،علينا أن نحتكم للدستور والقانون واللوائح وإذا كان من ثغرة أو نقص فإن وضعنا العراقي ما زال يستحق المراجعة بطريقة الانفتاح على القوى الوطنية كافة بغض النظر عن الأحجام البرلمانية ودخولها فيه من عدمه.. بمعنى العودة للتوافقات السياسية لتجاوز الاختناقات على قاعدة أن العملية السياسية هي الأشمل في التعبير عن المشهد العراقي وهي الهدف الرئيس الأكبر الذي يعني مصالح الناس ومطالبهم..
وفي هذا الإطار، يمكن للقوى الوطنية أن تنظر إلى تجاريب أخرى وأن تستجلب القراءات القانونية المناسبة التي تفضي إلى معالجة ما يعرقل تسيير الأمور إذ ليس القانون إلا وسيلة لتأدية المهام بطريقة تبني وتخدم الناس بمعنى أن القانون ليس وسيلة لخدمة نوازع صراعات الوجود الفوقي؛ وتوكيدا فالقانون يضبط حركة هذا الوجود ويوجهه لتأدية مهامه في خدمة المجتمع ومن هنا فإن البحث الإيجابي الجدي في الثغرات القانونية هو أول الطريق لسدها بمعالجات مناسبة وهذا هو ما يملك الأولوية وليست الأولوية لتأويل القانون وليّ الأذرع لصالح مكسب كتلة أو أخرى..
وبعامة وفي الظرف القائم عراقيا وتحريكا للأجواء ومنعا لتعثر العملية السياسية ومن أجل استقرار الأوضاع وجب القيام بالآتي:
1. تفعيل أدوار البرلمانيين وتحويل صلاحياتهم إلى أداء مؤسساتي عمليا؛ والامتناع عن فكرة التأجيلات ربما المتكررة أو المفتوحة لجلسات البرلمان..
2. ضرورة البحث في مخارج توافقية مشتركة تساهم فيها جميع القوى والكتل البرلمانية وغير البرلمانية وربما العودة لدور المؤتمر الوطني الطارئ للتصدي لاختناقات أزموية خطيرة..
3. الاستفادة من الخبرات القانونية الدولية بشأن الحل بإشراف كل من المتخصصين والمحكمة الدستورية مع منحهم الصلاحيات الوافية والاستقلالية في تبني المعالجات المناسبة للمشكلة (تحديدا هنا معضلة رئاسة الحكومة).
4. التفكير بأمرين مباشرين بشكل عاجل يكمنان في تبني برنامج عمل يتناول الحاجات المباشرة العاجلة لتسيير الحياة بطريقة تستجيب لمطالب الناس والتوجه لدراسة مرشحين تكنوقراط للوزارات المعنية بمثل هذا الخيار..
5. العودة إلى مبدأ استشارة الشخصيات الوطنية الخبيرة والمتخصصة وربما تأليف لجنة خبراء بالعودة لمؤتمر وطني عاجل قابل للانعقاد الطارئ..
6. النظر بإيجابية تجاه الأسقف الزمنية ومنع أي احتمال لتجاوزها بالتقدم بحلول وبدائل مقبولة قبيل مواعيد تلك الأسقف النهائية.. مع التفكير بصلاحيات وتوازنات مؤقتة لحين استصدار القرارات الدستورية المناسبة..
7. القبول الفوري بانتخاب رئيسي الجمهورية والبرلمان ونوابهما بعيدا عن أية حسابات مخصوصة بالتشكيل الحكومي..
إن هذه المعالجة الموجزة مجرد إشارات ولكنها تنبئ بما يختفي تحتها من غليان شعبي ربما يكون تفجره أخطر من المتوقع.. إذ ما عاد في جعبة المواطن المغلوب على أمره ما يقدمه.. ولسان حاله يردد: بين اللعب السياسي للحصول على مكاسب وانتزاع مسؤولية لصالح كتلة وبين سلطة القانون ومحدداته بون شاسع لم يملأ إلا بأزمات جاءت على حسابه هو المواطن البسيط.. والمشكلة تكمن في حكومة برنامج وطني وليس في من يرأس الحكومة وأي حزب يشكلها.. فهل دق جرس الإنذار بحق لدى المعنيين أم سيمضون في تعريض العملية السياسية ومطالب الناس لتهديدات مغامراتهم؟