بصراحة تأثير التوتر بات خطيرا وبحاجة لوقفة مراجعة!؟
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
باحث سياسي أكاديمي\ناشط في مجال حقوق الإنسان
العنف السائد يهدف من بين مآربه إلى إشاعة أسلوب التوتر والشحن غير الطبيعي لأجواء العلاقات الإنسانية الفردية والجمعية. ومن المعروف أنه تحت الضغط ليس من السهل المحافظة على التوازن المطلوب لإدارة علاقة أو تفاعل بين طرفين أو أكثر. والضغوط التي تطحن المواطن العراقي اليوم ليست من جهة واحدة فهي قد تبدأ من تفاصيل يومه العادي ومسؤوليات العيش ولكنها لا تنتهي بحجم ما يجابهه يوميا بل في كل ساعة من خطاب قوى العنف والتطرف الإرهابية وقوى الطائفية والفساد...
فهذا المواطن يجابه تكرارا مؤلما لخطاب الانقسام الطائفي والتخويف واختلاق الرعب من الآخر؛ كما يجابه تكرار ما يبرز ويركز على تلك الوقائع السلبية التي تراكمت عبر التاريخ؛ وما يضخم كل نأمة ومفردة من خطايا الاحتراب والقطيعة بين طرفين أو أكثر؛ ومع محاولة صبغ أحداث أخرى بألوان طائفية مفتعلة التناحر؛ ومع تأويل الأمور والأحداث وصنع القراءات العرجاء التي تلوي أعناق الحقائق وتقدمها معوجة على هوى الطائفيين والعنصريين.. وتحت كل هذه المحاولات المتكررة يزداد الضغط على هذا المواطن، الإنسان العادي...
وصحيح أن هذا الإنسان يتعرف بوعيه الفردي وخبراته الجمعية إلى جوهر الحقيقة وأنه يرفض فلسفة معوجة كما الطائفية وحليفاها الإرهاب والفساد، إلا أنه من الصحيح أن تتولد في ذهنية الفرد آليات وردود فعل تنطبع في بعض مفرداتها بطابع تغلغل تلك الضغوط إلى النفس البشرية. فتربويا ينمو الطفل على وفق المنطق المعوج إياه. وتثقيفا تجري تعبئة مشحونة بالغلّ والحقد. وفكريا سياسيا واجتماعيا تجري التقسيمات بمحظورات طائفية ودينية وعنصرية...
المشكلة أنه عن غير قصد وبسبب ضعف الوعي بمعنى المصطلح وآثار هذه العبارة أو تلك يردد الأهل عبارات طائفية من نمط فلان من طائفة (الآخر) قتل فلانا من طائفتِـ ــنا وأن فلانا من دين (الآخر) قد اعتدى على فلانا من دينـ ـنا و ينمو الطفل في ظلال طقوس محددة كثرما تشير إلى الخلل في العلاقات بقصد ومن دونه وبوعي ومن دونه وبطريقة مباشرة أو أخرى عفوية غير مرئية وغير مباشرة، تظهر بالمحايثة مع تصرفات وأعمال سلوكية في حيواتنا اليومية..
كإبداء الامتعاض وتكرار الانفعال البكائي وغيره، وكما في شتم الآخر مجموعة مذهبية أو دينية أو قومية والقصد شتم فرد فيها؛ أو القصد التعبير عن تراكمات مرضية أدت لتشوش فكري نفسي بما يسمح بالاعتداء اللفظي أو غيره على الآخر من دون أية كوابح تحد من هذا التهجم غير الموضوعي. كأن يشتم ((فرد)) السنّة أو الشيعة أو الكورد أو التركمان أو الكلدان أو الأيزيدية أو المندائيين أو اليهود أو غير ذلك! وليس من عجب في أن ((فردا) يشتم ويسب جماعة بشرية تنتمي لمذهب أو لدين أو لقومية، إذا ما عرفنا حجم التخريب النفسي في العلاقات بين أبناء المجتمع الواحد بل في العلاقة بين الفرد ونفسه أو ذاته...
إذ نجد في الخراب النفسي تمزقا نفسيا روحيا وتناقضا عبر ازدواجية بل تشظيات وتمزقات ذاتية لا يستطيع الفرد كبحها أمام ضغوط تفجر ذاته واندلاع نيران نفسِ ِ منفعلة لا تقبل إقرار ما هي فيه، فكيف بنا وبعضنا يطالبها بإقرار ما للآخر من حقوق في لحظة أزموية روحيا نفسيا..
إنَّ استمرار عزف قوى العنف والطائفية على ما تبتغيه أمر سيبقى يراكم مستهدفاتت الجريمة.. وكبحه لا يأتي من منعنا الفرد من إطلاق مشاعر الغضب السلبية أي لا تأتي معالجة قضية من تناول ذيلها أو نتيجتها.. بل يأتي من عملنا الرئيس على الأس الجوهري للمشكلة بحظر حقيقي لكل ما يجسد فلسفة الطائفية والعنصرية وحليفيهما الإرهاب والفساد.. وهكذا سيكون علينا اليوم قبل الغد أن نحظر حقيقة بلا مجاملة ولا تردد كل التنظيمات التي تستند فلسفتها إلى الفكر الطائفي ودواعيه..
إنَّ فرض التقسيم الطائفي والقومي على المجتمع العراقي وتقديم هذا التقسيم على الوطني وعلى الهوية الإنسانية لجوهره سيبقى إكراها قسريا فوقيا حتى يتمكن من دواخل الأنفس فيشمل المجتمع في حال من الاحتراب ومن افتعال تضارب المصالح والمسارات.. فنصنع الأجواء والأرضية تامتين لاقتتال ما عاد صحيحا الوقوع في مكائده الإجرامية..
فمن يسب العرب أو الكورد أو التركمان أو الكلدان يعبر عن انفعال سلبي ينطلق من نفس مصابة بمرض عنصري قومي واضح.. إذ كيف يمكن لفرد أن يشتم أو يسب أو يتجاوز على أمة أو قومية أو مجموعة بشرية بأية هوية؟ وكيف لفرد أن يستخدم لغة الاحتقار والإقصاء والاستلاب للآخر ويرى في ذلك فلسفة سليمة.. أو سياسة تؤهله للعيش بسلام وهدوء وراحة بال حتى لو أخضع كل الآخرين ووضعهم حيث استغلاله ومصادرته؟
إنّ واقعنا بات يحفل بحالات (فردية) نعم، ولكنها تتزايد ويتزايد تأثيرها سلبا في محيطها لأن كل حال انفعال وغضب، سيقابلها حال مماثلة من أفراد في مجموعة الآخر وكل تطرف وتشدد يقابله مثيل له، وكل اعتداء وتجاوز سيجد ما يشابهه عند الآخر. ويوم تتسع الرقعة ويتضخم الشق سيخرج عن السيطرة ويلتهب كما الجراح الملوثة الناتئة.. وفي الأمراض الإنسانية ليس كما في الأمراض العضوية لا نستطيع البحث عن الكي والبتر في لحظة من لحظات الأزمة وتفاعلاتها..
إن وجهي المشكلة اليوم يكمنان في بعد نفسي فردي محدود وبعد اجتماعي سياسي شامل. ونحن بصدد الحديث عن تنمية التجاوز على الآخر بسكوتنا ومن ثمّ مشاطرتنا الجريمة حيثما مرت حال سباب وشتم واعتداء. تصوروا أن بعضا من ((الأفراد)) صاروا لا يستسيغون بل لا يستطيعون بناء علاقة طبيعية مع فرد من غير طيفهم المذهبي أو القومي أو الديني.. وبتنا نلمس عن قرب وبوضوح حالات عندما ترى فردا من مجموعة أخرى تعبر عن التقزز وعن الرفض وعن التفاعل السلبي..
فـ (فرد) عربي يلعن الكورد أو التركمان أو الكلدان وقد يكون (فردا) كورديا يلعن العرب أو (فردا) تركانيا يلعن العرب أو الكورد أو كلاهما وسنجد هذا الفرد (اللاعن) في كل مجموعة لكل المجموعات الأخرى قومية أو دينية.. وسنجده في حال احتقان وتشنج وتوتر بما لا يقبل بالآخر من دون سبب محدد سوى أنه مصاب بداء (مرض) اسمه المواقف النفسية المسبقة نتيجة الشحن والتعبئة السلبية ضد الآخر...
إن المشكلة بهذه الطريقة تتمكن من دواخل الأنفس عند ((أفراد)) لا ينبغي أن تتسع مساحة وجودهم لأن ذلكم مؤداه انقسام وتشظِ ِ يهيء للتناحر والاقتتال. انظر إلى المدى الذي يصل إليه الأمر العلمانيون في العراق الجديد يكتبون وينشطون لإعلاء شأن ما هو وطني إنساني ولكن أولئك ((الأفراد)) المصابين المرضى ينظرون إلى كل مقال أو بحث أو دراسة تدافع عن هذا الطيف أو ذاك من منظار وجودهم في التحليل أو عدمه وليس من منظار الحق والحقيقة والموضوعية في التناول..
فمثلا علماني مدني وطني ديموقراطي يدافع عن طيف أو مجموعة لهجمة تعرضوا لها فإنك ستجد أولئك ((الأفراد)) المرضى من غير ذاك الطيف أو الدين أو القومية ينظرون باحتقار إلى هذا الكاتب أو بتخطئته في أقل تقدير وبأنه لا يملك نظرا شموليا وسينظر إليه من ((أفراد)) من الأطياف الأخرى على أنه يتبنى مجموعة تناول أمرها دفاعا، لمصلحة خاصة مع هؤلاء.. لماذا؟ لأنه حسب أولئك الأفراد ل يمر على مجموعاتهم الدينية في موضوع من موضوعاته وكل يريد احتكاره له ومنعه من أن يشاطر غيره ويصير المسلم يريد أمرا والمسيحي يريد آخر والمندائي والأيزيدي واليهودي وكل يغني على ليلاه ولكن هؤلاء من المصابين بعدوى التشوش والتضليل ومرض الانقسام المؤذي طائفيا دينيا قوميا لا يكتفون بالغناء على ليلى خاصة بهم بل يبنون الحواجز مع الآخر ولا يرون فيه إلا طرفا مقيتا مثيرا للكراهية...
وصار مثل أولئك المرضى يكرهون سماع لغة الآخر أو غنائه أو يرون إبداعه أو عطائه الفكري أو الإنساني بعامة. وصاروا يجدون فيه الخائن الغادر بهم. وهم هنا يعممون التوصيف حتى يصير مطلقا يشمل كل من ينتمي إلى مجموعة الآخر دينا أو قومية..
وبتنا نرى ((أفرادا)) يتقززون من ظهور شخصية أو أخرى حتى لو قدَّمَت ما يتفق ورأي الفرد الذي نشير إليه وحتى لو تحدثت عن الهوايات والرغبات والتطلعات والأهداف والأساليب.. فالأمر لا يعود لمنطق عقلي يحتكم إليه الفرد المصاب المريض بفلسفة الطائفية والعنصرية، بل لإصابة جاءت عن طريق الشحن والتوتر..
ليسأل كل فرد نفسه لماذا رفض التفاعل مع هذا المقال أو ذاك التحليل؟ لماذا شتم هذا الكاتب في بحثه الأخير؟ لماذا استصغر مفكرا أو أكاديميا في جهده ومعالجته المحددة؟ وليسأل من يستخدم الشتيمة المطلقة الشاملة لمجموعة مذهبية أو دينية أو قومية: هل من منطق يقبل تجاوزه على (كل) أبناء تلك المجموعة؟ وهل بالفعل لا يوجد فرد فيها ولو من باب الاستثناء من الصالحين ممن لا يجب شتمهم والتجاوز عليهم؟
ثم ألا يدري أولئك المصابين المرضى أن من شتم يُشتم وأن من تجاوز يُتجاوز عليه وعلى مجموعته فهل يقبل؟ وإذا لم يقبل هل يجد في الأسلوب العدائي المستفز طريقا للحياة بين المجموعات الوقمية والدينية؟ وهل مؤدى هذا إلى استقرار أم إلى مزيد من الآلام والخسائر؟
لنبحث أمرنا نحن العراقيين تحديدا ولنُعمِل الفكر نقدا عقليا المنطق متنورهُ كيما نصل إلى عمقنا الوطني بجوهره الإنساني الذي لا يكتفي بتوحيدنا بل يؤمِّن الاستقرار والسلامة والتقدم والحياة الإنسانية الكريمة.. وإلا فإنه سيأتي يوم لا نستطيع السيطرة فيه على الأوضاع بخاصة ونحن اليوم نسمح لأولئك الأفراد أن يتجاوزوا على مفكرينا وعقلائنا وقادة المجتمع من غير ساسة الطائفية ومرضى العنصرية.. وغدا سيمعنوا في الأمر فيبحروا في التصفيات الدموية ولا يبقى سوى سوقة يسوسون المسيرة فهل يعقل هذا؟!
الأمر لن يبقى بحدود أننا تفسح المجال لبعض كوامن الشحن النفسي فينا فنسمح لألسنتنا أن تتلفظ بالنابي السلبي على الآخر بلا مبرر وبشمول وإطلاق له أول ولكن لن يكون له آخر غير الفوضى والمهاترات والخسران.. فلا نسمحنّ لأنفسنا أن تقبل الإصابة بأمراض العداء والاحتقان وكراهة الآخر لمجرد كونه (الآخر) دينا أو قومية! لنفتح أنفسنا ونكبح تأثيرات المرض وننأى بأنفسنا عن مثل هكذا مواقف.
أيها ((الأفراد)) من كل مجموعة دينية أو قومية في عراقنا الجديد، إنّ الآخر ليس عدوا وليس منافسا ولكنه إنسان يحمل هوية الوطن الواحد معنا منذ أول السلالات البشرية التي بنت بلادنا وشادت حضارة الإنسانية وأسست لتراثها.. وهو الشقيق الذي نحيا وإياه بتفاعل إيجابي لنبني أرضية السلام والنماء والخضرة وأجواء المحبة والألفة والإخاء الإنساني..
إنّا جميعا وُجِدنا قبائل وشعوبا فصار واجبنا للعيش أن نبني لا أن نهدم وهذا يعني أن ننشغل بالبناء لا بتأجيج الخلافات والتقاطعات ومكاره الأمور ولا بالاحتراب والاقتتال ولا بصفات التوحش وركوب سمات الغاب والهمجية..
إنّا نحن العراقيين نصحو في عراق نحن نبنيه وإلا فإن الدخلاء ومن يخترقنا اليوم يريدون إتمام مهمة الخراب والدمار فيمن تبقى سليم النفس، صحيح الفؤاد، قويم العقل، سديد الحكمة... إنّا بحاجة لوقفة مع أنفسنا ومراجعة لما فينا صار ينمو من عشبة ضارة يلزم إزالتها من حدائق أنفسنا الوارفة بإيمان بجمال التنوع وتعدد الألوان في بساتين المحبة العراقية..
لننتفض على بعض ما بات شوكة في أعيننا فلا نبصر جيدا.. لنرفض من نعرف يقينا أنه اشترى صوتا لنا في انتخابات (طائفية) السحنة.. ولنكمل مشوار العراق الجديد بصفحة جديدة ونمد ايادينا لأخوتنا العراقيين من كل الأطياف ونعلن التغيير إذ لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. ارفضوا كل فساد الأمس وخطابه المرضي وائتوا بأصحاب الأيادي البيضاء والقلوب البيضاء...
ولا تخشوا على طقوسكم الصحيحة أمرا ولا على معتقداتكم الصحيحة تهديدا في وطن يحترم الجميع أخوة يحيون بالمساواة والعدل والإخاء.. ولكن إذا لم نصحوا لأمراضنا تلك واختراق بات عدونا جميعا يسطو علينا ويصادرنا به، فلات ساعة مندم!!؟
فهل قرأ كل عراقي هذي الإشارة جيدا في نفسه.. إذن نحن الذين سيشير أصبع النصر والحياة الحرة الكريمة بثقة إلينا... مباركون جميعا بكل أطيافنا وألواننا أخوة مفلحون.