عقدة تأليف حكومة الشراكة الوطنية
الأستاذ الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي
باحث أكاديمي في الشؤون السياسية \ناشط في مجال حقوق الإنسان
سجال يحتدم بين الكتل المتنافسة من أجل حجز مقعد رئاسة الحكومة بكل منها. وإذا كان طبيعيا أن تعمل كل كتلة على الدفع باتجاه تسلمّ الحكومة لوضع برنامجها موضع التطبيق فإن هذه الفكرة [فكرة الحصول على منصب رئيس الوزراء] ستتحول إلى عقبة وعقدة غير طبيعية بالضد من مسار تطمين الأجواء والاستجابة لمتطلبات الواقع في الظرف العراقي الراهن.
وبعد الانتهاء من الانتخابات الأخيرة، تتفق الكتل على أمرين رئيسين مهمين:
1. الأول هو أننا بحاجة لبرامج وطنية تنهي الطائفية وفلسفتها وآليات اشتغالها بعد هزيمة المشروع الطائفي أمام وعي الشعب وتصويته الحاسم ضدها.. وتمسكه بقيم الوطنية ورفض التقسيمات المرضية..
2. الأمر الثاني يكمن في أن الحكومة ينبغي أن تتشكل على أساس الشراكة الوطنية وأن طرفا لا يمكنه لوحده أن ينهض بمهمة معالجة مطالب الواقع وتداعياته بتعقيداتها كافة..
لكن ما يجري خلف الكواليس لا يعبر في حقيقته عما يفرضه هذين الأمرين من مطالب وآليات، على الرغم من كل البيانات الدعائية والتصريحات التي تبدو متشابهة متحدة. وتساؤل الشعب هنا يقول: إذا كانت بحق كل الكتل ببرنامج وطني وجميعها تؤمن بتشكيل حكومة الشراكة الوطنية، إذ أين المشكل في تأخير تأليف الحكومة؟
إن مجريات الأمور تؤكد أن تحولا جديا ملموسا قد جرى على صعيد فرض إرادة شعبية تتجاوز فلسفات بعض النخب السياسية بخاصة [وتحديدا] تلك التي تحكمت بالأوضاع طوال السنوات السبع الماضية بآلية التمييز الطائفي. وحاولت تلك القوى في ضوء تفاعلات الواقع أن تبدو وكأنها تغيرت. لكن إجراءاتها وقراراتها ما زالت تحكمها فلسفة ما انفكت مشدودة بقوة إلى (الطائفية) وفكرها المقيت.
لقد جاء على سبيل المثال إعلان التنسيق البرلماني بين الائتلاف الوطني ودولة القانون ليصب في خلق أجواء ومقدمات الفرز الطائفي مجددا ومن ثمّ احتقاناته المحتملة في ظل لا التصريحات ولا بنية التنظيم ومكوناته الطائفية حسب بل وفي التجاوز على الدستور بربط حل الخلافات بين الكتلتين المؤتلفتين لا بالقانون ولا بميثاق عمل ولا بمبادئ سياسية وإنما بالعودة والاحتكام إلى (المرجعية الدينية)!؟
وعلى الرغم من بيانات المرجعية الدينية بوجوب عودة السياسيين والمسؤولين الحكوميين إلى الإرادة الشعبية وممثلها المنتخب وعلى وفق الدستور والأداء القانوني وعلى الرغم من أن الخيار الشعبي أكد دستوريا أن العراق دولة دستورية مدنية لا دينية ولا تحتكم بنظام ولاية الفقيه إلا أن بعض القوى ما زالت تؤكد بممارستها العودة إلى المرجعية (الدينية) بصفتها الرسمية الحكومية والحزبية؟
وهذا ما مثَّل ويمثل وجها من أوجه اختراق الدستور والقوانين المدنية فضلا عن تعارضه والتصريحات التي تصدر عن المرجعية نفسها بشأن تجنبها التدخل في الشؤون المدنية الحكومية.. كما أن المرجعية الدينية مثلما هو معروف متعددة بمرجعيات واجتهادات ولا تحظى مرجعية واحدة بكونها كلية التوجيه حتى داخل المذهب ومجتهديه، واختيار مرجع من دون آخر أمر قد يثير تساؤلات متنوعة؟ إلى جانب أسئلة تتعلق بحق كل عراقي في أن يكون مرجعه في حياته العامة هو الدستور المتفق عليه وليس أية مرجعية دينية أو مذهبية أو ما شابهها من المرجعيات غير المرجعية الوطنية المعتمدة والمتوافق عليها...
إن جميع العراقيين يتبادلون احترام بعضهم بعضا ويؤمنون باحترام متبادل لمجموع الأطياف والديانات والمذاهب والاجتهادات؛ وكذلك يحترمون المرجعيات التي تمثل هذه المعتقدات جميعا على أساس من المساواة القانونية والمرجعية الدستورية الواحدة وعلى أساس من مفهوم الوطنية والمواطنة.. وبمقابل هذا تصبح العودة لمرجع من دون آخر خارجة على مبدأ المساواة وإتباع جميع التنوعات لجهة طرف واحد وإخضاع المشهد المدني لصالح الديني ومن ثمّ التحول بنا إلى تطبيقات من الدولة الدينية الطائفية ببعض آليات عملها إن لم يكن بمجملها وجوهرها!؟
إنَّ لكل كتلة حقها في التعاطي مع فلسفتها ومع ميولها الفكرية السياسية وخلفيتها الدينية أيضا؛ ولكن ما ينبغي التذكير به هو أنه ليس من حق اية فئة أو كتلة أن تصبغ الآخرين وتخضعهم لمعتقداتها الدينية ولمرجعيتها المذهبية حيث يتنوع المشهد العراقي أديانا ومذاهبا ومعتقدات فكرية سياسية. ووجود كتلة أو أخرى وتسلمها مسؤولية الحكومة يلزمها بثابت وحيد هو آليات إدارة الدولة وتصريف الأعمال الاقتصادية السياسية بما يخدم مسيرة الوطن والمواطن على أسس دستورية محددة وبآليات موصفة بالقوانين وليس برؤية دينية أو مذهبية أو باجتهاد مرجع أو آخر..
إن الخضوع للقانون والالتزام به واجب ملزم وطنيا وهو لا يستهين بمرجعية دينية أو أخرى ولكنه لا يبيح لطرف حكومي بربط تصريف أعمال الدولة والحكومة باية مرجعية. وينبغي لنا أن نوقف هذا المشهد اليوم قبل الغد لأنه سيؤدي لفرز واحتقان طائفيين مثلما يؤدي لمقدمات التوجه بالدولة من مدنيتها وخدمتها المواطن وإنصاف مبادئ المساواة والعدل إلى دينية الدولة وإلى إخضاعها لآليات ولاية الفقيه؟
إن من يثير الاحتقان ويؤدي بالشارع للتثوير والاحتدام هو من يمارس هذه الآليات في ذات الوقت الذي يزعم تضليلا التزامه ببرامج وطنية! إذ أية وطنية يمكننا الاستبشار بقواسمها المشتركة في ظلال هذه الآليات الطائفية؟
إن خطاب التضليل وذرّ بعض رماد البيانات ومصطلحات الوطنية لن يغير من جوهر الواقع المرضي الطائفي.. فالتعبير عن الوطنية في البنية التنظيمية ليس جمعا كميا بين عناصر محدودة الصلاحية معزولة عن بعضها وليس بينها سوى الجمع الكمي النضري في كيان طائفي البرامج والتشكيل والآليات.
إن ادعاء الوطنية بتطعيم الكيان الطائفي بعنصرين أو بعناصر معدودة من الأطياف الأخرى لن يتحول بالطائفي إلى الوطني فمبدئيا الفكر والبرامج الطائفية هي ذاتها لم تتغير وثانيا إن وجود عناصر مهمشة في ذيل الكتلة ولا قرار لها فضلا عن عدم تمثيلها لفئاتها وأطيافها لن يغير المشهجد الحقيقي تنظيميا.. بل لن يرقى لمستوى الديكور والإكسسوارات إذ لا شيء بادِ ِ من وجودهم سوى تعزيز خطاب التضليل أو الادعاء والتشويش...
الوطنية والالتزام بالدستور لحين ولادة قانون أحزاب يحدد شروطه القانونية الدستورية يعني أن (أن يحق) وأن يستطيع المواطن التعبير عن مختلف الأطياف بأسبقية الوطني على الفئوي المذهبي وأن تعلو المواطنة جوهريا على التقسيمات الاجتماعية وغيرها. وهذا لا يتوافر في أي طرف يستند إلى الفكر الديني الطائفي بسبب أسبقية مرجعيته (الدينية الطائفية) على وطنيته فضلا عن حصر آليات اشتغاله فيما الوطني المدني (العلماني) مرجعيته دستور الشعب وقوانينه وثابته الأساس الشعب ومصالحه ومساواة أبناء الشعب جميعا بلا تمييز من اي نمط وبلا أسبقية تعلو على الوطنية..
من هنا كان واجبا اليوم على الكتل الفائزة على وفق القانون الانتخابي الذي فصَّلته لعودتها إلى البرلمان بهذه الصورة أن تلتزم على أقل تقدير بما أقرته وبما استجاب لبعض بنود الدستور وأن تقر النتائج التي أفرزتها الانتخابات وتمتنع عن تعطيل انعقاد البرلمان وتتجه لأداء الإجراءات على وفق الأسقف الزمنية بلا تلكؤ وهذا يتطلب الانتقال إلى الخطوات اللاحقة لإعلان نتائج الانتخابات وإقرارها وتجنب التأويلات واستغلال تفسيرات القانون لصالح هذه الكتلة أو تلك..
***
بعامة لا يمكن الادعاء بأن زعامة أو كتلة ستتغير بقضها وقضيضها لتنتقل من الطائفي إلى الوطني بين ليلة وضحاها ولمجرد ضغط التصويت الانتخابي. ولكننا نعمل بالمتاح من إعلان النيات الوطنية من جميع الأطراف لنعزز الاتجاه عبر الضغط الشعبي..
وهنا ستطفو النقطة التالية التي يجب الانتهاء منها لصالح الوطني.. تلكم هي تذمر بعض الأطراف [الطائفية تحديدا] من النقد ومحاولة مصادرته بالقول: إن نقد الحكومة هو إضرار بالعملية السياسية حيث توضع زعامات سياسية بعينها والحكومة موضع العملية السياسية والصحيح يكمن بالقبول بالنقد لأن الثابت الوحيد هو الشعب ومطالبه وحقوقه والوقوف مع العملية السياسية وتطويرها يفترض وجود النقد مثلما تفترض آليات الديموقراطية عدم وجود حصانة ضد النقد لأعلى مسؤول في أجهزة الدولة.. ما قد يصل إلى حد الإقالة والمساءلة القانونية سواء عن إهمال أو تقصير أو ممارسة غلط أو خطأ أو ارتكاب ما يضير أو حتى جريمة.
وأجدد التوكيد على أن قمع الرأي النقدي وخطاب التضليل الذي يقف ضد نقد شخصية أو طرف حكومي أو الحكومة برمتها يعنيان السطو على العملية السياسية وتشويهها وتجييرها لمصالح ضيقة ليس بينها مصلحة الشعب ولا حتى مصلحة أي طيف أو مجموعة دينية أو مذهبية.. بدليل أن من ادعى تمثيل الشيعة لم يبنِ ولم يعمِّر مدينة أو قرية أغلبية سكانها من المنتسبين للمذهب طوال السنوات السبع التي حكم بها...
إذن فالنقد هو ما يطور العملية السياسية ويخدم الشعب وهو ليس تثويرا سلبيا بل تفعيلا لدور الناخب في الدفاع عن تصويته وعن الدستور الذي صاغه مرجعية لوجوده الوطني ومنعا لسطوة جهة تدعي تمثيل طائفة أو أخرى على العملية السياسية وتمثيلها المسيرة الوطنية.
وسيأتي الغد بحاجة الشعب للتظاهر ولفرض إرادته بصوته المباشر إذا ما واصلت بعض الزعامات والكتل إهمالها للمطالب والأولويات الوطنية المحددة دستوريا. وحق التعبير بأشكاله هو الآخر حق دستوري مكفول وهو ضامن حقيقي لحماية العملية السياسية من المصادرة والانحراف بها عن مصالح الشعب.
وعلى القوى الحية في المجتمع اتخاذ التدابير الكفيلة جماهيريا بهذا الضغط المنتظر. كما أن الشعب ينتظر من القوى الحية داخل جميع الكتل لوقف ترك التداعيات محكومة بسجالات أفراد أو زعامات بعينها.. فقد ولى زمن الشخص الأوحد ونظام التفرد والفوقية والأبوية والتوجيهات ويجب أن يجري تفعيل غرف عمليات سياسية داخل الأحزاب ولجان حوار وتفاعل بين الجميع بما يخدم تشكيل حكومة شراكة وطنية ببرنامج وطني بمفردات وأسقف واضحة ومكشوفة للشعب بكل شفافية مع الالتفات إلى أن الحكومة القابلة يجب أن تتشكل من التكنوقراط ومفهوم الكفاءة للتفرغ للعمل والإنجاز وليس لصراعات المحاصصة وتسويق الفساد التي نما في ظلالها..
ولهذا الحديث معالجة أخرى نأمل أن تتم في ظلال ولادة حكومة جديدة لا في ظلال التلكؤ والتسويف والصراعات. كما أن هذه القراءة لا تتقاطع مع شخصية أو كتلة بقدر ما تريد التنبيه على خطأ مسار أو إجراء وواجب التعديل إذا ما أقرت التجربة العملية صواب الرأي وبالخلاصة فإنها توفر فرصا للحوار الموضوعي حتى إذا جيء ببدائل أخرى أدق وأكثر صوابا لأن هذا هو المستهدف. وخروج زعيم أو مسؤول أو وزير من مسؤوليته لا يعني انتقاص منه ولكنها الآلية الأنجع التي ليس لها أسبقية أو أولوية إلا مصالح الشعب وخياره في عملية سياسية نزيهة ناضجة تلبي مطالبه وحاجاته وتتبنى حقوقه واقعيا.